المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
صورة مدمجة لترامب ونتنياهو. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 364
  • أنطوان شلحت

شهدت الفترة القليلة الفائتة تطوّرين لا بُدّ من التوقف عندهما نظراً إلى ما ينطويان عليه من تداعيات قد تؤثر في مستقبل الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة ولبنان، وتتسبّب باستمرار المواجهات في جبهات أخرى، وباحتمال التصعيد مع إيران. التطوّر الأول انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والتطوّر الثاني قيام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت. ويمكن مقاربة هذين التطورين من زوايا متعدّدة، ولكن سنقتصر هنا على الزاوية المتعلقة برؤية نتنياهو لهما، سواء على مستوى التوقعات، أو على مستوى التمنيات.

(1)

بالنسبة إلى انتخاب ترامب، فإن أول ما يمكن ملاحظته هو أن نتنياهو والأوساط المقربة منه غمرهم الفرح باستعادة ترامب مفاتيح البيت الأبيض. وأيّ محاولة للاقتراب من أساس هذا الفرح تقتضي أن نضعه ضمن إطار محدّد، وهو ما تشترك في بنائه مجموعة من التحليلات. ويُشار في البداية، وقبل أي شيء، إلى أن نتنياهو وترامب يتبنيان أفكاراً انعزالية قومية، وكراهية للأجانب، وإعجاباً بالأثرياء، واحتقاراً للمؤسسات والقواعد والقوانين. وبالنسبة إليهما، الضوابط والتوازنات ليست لهما بل لغيرهما، ويجب أن تكون سلطتهما من دون أي كوابح. أيضاً يجب أن يعمل الوزراء والموظفون بحسب مشيئتهما، وإلّا يُصار إلى استبدالهما. وبحسب مقال افتتاحي في صحيفة "هآرتس" (8/11/2024) نجح ترامب ونتنياهو في تحويل أحزاب سياسية، ذات تقاليد وبرنامج وآلية عمل، إلى مُجرّد مشروع لعبادة الشخص. ويخوض الاثنان حملات إعلامية لا تنتهي، ويحاولان استغلال الإعلام من أجل مصالحهما. واليمين الإسرائيلي تبدو حاله كحال اليمين الأوروبي، يتعاطف مع المحافظين الأميركيين ويعتبرهم حلفاء أيديولوجيين له، ولكن تأييد ترامب له دافع خاص لدى اليمين الإسرائيلي بشكل عام، وهو التوقعات بأن يسمح لإسرائيل بضم الأراضي المحتلة منذ العام 1967 والقضاء على الحركة الوطنية الفلسطينية. ففي ولايته السابقة، قطع ترامب شوطاً طويلاً نحو هذا الهدف، من خلال نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وإغلاق القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، والاعتراف بضمّ هضبة الجولان، ودعم قانونية المستوطنات، ولكنه أوقف نتنياهو قبل لحظة من الضمّ الرسمي لأجزاء من الضفة الغربية. كما امتازت الولاية الأولى لترامب بعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل ودول الخليج العربيّ، وخصوصاً السعودية والإمارات العربية المتحدة، ووصلت إلى ذروتها مع "اتفاقيات أبراهام" التي نصّت على تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربيّة. وشمل تأييد ترامب لإسرائيل، بالإضافة إلى ما ذكرناه، الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، واغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني. وعلى هذه الخلفية، لم يكن من المستغرب أن تُظهر استطلاعات الرأي العام التي أُجريت قبل الانتخابات تفضيل أغلبية الإسرائيليين ترامب على مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس.

ما تؤكد عليه الأوساط المقربة من نتنياهو بعد انتخاب ترامب، كما عبّر عنها مثلاً الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي مئير بن شبات، أنه كي تتمكن إسرائيل من إنهاء "مهمتها" في قطاع غزة على وجه السرعة، مطلوب أولاً وقبل أي شيء إزالة ما يصفها بأنها "أثقال" وضعتها واشنطن على أقدامها. وهي أثقال تتعلق، في رأيه، بشدّة القتال، وبكمية وطريقة توزيع المساعدات الإنسانية، وترحيل كل السكان إلى مناطق آمنة في أرجاء القطاع. وستسمح هذه المقاربة، كما يشدّد، بمعالجة أكثر جذرية وسريعة لقدرات بقاء حركة حماس، وستنزع منها سيطرتها على المقدرات الضرورية للسكان، وستزيد الضغط على زعمائها لعقد صفقة تبادل الأسرى. كما أن هذا هو الأساس لكل بحث بالنسبة لـ "اليوم التالي" للحرب ("يسرائيل هيوم"، 8/11/2024). وتعتبر هذه الأوساط نفسها أن التحدي المركزي هو الصراع ضد إيران، بما في ذلك ضد حزب الله في لبنان. وبموجب قراءة بن شبات فإن ما يصفه بـ"مغازلة إدارة بايدن الإيرانيينَ" زادت جرأتهم، وأضعفت مكانة الولايات المتحدة في المنطقة كلها. ففي طهران، فسروا هذه السياسة بأنها ضعف وبوليصة تأمين لعدم استخدام القوة ضدها، وهو ضعف يستدعي الشر. وفي ضوء ذلك فهو يؤكد أن إيران ليست فقط مشكلة إسرائيل، ولا مشكلة منطقة الشرق الأوسط فقط، بل هي تهديد للسلام والاستقرار في العالم كله، وهجمات الصواريخ على إسرائيل وفرت تجسيداً لذلك. ولا يتطلب الأمر خيالاً مجنحاً من أجل فهم كيف سيبدو الارتباط بين الصواريخ الإيرانية الحديثة والسلاح النووي. كما تعرّف العالم على هذا الخطر أيضاً عبر المساعدة الإيرانية في حرب روسيا في أوكرانيا، وتفعيل شبكة المنظمات الوكيلة، ونشر السلاح الإيراني عبر نموذج يوفر الكثير وبثمن بخس. والخلاصة التي يتم التوصل إليها الآن بعد انتخاب ترامب فحواها أن على الولايات المتحدة أن تقود معالجة إيران، بمشاركة حلفائها وليس فقط في الجانب النووي بل أيضاً في جوانب أخرى وهي نشر السلاح، وتفعيل جهات جبهوية، وتحريك "الإرهاب". وحان الوقت لسحق النموذج الإيراني الذي يكون فيه المُرسل معفى من أفعال الرسول. والصراع ضد خطط إيران لا يمكنه أن يتأجل، والجهود الدبلوماسية لن تلجم الوحش. ولعلّ بيت القصيد في سيناريو بن شبات هو قوله إن تحالفاً إقليمياً للدفاع في وجه إيران يُعدّ خطوة مهمة، ولكنه لا يكفي. والمطلوب معركة أوسع وأعمق تدمج جهوداً سياسية وعسكرية واقتصادية، بقيادة الولايات المتحدة، وتؤدي إسرائيل فيها دورها.

مع ذلك ينبغي أن نسجّل أن هناك إجماعاً في إسرائيل على أن ترامب هو شخص متقلب وغير متوقَّع، وعلى أنه في ما يتعلق بالعلاقة بين ترامب والمنظومة الدولية فإن عدم وجود مبدأ ناظم يترك أسئلة أكثر من الأجوبة (ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، 6/11/2024). وثمة من تقصّد التركيز على أن نتنياهو يمكن أن يدفع أيضاً ثمن هذا التقلب إذا لم يتصرّف كما يتوقع منه ترامب. وبناء على ذلك، ما زال من المبكّر جدّاً التكهن بسياسة ترامب الخارجية في هذه المرحلة. وذهب أستاذ الاقتصاد في جامعة تل أبيب، البروفسور عيران ياشيف، الذي كان مسؤولاً عن برنامج الاقتصاد والأمن في "معهد أبحاث الأمن القومي"، أبعد من ذلك حيث يشير إلى أنه ليس لدى ترامب أيّ التزامات إزاء نتنياهو. فلقد حقد ترامب على نتنياهو بسبب علاقته بجو بايدن. والآن، بعد أن تحرّر من اعتبارات الانتخابات، لم تعد هناك أيّ أهمية للوعود الانتخابية، وفي جميع الأحوال، لن يُنتخب ترامب لولاية ثالثة ("هآرتس"، 6/11/2024). في التحصيل الأخير، وكما أكد المحللان العسكريان عاموس هرئيل ويوسي ميلمان من صحيفة "هآرتس"، فإن سِجل ترامب في الشأن الإسرائيلي معقد أكثر مما يتذكره البعض. ولذا، يأتي المديح والثناء في غير أوانهما الآن. وسيهتم ترامب أولاً بمصالحه، وهذه المصالح قد لا تتماشى دائماً مع توقعات ائتلاف نتنياهو. كذلك يتم التنويه بأن الرئيس المنتخب أكد أنه يفضل "انتهاء الحروب قبل دخوله إلى البيت الأبيض" في 20 كانون الثاني 2025.

(2)

إذا ما انتقلنا إلى قرار نتنياهو إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت يوم 5 تشرين الثاني الحالي وتعيين وزير الخارجية يسرائيل كاتس بدلاً منه، فأول ما يتعيّن قوله أن هذه الخطوة ليست عصيّة على السبر. ومن أجل إدراك سبب الإقالة يكفي الاستماع إلى غالانت، الذي أرجعه إلى ما يلي: معارضته محاولات نتنياهو تمرير قانون تمويل التهرب من التجنيد لأسباب سياسية بحتة؛ إصراره على التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى؛ دعوته إلى تشكيل لجنة تحقيق حكومية في أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر. 

ووفقاً لمعظم التحليلات في إسرائيل أظهرت إقالة غالانت أن أكثر ما يركّز عليه نتنياهو هو "ضمان بقائه السياسي وتدمير ما تبقى من أنظمة الضوابط والتوازنات التي من شأنها أن تمنع تحوّل نظام الحكم في إسرائيل إلى نظام ديكتاتوري"، على حد تعبير اللواء في الاحتياط عاموس يدلين، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") و"معهد أبحاث الأمن القومي" (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 7/11/2024).

وتؤكد ليان فولك- دافيد، وهي مستشارة استراتيجية عملت سابقاً مستشارة في ديوان رئاسة الحكومة ومجلس الأمن القومي وطاقم المفاوضات مع الفلسطينيين، أن هناك ثلاثة خلافات أساسية بين غالانت وبين نتنياهو: غالانت يدافع عن مصالح وطنية، بينما يدافع نتنياهو عن مصالح شخصية. غالانت يوجّه التحية إلى الذين يخدمون في الجيش، بينما يدافع نتنياهو عن المتهربين من الخدمة العسكرية (اليهود الحريديم). غالانت مصرّ على إعادة المخطوفين الإسرائيليين، بينما يتخلى نتنياهو عنهم من أجل الاستمرار في حرب لا نهاية لها في غزة. غالانت يقاتل من أجل تشكيل لجنة تحقيق رسمية وتقصّي الحقيقة، بينما نتنياهو مشغول بطمسها. وتخلص إلى القول: "لم تكن الصورة حادّة إلى هذه الدرجة من ذي قبل، الدولة تناضل من أجل وجودها، ونتنياهو يقاتل من أجل بقائه رئيساً للحكومة" (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 6/11/2024).

وفي ما يخص راهن الحرب ومستقبلها قال غالانت، خلال لقاء عقده مع عائلات المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة غداة إقالته، إن الاعتبارات التي تحكم التوصّل إلى اتفاق تبادُل أسرى ليست عسكرية، ولا سياسية، وشدّد على أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو هو وحده مَن يقرّر بشأن ذلك، كما لفت إلى أن البقاء في محور فيلادلفيا الحدودي بين مصر وقطاع غزة لم يكن ضرورياً، وأن الجيش الإسرائيلي كان في وسعه العودة إلى هناك بعد إبرام اتفاق.

ويعتقد المحلل العسكري رون بن يشاي أن النتيجة الفورية والأهم لإقالة غالانت هي أن بنيامين نتنياهو لم يعد فقط رئيس الحكومة بل أصبح هو أيضاً وزير الدفاع. وفي الواقع، ومن الآن فصاعدًا، سيكون نتنياهو هو صاحب الكلمة الفصل في مسائل الدفاع التكتيكية والنظامية والاستراتيجية. صحيح أن وزير الدفاع يسرائيل كاتس، الذي تم تعيينه وزيراً الدفاع، قد حلّ محل غالانت لكنه لا يشكل سلطة أمنية أمام مَن هم فوقه، أي نتنياهو، ولا أمام مرؤوسيه، أي كبار ضباط الجيش الإسرائيلي والجيش بأكمله. وما يمكن فهمه، من خلال ملاحظة سلوك كاتس السياسي، أن دوره لن يعدو كونه منفّذاً لأوامر نتنياهو، وأنه لن يؤدي أكثر من دور مشرف ينوب عنه في متابعة المنظومة الأمنية وخاصة كبار ضباطها: رئيس هيئة الأركان العامة هرتسي هليفي، ورئيس جهاز الأمن العام ("الشاباك") رونين بار، ورئيس جهاز الموساد ديفيد بارنياع، الذين لا يتفقون دائماً مع نتنياهو، وخصوصاً في القضايا المتعلقة بالأسرى وإدارة الحرب في غزة ("يديعوت أحرونوت"، 6/11/2024). وهو ما يؤكده أيضاً عاموس هرئيل الذي كتب يقول: لا يُتوقع من يسرائيل كاتس، في وزارة الدفاع، عرقلة الخطط الجذرية التي يسعى نتنياهو لتنفيذها. وكاتس لن يدعم رئيس هيئة الأركان العامة هرتسي هليفي، أو كبار ضباط الجيش، ورئيس جهاز "الشاباك" رونين بار، عندما يواصل نتنياهو جهوده لتحميلهم المسؤولية الكاملة عن إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ("هآرتس"، 7/11/2024).

يمكن القول إن أهميّة هذه القراءات تتمثل، في تقديري، في كونها تتيح لنا اكتشاف المآرب الواقفة وراء قيام نتنياهو بإقالة غالانت، والتي تشكّل بذات الوقت مصادر إصراره على إطالة أمد الحرب وربما توسيعها أكثر فأكثر.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات