المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 3929
  • انطوان شلحت

سارعت بعض الأوساط "الليبرالية" إلى استخلاص نتيجة جوهرية من السجال الشديد التي تشهده الحلبة السياسية الإسرائيلية في إثر تحذير نائب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش اللواء يائير غولان من مغبة ممارسات تشبه ما جرى في ألمانيا النازية، على خلفية قيام جندي إسرائيلي بإطلاق الرصاص على الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل حتى وهو جريح وممدّد على الأرض ولا يشكل خطرًا على أحد مما تسبّب بمقتله.

وتمثّـل فحوى هذه النتيجة بأن قادة الجيش الإسرائيلي باتوا "حماة الديمقراطية الإسرائيلية" و"المدافعين الأشدّاء عن القيم الأخلاقية" في مواجهة نزعات فاشية بهيمية تتسم بها أحزاب اليمين.

وبغية دحض هذا الاستخلاص نشير بعجالة إلى ما يلي:
أولًا، هذا السجال يأتي كمكمل لمسعى يقوم به رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي عامة منذ سنوات كثيرة، غايته تكريس سطوتهما على المجتمع الإسرائيلي ومنع وجود أي أصوات معارضة.

وبحقّ لاحظت صحيفة "هآرتس" ضمن أحد مقالاتها الافتتاحية بهذا الشأن، أن نتنياهو يرى أن مؤسسات الدولة كافة يجب أن تخدم هدفين: تمديد ولايته، وتعزيز الإعلام الإسرائيلي في الخارج للوقوف في وجه حركة المقاطعة ومعاداة السامية من ناحية ظاهرية، ولإخراس النقد على استمرار الاحتلال في المناطق الفلسطينية وتقويض الديمقراطية في إسرائيل من ناحية عملية.
وأكدت أن أي تعبير أو فعل يتناقض مع هذه الأهداف يُصنّف كخيانة وخطر.

وتطالعون على الصفحة الثالثة من هذا العدد مقالًا جديدًا للصحافي أمنون لورد، أحد الناطقين المفوهين بلسان اليمين الإسرائيلي والمقرّب من رئيس الحكومة، يلمّح فيه إلى أن هذا السجال مع قادة الجيش والمؤسسة الأمنية ينطوي كذلك على نزعة تأنيب لهذه المؤسسة، بموازاة اتهامها بـ"خدمة مصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط" ولا سيما في كل ما يتعلق بآخر تطورات ثورات "الربيع العربي" والاتفاق النووي مع إيران.

ثانيًا، يعكس هذا السجال بكيفية ما "صراعًا على النفوذ" داخل الجيش الإسرائيلي. وهذا ما سبق أن أشار إليه الباحث في شؤون العلاقة بين الجيش والمجتمع والسياسة في إسرائيل، المحاضر في الجامعة المفتوحة الإسرائيلية، البروفسور ياغيل ليفي، في سياق مقابلة خاصة معه ظهرت في العدد الأخير من المجلة الفصلية "قضايا إسرائيلية".

يشير ليفي من بين أمور أخرى، إلى أن حضور المتدينين اليهود في الجيش الإسرائيلي وفي قيادته ازداد بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي جعل مزيدًا من الحاخامين يتدخلون بشكل فعلي في القرارات التي يتخذها الجيش، وخصوصا تلك المتعلقة بما يحدث في الضفة الغربية وبمجرى حياة الفلسطينيين، مثل تشديد الممارسات ضدهم، وحتى الدعوة إلى تنفيذ تطهير عرقي حيالهم كما حدث خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في صيف 2014.

ويكشف ليفي أن الجيش يجري، بعيدًا عن أنظار الجمهور، مفاوضات مع حاخامين حول موضوعات عديدة، بدءا بدمج النساء في الجيش، وحتى شكل مشاركة جنود (متدينين) في إخلاء بؤر استيطانية غير قانونية.

وأوضح أن مفاوضات كهذه جرت لدى تنفيذ خطة الانفصال عن غزة وإخلاء المستوطنات من القطاع في العام 2005. وهذا الأمر ظهر بشكل علني في إفادات رئيس هيئة أركان الجيش في حينه دان حالوتس، ورئيس شعبة القوى البشرية إليعازر شطيرن. فلقد اجتمعا مع حاخامين وتحدثا معهم حول ترتيبات تأخذ بالحسبان مشاعر الجنود المتدينين. وحدث أمر مشابه عندما تعين على قوة عسكرية إخلاء حوانيت احتلها مستوطنون بالقوة في الخليل.

وبرأيه تكمن المشكلة هنا في الصلاحيات، وليس في المشاعر. فعندما قررت الحكومة أن يخدم المثليون في الجيش من دون قيود، فرضت حقائق على أرض الواقع ولم تجر أي مفاوضات خفية بهذا الأمر. لكن في المجال الديني توجد منطقة رمادية واسعة جدًا. وهناك حاخامون، قسم منهم رؤساء كليات تأهيل الشبان المتدينين (من التيار الصهيوني الديني الاستيطاني) للخدمة العسكرية، يجرون مفاوضات مع قادة الجيش، ومع ضباط في المستوى الميداني، ويحاولون فرض إرادتهم وأفكارهم.

وشدد ليفي على أن جنودًا متدينين يستشيرون حاخاميهم، وهم لا يعتبرون أنفسهم خاضعين لسلطة قادتهم العسكريين أو حتى للحاخامية العسكرية. والحاخامون يتصلون بالضباط ويحضرون إلى معسكرات الجيش. وهذا بمثابة تدخل من جانب جهة خارجية لا تستمد شرعيتها من قوانين الدولة وإنما من نصوص دينية. ولا يمكن تأطيره بأنه ممارسة تأثير ديني وإنما بأنه تغلغل جهات دينية ذات سلطة إلى داخل الجيش.

كما يرى أن تغلغل هذه الجهات الدينية ليس عفويًا، وإنما ينطوي على أجندة، في صلبها الاستعداد لمواجهة احتمال اتخاذ قرار بإخلاء مستوطنات من مناطق الضفة الغربية، والصهيونية الدينية تستعد للسيطرة على الجيش من أجل منع ذلك. وهذه خطوة إستراتيجية بكل وضوح. فالكثيرون في الصهيونية الدينية نادمون بسبب الضعف الذي أظهره هذا الجمهور خلال خطة الانفصال، ولأنهم فشلوا في لجمها برغم وجود جنود متدينين في الجيش.

وقال ليفي في مقال نشره أمس الاثنين ("هآرتس")، إن قيادة الجيش ربما تحاول من خلال نائب رئيس الأركان كبح نفوذ هذه الجهات الدينية الخارجية، لكنه في الوقت عينه جزم بأن هذا التحرّك يأتي بتأخير كبير.

ثمة مسألة أخرى (بالتأكيد ليست أخيرة) يجب التطرّق إليها في هذا الصدد، وهي أن تحذير غولان من مغبة ممارسات تشبه ما جرى في ألمانيا النازية، يضفي في العُمـق الشرعية على ممارسات أخرى ليست أقل شدّة وفداحـةً يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.

وكثيرة هي الحالات التي انساق فيها إسرائيليون، بمن فيهم أصحاب مواقف "ليبرالية"، وراء إضفاء شرعية على ممارسات الجيش هذه تحت غطاء التحفّـظ من الممارسات التي حذّر غولان من مغبتها. وبذا ضمن الجيش شرعية لممارسات مثل حصار القرى والبلدات، ونصب حواجز عسكرية، وإطلاق الرصاص اليومي على المتظاهرين، والتصديق على جرائم القتل بدم بارد.

ولا ننسى أيضًا أنه بموازاة ذلك ما تزال تتواتر مناشدة الفلسطينيين بتسوية الصراع "لكن ليس بالعنف"، بما يعنيه ذلك من وقوف واع وراء "شرعية" العسكري الذي يقوم بكل ما يقوم به لأن "الفلسطينيين عنيفون"!.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات