يمكن ملاحظة أنه في مقابل تفاقم مظاهر العنصرية في إسرائيل المتغذيـة من ركام الإجراءات المنهجية التي اتخذتها وما تزال تتخذها حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة منذ العام 2009،
تزداد وتتنوّع في الآونة الأخيرة المبادرات المتعدّدة لمواجهتها على قاعدة المناهضة.
وقد ارتأينا في هذا العدد أن نشير أيضًا إلى مزيد من هذه المبادرات، على غرار كتاب "درس للحياة- التربية لمناهضة العنصرية من رياض الأطفال حتى الثانوية"، الذي صدر أخيرًا بالتعاون بين قسم التربية في "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" ومعلمات ومعلمين وأكاديميات وأكاديميين (طالع عنه ص 7)، أو "مؤشر التمثيل" الذي أطلقته جمعية "سيكوي" (الجمعية العربية- اليهودية لدعم المساواة في إسرائيل) بالتعاون مع الموقع الإلكتروني لمجلة "العين السابعة" (المتخصصة في نقد الإعلام) و"صندوق بيرل كتسنِلسون"، وهو مشروع إعلامي جديد يتابع موضوع إقصاء المجتمع العربي من الإعلام الإسرائيلي ويتم ضمنه نشر معطيات أسبوعية حول التمييز في مجال تمثيل المجتمع العربي في قنوات وبرامج التلفزة والإذاعة المركزية في إسرائيل (طالع عنه ص 8).
ويهمنا أن نشير إلى أنه في خضم هذه المبادرات يتم تأكيد أن العنصرية في إسرائيل بنيوية.
فالأديب الإسرائيلي سامي ميخائيل، رئيس "جمعية حقوق المواطن"، يتوقف في مقدمة كتاب "درس للحياة" عند سيرورتي التطوّر في ما يتعلق بمسألة العنصرية اللتين شهدتهما الولايات المتحدة وإسرائيل بصفتهما دولتين كانت فيهما منذ تأسيسهما عنصرية وفجوات اجتماعية عميقة، ويقارن فيما بينهما.
وخلال هذه المقارنة ينوّه إلى أنه فيما يخصّ قيمة المساواة، ما تزال في إسرائيل نزعة متأصلة نحو التمسّك بالنظرية التي ترى أن "الغير" أدنى. وهو يشمل ضمن هذا "الغير" كل من هو "غير يهودي" و"غير أشكنازي".
وقبل أكثر من عامين كتبت عالمة الاجتماع الإسرائيلية إيفا إيلوز مقالة مطوّلـة في صحيفة "هآرتس" حلّلت فيها بكفاءة ملفتة أسباب تحوّل إسرائيل إلى دولة عدوانية وعنصرية، خلصت فيها إلى استنتاج فحواه أن العنصرية باتت بنيوية.
وقد استهلتها بالإشارة إلى أن 800 ألف شخص شاركوا في شهر تشرين الأول 2013 في مراسم دفن الحاخام عوفاديا يوسف (الزعيم الروحي لحزب شاس والحاخام السفارادي الأكبر السابق لإسرائيل) وأثنى الساسة من كل الكتل عليه.
وقالت إنه في العام 2010، عندما كان يوسف ما يزال كما هو على مرّ أعوام طويلة، أي ماكينة سياسية فائقة القوة ذات تأثير واسع في السياسة والمجتمع في إسرائيل، تحدث في إحدى عظاته الأسبوعية عن العمل الذي يؤديه يهود وأغيار في يوم السبت، فقال: "لم يولد الأغيار إلا لخدمتنا، وتلبية حاجاتنا. وإذا لم يكن كذلك، فلا مكان لهم في العالم. (إنهم موجودون) فقط من أجل خدمة شعب إسرائيل".
وحتى تكون النقطة واضحة أكثر، أضاف يوسف: "لماذا ينبغي للأغيار أن يعيشوا؟ إنهم سيعملون، سيحرثون، سيزرعون وسيحصدون. ونحن نجلس كأفنديين ونأكل".
وتابعت إيلوز أن ملاحظات يوسف هذه يتبناها حاخامون كثر وجمهور كبير من أنصار شاس وقطاعات أخرى من المجتمع الإسرائيلي، شرقيون وأشكناز. وعدا عن الملاحظات ذاتها يجدر التوقف عند قراءة الإعجاب بيوسف وأفكاره، ومقارنته بأي بريطاني أو فرنسي أو عربي يطلق مثل هذا الكلام على اليهود وكيف كان سيثير اشمئزازنا، لكن هذا الرجل الذي أطلق الكثير من الأوصاف المثيرة ضد غير اليهود نال الجوائز والثناء والقبول الصامت أو اللامبالاة من جانب المجتمع الإسرائيلي واليهود في العالم.
وحاججت إيلوز الذين يبررون العنصرية الإسرائيلية بالقول إن العرب أو الأتراك يتعرضون أيضا للتمييز في فرنسا أو ألمانيا، وإن إسرائيل ليست أسوأ من مثل تلك الدول، وقالت: إن العنصرية التي مصدرها السكان تختلف عن العنصرية التي مصدرها قوانين الدولة (أي البنيوية). وأكدت أنه عندما يرسخ مثل هذا التناسب يسهل تسويغ العنصرية. لكن ما يتعيّن الانتباه له هو أنه بعد مأسسة العنصرية والمصادقة عليها من جانب الكيان الأقوى - الدولة- فإن القيم العامة ضد العنصرية تضعف كثيرًا. وبرأيها، بينما تبدو معارضة العنصرية وحماية حقوق الإنسان في إسرائيل كـ"مواقف يسارية متطرفة"، فإنها في الدول الليبرالية مجرد قيم أساسية مشتركة لليسار واليمين على حدّ سواء.
ويعتقد سامي ميخائيل أن التصريحات التنميطية التي يُطلقها مصممو الرأي العام ذات تأثير كبير في تجذير العنصرية في إسرائيل، وأنه ليس المروّج للعنصرية فقط مسؤول عن زرع بذور الفتنة، وإنما يشاركه في المسؤولية أولئك الذين يُنكرون وجود جريمة العنصرية.
قبل ميخائيل وإيلوز ندّد البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، في كتابه "كيف لم أعد يهوديًا؟" (صدرت ترجمته العربية عن منشورات "مركز مدار") بعنصرية إسرائيل اليهودية مؤكدًا أنه واع جيدًا لحقيقة كونه يعيش في واحد من أكثر المجتمعات عنصرية القائمة في العالم الغربي الذي تتباهى إسرائيل بالانتساب إليه.
ورأى ساند أن العنصرية موجودة في كل مكان من العالم تقريبًا، لكنها في إسرائيل غدت بنيوية بروح القوانين التي جرى ويجري سنّها، ونظرًا إلى كونها تُدرّس في جهاز التربية والتعليم، ومنتشرة في وسائل الإعلام.
وبحسب قراءته، فالأمر المروّع أكثر من أي شيء أن العنصريين في إسرائيل لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبدًا بوجوب الاعتذار.