لعل أفضل "إيجاز" يمكن لنا تقديمـه بشأن ما كانه رئيس الحكومة والدولة الإسرائيلية السابق شمعون بيريس في حياته، وبشأن ما سيكونه في الذهنية العامة، بعد مماته أخيرًا، يكمن بما صدر عنه من أقوال ومواقف، تطرقنا إلى نزر يسير منها في المادتين المنشورتين على الصفحة الثانيـة من هذا العدد.
وفي إطار هذه الكلمة سنشير كذلك إلى موقفين آخرين من شأن كل منهما أن يفي بالغرض نفسه:
الموقف الأول، ورد في سياق الكلمة التي ألقاها بيريس في مراسم انتهاء ولايته كرئيس للدولة في مقر الكنيست الإسرائيلي في تموز 2014، في ظل أجواء خيمت عليها أصداء وتداعيات الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة. ففي تلك الكلمة زعم بيريس أن غزة ليست تحت الاحتلال. وأكد أنه "لا مجال للشك في انتصارنا". وأضاف: "نحن نعي أيضًا، أنه لا يكفي تحقيق انتصار عسكري مُجرّد، فما من أمن دائم دون سلام دائم، كما أنه ما من سلام حقيقي دون أمن حقيقي. لا يجوز لنا في مساعي البحث عن السلام أن نهمل الاعتبار الأمني، كما لا يجوز لنا أن نغيّب الاعتبار السياسي في جهودنا ومساعينا لضمان الأمن".
كمّا تطرّق إلى مبادرة السلام العربية، فقال إن أي خبير لم يتوقّع أن يأتي يوم تعلن فيه جامعة الدول العربية، التي تبنت اللاءات الثلاثة لمؤتمر الخرطوم، مبادرة تلغي هذه اللاءات وتطرح عوضًا عنها خطة تقترح طريقًا للسلام، ليس فقط بين إسرائيل والفلسطينيين وإنما بين إسرائيل والدول العربية، لكن في الوقت ذاته شدّد على أنه لا يجوز قبول هذه المبادرة بحذافيرها.
بماذا يختلف هذا الموقف في العمق عن الموقف الذي يتبناه رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو؟.
عن هذا السؤال سبق أن أجاب بيريس نفسه، في سياق كلمة ألقاها خلال مراسم إحياء ذكرى زئيف جابوتنسكي التي أقيمت بعد مرور يوم على إقامة مراسم تنصيبه رئيسًا للدولة سنة 2007، وهي تتضمن الموقف الثاني الذي رغبت بالإشارة إليه في نطاق تقديم هذا الإيجاز الشديد لما كانه بيريس ولما سيكونه في أذهان الكثيرين.
ومما قاله بيريس في تلك الكلمة: "لقد حمّل التاريخ التياريْن الرئيسييْن في الحركة الصهيونية، أي الحركة العمالية ثم حركة جابوتنسكي [الصهيونية التنقيحية]، مهمَّة قيادة المشروع الصهيوني. وقد تقلّصت الفجوات العقائدية بين المعسكريْن حول كثير من القضايا لينتمي حاليًا أبناء كلا التياريْن إلى أحزاب سياسية مشتركة ويتشاركون في قيادة الدولة وهو شيء كان يستحيل تخيّله في الماضي البعيد". وخلص إلى القول: "يبدو أن الملك سليمان كان محقًا في كلامه [الوارد في سفر الجامعة من التوراة، الفصل 4، الآية 9] أن الاثنين خير من واحد".
وعن دوره في زرع المستوطنات الكولونيالية في المناطق المحتلة منذ 1967، تطالعون أيضًا في الصفحة الثانية. لكن "مساهمته" بهذا الصدد انسحبت قبل ذلك على منطقتي الجليل والنقب بحكم كون كل منهما ذات وجود عربي ديمغرافي كبير.
ففي أيلول 1955 كتب بيريس ما يلي: "إن استيطانًا يهوديًا كثيفًا في منطقتي الجليل والنقب سيشكل توازنًا جديًا عند الخطر، ليس لأن حربنا ستتركز في المستوطنات - لو تعرضنا إلى هجوم، فسنبذل كل ما في استطاعتنا كي ننقل الحرب إلى أرض العدو - بل لأن استيطانًا يهوديًا يقلل من رغبة العرب في الحرب"!.
في الواقع فإن دراسات إسرائيلية كثيرة قيّمت وتقيّم أيضًا دور بيريس في ما يسمى "عملية أوسلو" للسلام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، ولا سيما بعد اغتيال إسحاق رابين. وكان من آخر هذه الدراسات كتاب "حروب إسرائيل الجديدة- تفسير سوسيولوجي تاريخي"، من تأليف أستاذ علم الاجتماع في جامعة حيفا أوري بن إليعازر، الذي ستصدر قريبًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" الترجمة العربية الكاملة له.
ويؤكد بن إليعازر من ضمن أمور أخرى أن حادث اغتيال رابين شكّل - ووفقًا للبعض بصورة مفاجئة - نهاية ما أسماه "الصراع الداخلي" حول "عملية السلام". فقد أعلن بيريس، الذي عين رئيسًا مؤقتًا للحكومة الإسرائيلية في ليلة القتل نفسها، أنه لن يقيم أو يؤسس العلاقات مع المستوطنين ومؤيديهم على إبراز التناقض بين الطرفين، وإنما بالذات على التأكيد على ما هو مشترك. وصرح بيريس بأن مقتل رابين لن يحول دون مواصلة "عملية السلام"، لكن عوضًا عن استخدام حادث الاغتيال من أجل ضمان تقدّم هذه العملية، فضل بيريس إتباع سياسة داخلية تقوم على التسوية والحلول الوسط ولم يستجب للدعوات المطالبة بإغلاق المدارس الدينية التي تدمج بين التعليم والخدمة العسكرية، والتي كان قاتل رابين من المنتسبين إليها في السابق. وكانت لهذا التوجه الذي اتبعه بيريس ووصفه الباحث بأنه مهادن، مشيرًا إلى أنه على ما يبدو نبع من رغبته في كسب تأييد المتدينين في الانتخابات القريبة، انعكاسات بعيدة الأثر، فموقفه "المعتدل" تجاه المستوطنين مكنهم من استغلال حادث الاغتيال من أجل مهاجمة خصومهم أعضاء "اليسار"، الذين افتروا عليهم واستغلوا القتل لأغراضهم حسب ادعاء المستوطنين، كذلك فقد أتاحت الأجواء التي أشاعها بيريس للكثيرين من المتحدثين باسم المجتمع العسكريتاري والديني الادعاء بأن الاغتيال السياسي هو بلا شك أمر مرفوض في جوهره، لكن رابين هو الذي جلبه على نفسه لاستخفافه بالمستوطنين وانجراره إلى "مغامرة أوسلو"، ولأنه تسبب عمليًا في شق وحدة الشعب.
وخلص الباحث إلى أن بيريس ساهم منذ ذلك الوقت فصاعدًا في بلورة بُنية مؤسسية شجعت "الوحدة الداخلية" و"السلام الداخلي" على حساب سلام ممكن مع الفلسطينيين. وقد وجدت هذه "الوحدة" تعبيرًا لها في تمكين المستوطنين من فعل كل ما يحلو لهم تقريبًا، فيما لم تعمل دولة إسرائيل ضدهم بصورة حازمة، لأنهم اعتبروا جزءًا شرعيًا من المجتمع، وتمتعوا بتأييد شعبي واسع!.