تشهد إسرائيل منذ أكثر من أسبوع "ضجة إعلامية" تفجرّت في إثر قيام قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية ببث تحقيق اشتمل على شبهات قوية حول ارتكاب وزير السياحة الإسرائيلي السابق اللواء احتياط رحبعام زئيفي (الذي قتل على أيدي نشطاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تشرين الأول 2001) جرائم جنسية بحق نساء عملن تحت إمرتـه إبان خدمته العسكرية في قيادة الجيش الإسرائيلي، وحول ضلوعه في مخالفات جنائية أخرى، وفي قتل أسرى حرب قبل عشرات الأعوام.
وفي خضم ذلك تعالت أصوات قليلة طالبت بتجميد الفعاليات المقامة لتخليد ذكراه، في مقابل أصوات كثيرة رأت أن أعمال زئيفي وإرثه "أبلغ" من أن تعكّرها حتّى شبهات كهذه.
وكان زئيفي إلى حين مقتله أحد أبرز رموز اليمين المتطرف في إسرائيل، ودعا باستمرار إلى ترحيل الفلسطينيين عن وطنهم، ولذا خُلع عليه لقب "داعية الترانسفير".
وفي إسرائيل كان وما يزال هناك ميل عام إلى الترويج بأن سبب معاودة الحديث عن الترانسفير من طرف ساسة منتخبين في الآونة الأخيرة يعود إلى ما يُسمى "الانزياح نحو اليمين" الذي شهده المجتمع الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000 وما تسببت به مترتباتها من "ضرورة عودة الصهيونية إلى ذاتها وأصولها" كما لو أنها غادرتهمـا.
فمثلًا أشار استطلاع للرأي العام أجري سنة 2002 ضمن "مشروع الأمن القومي والرأي العام الإسرائيلي" في "مركز يافه للأبحاث الاستراتيجية" في جامعة تل أبيب (أصبح لاحقًا جزءًا من "معهد أبحاث الأمن القومي")، إلى أن مؤشرات الانزياح يمينًا تكمن ضمن أشياء أخرى في ازدياد تأييد الإسرائيليين لمشاريع حلول الترانسفير ضد الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة أو داخل تخوم "الخط الأخضر"، حيث أبدى 46 بالمئة منهم تأييدًا لتطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأبدى 31 بالمئة تأييدهم لتطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل.
غير أن الأستاذ الجامعي الإسرائيلي آشير أريـان أكد في حينه، أن هذا النمط من التفكير لدى الإسرائيليين إزاء الفلسطينيين ليس جديدًا كل الجدة، فقد سبقه استطلاع آخر للرأي العام أجري سنة 1991 من الفصيلة نفسها وأظهر أن نسبة تأييد الترانسفير ضد الفلسطينيين ليست أدنى كثيرًا، حيث أيّد 38 بالمئة من الإسرائيليين تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 24 بالمئة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل. ولفت إلى أن سبب ذلك راجع، في جانب ما، إلى أن فكرة الترانسفير متأصلة في تفكير الحركة الصهيونية، كما في ممارساتها الميدانية.
كذلك يورد الذين يعزون معاودة طرح فكرة الترانسفير إلى الوقائع التي تلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أن من مؤشرات الانزياح يمينًا دخول الحزب الإسرائيلي الذي يتبنى علنًا برنامج الترانسفير بزعامة الوزير المقتول رحبعام زئيفي كطرف فاعل في الائتلاف الحاكم الذي تزعمه أريئيل شارون سنة 2001، ما أضفى شرعية علنية على هذا الموضوع.
غير أنّ زئيفي نفسه سبق له أن أكد أنه استقى فكرة الترانسفير من الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية.
ففي واحد من مقالاته الكثيرة في هذا الشأن، وهو بعنوان "الترحيل من أجل السلام" والذي نشره في صحيفة "هآرتس" في 17 آب 1988، كتب زئيفي ما يلي:
"صحيح أنني أؤيد الترانسفير بحق عرب الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدول العربية، لكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها، مثل دافيد بن غوريون الذي قال من جملة أمور أخرى: إن أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا، وأي شك عندنا في إمكان تحقيقه، وأي تردّد من قبلنا في صوابه، قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية ("مذكرات دافيد بن غوريون"، المجلد الرابع، ص 299). كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتسنلسون وآرثر روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين".
وقبل أقوال زئيفي هذه بأكثر من ثمانية أعوام ألمح الوزير الإسرائيلي الأسبق والخبير العسكري الإستراتيجي أهارون ياريف إلى وجود "خطة جاهزة" في الأدراج الإسرائيلية الحكومية لترحيل 700 - 800 ألف عربي، حين "تنشأ الأوضاع الموضوعية لذلك".
وحرفيًا قال ياريف في محاضرة ألقاها في "الجامعة العبرية" في القدس، في 22 أيار 1980 ما يلي: "هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل ما بين 700 و800 ألف عربي... ولم تتردد هذه الآراء على ألسنة المسؤولين فحسب، وإنما أيضًا أعدت الوسائل اللازمة في سبيل تنفيذها"!
وإذا كان اعتراف زئيفي السالف بأنّ فكرة الترانسفير ليست من بنات أفكاره غير بليغ بما فيه الكفاية لإثبات عمق تغلغل الفكرة ورسوخها في منبت رؤوس حكام إسرائيل الصهاينة، فإنّ إثبات ذلك يمكن أن نستقطره من نتاجات الوعي الجديد بحقيقة هذا الأمر، والذي يكتسب يومًا بعد يوم مزيدًا من المناطق في أوساط عدد أكبر من المؤرخين والباحثين اليهود.
ولئن كان هذا الكلام يريد النفاذ إلى أشياء محدّدة فإنه يريد، أكثر شيء، توكيد خلاصة فحواها أنّ التربة الإسرائيلية على صعيدي المسؤولين السياسيين والرأي العام الشعبي سواء بسواء، لديها من الجهوزية ما يكفي لتقبل فكرة الترانسفير وعدم مضادتها، وإن من الناحية الأخلاقية على الأقل.
عند هذا الحد يكفي أن نستعيد، مرة أخرى، ما قاله زئيفي نفسه في هذا المضمار ضمن مقاله السالف ذكره:
"[... ] لقد زعموا أنّ هذه الفكرة (الترانسفير) غير أخلاقية، وبرأيي أنه ليست هناك فكرة أكثر أخلاقية منها، لأنها تحول دون وقوع الحروب وتمنح شعب إسرائيل الحياة. وإذا كانت هذه الفكرة غير أخلاقية فإنّ الصهيونية كلها وتجسيدها خلال أكثر من مئة عام هما غير أخلاقيين. إنّ مشروع الاستيطان في أرض إسرائيل وحرب الاستقلال (1948) حافلان بعمليات ترحيل العرب من قراهم. فهل كان هذا أخلاقيًا ولم يعد كذلك الآن؟".