نواصل في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" إيراد أبرز الوقائع المُستجدّة المتعلقّـة بمسعى اليمين الإسرائيلي الرامي إلى تكريس هيمنته على شتى مناحي الحياة في إسرائيل بالتوازي مع محاولات فرض خطابه السياسي حيال جميع القضايا العالقة وفي مقدمها الصراع مع الفلسطينيين.
في هذا الإطار نتوقف بتوسع عند دلالة تأسيس "معهد القدس للدراسات الاستراتيجية" مع إطلاق موقعه الرسمي على الشبكة العنكبوتية في أواخر شهر تشرين الأول الفائت، وتعريف نفسه بأنه يتطلع إلى غاية إفادة دولة إسرائيل من طريق تعزيز الخطاب السياسي والأمني المحافظ فيها، عبر الأبحاث والمؤتمرات والتواصل مع أوساط حكومية وعسكرية وأكاديمية وإعلامية وجماهيرية.
وحدّد هذا المعهد المبادئ التوجيهية التي يُرسي عليها أنشطته بأنها تشمل ما يلي: العلاقة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل، كمركّب مركزي في رؤية المعهد الاستراتيجية؛ حيوية بعض المقوّمات الأمنية الأساسية في أي اتفاقيات سياسية؛ رفض أي إجراءات إسرائيلية أحادية الجانب من شأنها فقط أن تعزّز قوة الخصم؛ أهمية التعاون الاستراتيجي مع دول صديقة؛ الحفاظ على قوة إسرائيل وقدرتها على الدفاع عن نفسها بقواها الذاتية؛ أهمية "القدس الموحدة" بالنسبة إلى الأمن الإسرائيلي.
وفي ختام بطاقة التعريف المقتضبة، يشير المعهد الجديد إلى أنه "يطمح إلى إنشاء وتطوير الجيل المقبل من باحثي الأمن القومي ـ من الشبان خريجي الأكاديميا ومن الاستخبارات والجيش والسياسة الخارجية ـ على قاعدة الفكر المحافظ في الغرب وقاعدة الفكر الصهيوني".
ويتسّق مع هذا المسعى الاتساع والتصاعد المتسارعان في ساحات ولهجات الحرب الممنهجة التي يشنها اليمين الإسرائيلي على مؤسسات الدولة ومفاصلها المتعدّدة في الأعوام الأخيرة، في محاولة منه لتخويفها وثنيها عن أي مواقف وآراء تنتقد حكومات اليمين عامة، وآخر رئيس لها خاصة، أو حتى لمجرد أنها تختلف مع سياسة اليمين وتعارضها، حيث تنهال على أصحابها بالتشكيك الفوري والمباشر في انتمائهم اليهودي أو الإسرائيلي أو كليهما معاً، والتشكيك في "وطنيتهم" و"إخلاصهم"، بقصد محاصرة هذه المواقف ثم السيطرة عليها، فعلياً ومعنوياً، وإخضاعها لإرادته ونزعاته السياسية.
وتطالعون آخر الوقائع المرتبطة بهذه الحرب ضمن التقرير الموسّع المنشور على الصفحة السادسة.
ومثلما أشير في نطاق المادة حول "معهد القدس"، تشكل "القدس الكبرى الموحّدة" والسيادة الإسرائيلية عليها أحد الأعصاب المركزية في منطلقات هذا المعهد الفكرية وفي برامج عمله البحثية. ولذا فإنه فور بدء نشاطه أفرد المعهد لهذا الموضوع مجموعة من الدراسات والمداخلات نشرها على موقعه على الشبكة، وهي كفيلة بأن تقدم صورة شاملة عن الدوافع الحقيقية لإنشائه، وعن رسالته الفكرية وتوجهاته ومراميه السياسية.
فمثلاً تشير دراسة حول القدس إلى أن "هناك آراء وأفكاراً تدعو إلى تقسيم القدس وإدخال عناصر عربية إلى فضاء القدس الكبرى، وهي عناصر تفتك بالسيادة الإسرائيلية"، وتؤكد أن "هذه الأفكار والآراء ليس أنها تمسّ بمكانة القدس كعاصة لدولة إسرائيل فقط، وإنما أيضاً تعرّض مستقبل الدولة اليهودية كلها للخطر. فالقدس الكبرى هي نقطة أرخميدس للسيطرة وللمحافظة على الشروط الأمنية الضرورية في أرض إسرائيل إلى الغرب من نهر الأردن".
وبعد ذلك ينتقل كاتب الدراسة إلى تحليل مكانة "متروبولين القدس" بوصفه "العمق الاستراتيجي الحيوي للتجمع اليهودي في السهل الساحلي"، ثم لكون القدس "مفتاحاً للحدود الأمنية الآمنة في الشرق"، ثم أهمية السيطرة الإسرائيلية على "القدس الكبرى الموحدة" ودورها المركزي في سياق "محاربة الإرهاب الفلسطيني" وكمصدر رئيسي للمعلومات الاستخباراتية، ثم يعدّد ما يسميه "أفضليات سياسية للسيطرة (الإسرائيلية) على القدس الكبرى الموحدة"، ليخلص في نهاية المطاف إلى الجزم بأن "المصلحة الإسرائيلية تحتم السيطرة التامة على القدس الكبرى ومحيطها"، نظراً لما للقدس من مكانة استراتيجية تجعل "الصراع عليها يحمل في طياته إسقاطات بعيدة المدى على أمن دولة إسرائيل ومكانتها في المنطقة وفي العالم، على حدّ سواء". وبناء على هذا فإن "تطوير متروبولين القدس تحت السيطرة الإسرائيلية يشكل مهمة قومية وجودية، ذلك بأن حسم الصراع سيتم في داخل القدس نفسها وفي الغلاف المحيط ـ في صحراء يهودا من الشرق، في غوش عتصيون من الجنوب وفي منطقة بنيامين من الشمال".
وعند هذا الحدّ يعيد الكاتب إلى الأذهان أن "أهمية القدس الكبرى لضمان السيطرة على تلك المنطقة وقفت في صلب خطة ألون (يغئال ألون) التي بقي (رئيس الحكومة السابق) إسحاق رابين ملتزماً بها حتى اليوم الأخير من حياته". كما يعيد إلى الأذهان ما قاله دافيد بن غوريون في العام 1968 أنه "من دون استيطان يهودي كثيف ومتزايد في ضواحي القدس، في الشرق والشمال والجنوب، لن يحل السلام على مدينة داود (القدس)"!
ويتزامن ذكر رابين ضمن هذا السياق مع مراسم إحياء ذكرى اغتياله في مثل هذه الأيام قبل 22 عاماً. وهي المراسم نفسها التي توغل عاماً بعد عام في ما يسميه عالم الاجتماع الإسرائيلي ليف غرينبرغ بـ"محو الذاكرة السياسية" المرتبطة بمشروعه، من خلال تواطؤ حزبه أولاً وقبل أي شيء آخر، ما تسبّب بانتقال السياسة الإسرائيلية برمّتها من ناحية مواقفها إلى اليمين السياسي.
وما يحاول غرينبرغ أن يشير إليه ويؤكده على وجه الدقّة، هو أن مشروع رابين السياسي اشتمل أيضاً على عنصر تفكيك "معسكر اليمين"، في حين أن ورثته في حزب العمل و"اليسار الصهيوني" تنكروا وما زالوا لهذا العُنصر بالتحديد. ولعل ما يجب التنويه به بهذا الشأن هو أنه ما كان من الممكن انتقال السياسة الإسرائيلية من ناحية مواقفها إلى اليمين من جراء هذا التنكر فقط، وإنما بالأساس لأن ما بقي من ذلك المشروع، من ناحية جوهرية، هو ثوابت كانت في صلب السياسة الإسرائيلية التقليدية إزاء القضية الفلسطينية، وهي والحق يقال الثوابت نفسها التي يشدّد بنيامين نتنياهو صباح مساء على أنها تعبّر عن موقفه السياسي، وعن موقف أغلبية السكان الإسرائيليين.