مقدمة
منذ هجوم "طوفان الأقصى" صبيحة السابع من أكتوبر المنصرم، سيطرت فرضية "انهيار التصور" الذي كان قائمًا ما قبل السابع من أكتوبر على كتابات ونقاشات السواد الأعظم من المحللين والنخب الإعلامية والسياسية المناهضة لبنيامين نتنياهو، وبحسب هذه الفرضية، فإن ملابسات الهجوم لا تُعبّر عن فشل استخباري وأمني فقط، وإنما عن فشل وانهيار كامل لـ "التصور" الأمني- السياسي الذي وضعه وأرسى أسسه المركزية نتنياهو بهدف منع إقامة دولة فلسطينية، والاستمرار في إدارة الصراع وليس حلّه (حل الصراع) أو حسمه. هذا "التصور" الذي سبق أن تم تسليط الضوء عليه في مساهمات سابقة نشرها مركز "مدار"، كان يقضي بضرورة إضعاف السلطة الفلسطينية (مع الإبقاء عليها حيّة لكن ليست قوية)، مقابل تقوية حركة حماس (مع توجيه ضربات عسكرية من خلال ما يُعرف بالحرب بين الحروب لمنع تعاظم قدراتها العسكرية).
في هذه المقالة (الخامسة في هذه السلسلة) نواصل عرض المفاهيم المركزية الأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي تُجمع قطاعات واسعة جداً في المجتمع الإسرائيلي على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، ويوماً بعد يوم تتسع وتتعالى دائرة الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيها، بعد الاجتهاد بداية في تحديدها بصورة عينية ودقيقة، انطلاقاً من القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.
تشير كل التقديرات بشأن الاقتصاد الإسرائيلي - سواء أكانت صادرة عن مؤسسات رسمية أم عالمية- إلى أن الاقتصاد بات يغوص في حالة ركود، في العامين الجاري والمقبل 2024، إلا أن تقارير عالمية تؤكد أن هذا الاقتصاد يزحف نحو حالة انكماش محدود، ومستوى المعيشة في حالة تردٍ، في حين أن البنوك التجارية الإسرائيلية باتت تستعد لموجة حالات إفلاس، بسبب اتساع ظاهرة عدم القدرة على تسديد الديون والاعتمادات المالية. كل هذا هو بمثابة انعكاس مباشر للحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وانعكست في شل قطاعات اقتصادية حيوية، وضربت الاستهلاك الفردي والعام في السوق الإسرائيلية.
يوفال كاستلمان، محام إسرائيلي خدم سابقا في شرطة حرس الحدود. مع بداية الحرب على قطاع غزة انضم إلى قوات الاحتياط الإسرائيلي للمشاركة في الحرب، وبعد فترة قصيرة تم تسريحه ليعود ويزاول مهنته. في تاريخ 30 تشرين الثاني 2023، وقعت عملية إطلاق نار نفذها شابان من قرية صور باهر في القدس. كان كاستلمان متواجدا في موقع العملية واقترب من سيارة المنفذين، وأطلق النار على الشابين مما أدى إلى استشهادهما. في اللحظة نفسها، وصل أفيعاد فريجا، وهو مستوطن وجندي احتياط مسلح، وظنّ بأن كاستلمان (الذي قتل المنفذين الفلسطينيين) هو واحد من منفذي العملية. رفع فريجا السلاح في اتجاه كاستلمان وأطلق عليه رصاصة ما أدى إلى سقوطه على ركبتيه. وألقى كاستلمان سلاحه، ورفع يديه أمام الجندي فريجا، وخلع سترته ليظهر أنه غير مسلح، وألقى محفظته على الأرض حتى يتمكن فريجا من رؤية بطاقة هويته الإسرائيلية. لكن فريجا اقترب منه، وأطلق عليه عدة رصاصات إضافية أسفرت عن مقتله.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في إثر الهجوم الذي قامت به حركة حماس على مواقع عسكرية وعلى ما يعرف باسم "غلاف غزة" في المنطقة الجنوبيّة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ارتفعت أصوات عدد من الكُتّاب والمحلّلين الإسرائيليين الذين على الرغم من أجواء التعبئة العامة المؤيدة للحرب أعربوا عن مواقف أقلّها أنه على الرغم من الظرفيّة التي توجد فيها إسرائيل فإنها لا يمكنها الاستمرار في تجاهل القضية الفلسطينية، وأن حقيقة أنها من كبرى الدول الحربيّة التي تمتلك ترسانة عسكرية تُعدّ من الأقوى في منطقة الشرق الأوسط وليس فيها فحسب، لن تسعفها لا في دفن هذه القضية ولا في مواصلة التسويف في إيجاد حلّ عادل لها.
الصفحة 46 من 336