المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1146
  • هشام نفاع

منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي جاءت في أعقاب هجوم حماس على جنوب إسرائيل يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تمّ وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على المشرحة. هذا الأمر آخذ بالتصاعد في الأيام الأخيرة.

من أبرز من تصدّى لذلك، في الأيام القليلة الفائتة، مالك صحيفة "هآرتس"، عاموس شوكن، الذي نشر قبل عدة أيام مقالاً أكّد في مستهله أنه سوف يجري تذكّر بنيامين نتنياهو على أنه أسوأ رئيس حكومة؛ فقد فشل في منع التسلح النووي الإيراني وتصرف بغطرسة ضد الرئيس الأميركي باراك أوباما، بدلاً من مساعدته، وربما التوصل معه إلى اتفاق أفضل. ولقد أقنع دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق من دون توفير بديل، وتسبب في تقليص المسافة الفارقة بين إيران والسلاح النووي مما عزّز مكانتها الدولية. بالنسبة لمواطني إسرائيل، فإنه زعيم يدبّ الخلاف والانقسام وليس زعيماً يوحّد المجتمع. وإن "قانون القومية" الفاشي الذي دفع لإقراره العام 2018، يشكل إضراراً خطيراً بخُمس المواطنين. وفي الآونة الأخيرة، اعتمدت إسرائيل على الجنود المقاتلين الدروز والبدو والعرب في مهن المجال الطبي في المستشفيات. لكن لم يخجل نتنياهو من معاملتهم كمواطنين بمستوى متدنٍّ.

وأضاف شوكن أن نتنياهو فشل في سياسته تجاه الفلسطينيين، فدعمه لحركة حماس فقط لتفادي إجراء مفاوضات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس حول إقامة دولة فلسطينية، قد أدى إلى كارثة السابع من أكتوبر. ولا يمكنه تحرير نفسه من هذا الفشل. ونتنياهو يعتبر نفسه أيضاً زعيماً للشعب اليهودي، لكنه تسبّب بأضرار لم يسبق أن تسبب بها أحد. ويمكن لكل شاب في العالم أن يشاهد في التيك توك كيف تسوّي إسرائيل غزة بالأرض وتقتل بقصفها الآلاف، بمن في ذلك النساء والأطفال والمسنون. يمكن رؤية النتائج في حرم الجامعات. ولقد أدت سياسة إسرائيل تحت زعامة نتنياهو إلى تقوية اللاسامية في العالم، لكن هذا لا يهمه على ما يبدو.

وأشار شوكن إلى أن نتنياهو قاد هذه السنة انقلاباً هدفه تدمير استقلالية جهاز القضاء الإسرائيلي وقدرته على حماية الجمهور ونقد الحكومة. لقد تعرضت المحكمة العليا للهجوم لأن وجودها ألزم الحكومات بالتصرف بشكل معقول وتقديم الخدمات ليس لنفسها بل للجمهور. ربما لم يعد هذا مقبولاً على نتنياهو. فهو لم يهتم بأن الملايين تظاهروا ضده على امتداد تسعة أشهر، وبأن وزير العدل ياريف ليفين قد أوضح أن خطة الإصلاح ستعود بعد الحرب.

ورأى مالك "هآرتس" أن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي عارض الانقلاب القضائي، تجنّد بعد 7 أكتوبر بقوة لصالح إسرائيل، وعرّض بذلك قدرته على إعادة انتخابه للخطر وقد يدفع ثمناً انتخابياً بسبب دعمه لإسرائيل، التي بات ينظر إليها ناخبون ديمقراطيون محتملون كدولة يُحظر دعمها بسبب نظام الأبارتهايد والقوة الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، ومن المهم بالنسبة لإسرائيل والعالم أن يُعاد انتخاب بايدن.  لذا يوجد تحرّك واحد يجدر بنتنياهو أن يأخذه في الاعتبار، بحسب ما يؤكد شوكن، وهو الإعلان عن قبوله لموقف بايدن وموافقته على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، واتخاذ إجراءات عملية نشطة لتحقيق ذلك مع السلطة الفلسطينية. وبرأيه إذا ما حدث ذلك، ستتحسن صورة إسرائيل على نحو ملحوظ.

بطبيعة الحال سيستمر هذا التوجّه حيال نتنياهو في الفترة المقبلة، وستكون هناك فرص أخرى لتسليط الضوء على هذا الموضوع، خصوصاً أن تناوله غير مقتصر على التحليلات الصحافيّة السريعة بل بدأ يتعدّى ذلك إلى الدرس والتدقيق، مثلما تمثّل على ذلك مقالة نشرها الباحث أفيتار أورن في موقع "تيلم"، الذي يعرّف نفسه بأنه منصة للحوار السياسي، ووصف فيه نتنياهو بأنه "المفكّك الأكبر"،؛ الشخص الذي تشبه شهوته للسلطة "ثقباً أسود ابتلع كل شيء من حوله، حتى كاد أن يبتلع دولة بأكملها"!

وبرأي هذا الباحث، إذا كانت الحرب الحالية في قطاع غزة هي الفصل الأخير في مسيرة نتنياهو السياسية، فإن العديد من الإسرائيلين يشعرون هذه الأيام بالتزام أخلاقي لضمان أن تكون فعلاً كذلك، وسيكون من الممكن كتابة سيرة هذه التجربة حول مبدأ التفكيك المذكور أكثر من أي شيء غيره. وهو يشير إلى أن احتفاظ نتنياهو بالسلطة أعواماً طويلة ـ على الرغم من كثرة الإخفاقات والفضائح وقلة الإنجازات المهمة على مر الأعوام، باستثناء قدرته المدهشة على إعادة انتخابه ـ نجح بواسطة آلية واحدة وبسيطة للغاية، هي آلية نفسيّة، تقوم على زرع الخوف وفي الوقت نفسه بناء صورته كشخصية أب قوية موثوقة، وقادرة بقواها الشخصية الخارقة على حماية الدولة من التهديدات الماثلة أمامها ومن أعدائها.

ويكتب أورن: إن الرسالة التي ظل نتنياهو ينقلها وحدها بمنهجية إلى أنصاره لسنوات هي بإيجاز: أنتم معي في أمان، وبدوني إلى ضياع. إن شعب إسرائيل على بعد خطوة واحدة من هولوكوست ثان، الأخطار الوجودية محدقة به دائما، ووحده نتنياهو الذي يقف سداً في وجه السيل. لهذا الغرض، أبقى على مر الأعوام على أعداء يبثون الرعب في أوساط الجمهور الإسرائيلي العريض، مثل إيران وحماس.

ويعرب أورن عن اعتقاده بأن تحوّل نتنياهو إلى زعيم خطر ومنحلّ كان تدريجياً وليس خاطفاً. كما أن رسائله السياسية - الثيولوجية تعززت بقوة على مر السنوات بفضل سيطرته التي لم يكن مثيل لها على وسائل الإعلام الجماهيرية، ومن خلال القضاء المنهجي على أي شخص وأي شيء قد يهدّد صورته الأبوية المهابة أو يجعلها فائضة عن الحاجة. ولقد قيل وكُتب الكثير عن المنهجية التي قضى بواسطتها نتنياهو سياسياً على خصومه في الداخل والخارج، فقد جزّ رؤوس المعارضين المحتملين في حزب الليكود ودفع إلى عزلهم أو نفيهم من الحزب (ومنهم أفيغدور ليبرمان، وجدعون ساعر، وموشيه كحلون)، وحرص على إحاطة نفسه وملأ قيادة حزبه بشخصيات وضيعة صاغرة ومتملقة لا تهدّد تفوقه الحصري. وبالمثل، قام نتنياهو بالقضاء المنهجي على خصومه السياسيين في الوسط واليسار الصهيوني، بواسطة اغتيال شخصياتهم وعرضهم كجبناء وضعفاء ومهزوزين.

لكن نتنياهو لم يكتف بتصفية المعارضين فقط، كما يكتب أورن، بل قام بتصفية مؤسسات وبنى تحتية وأنظمة وآليات، وأدى إلى تآكل عميق في ثقة الجمهور بكل هذه الأجهزة: جهاز الأمن، وجهاز القضاء، ووسائل الإعلام المستقلة، والمجتمع المدني، وجهاز الرفاه والخدمات الاجتماعية، وقطاع الخدمات العامة، والشرطة، ورقابة الدولة، وجهاز الصحة، وكذلك الكنيست كمؤسسة مستقلة. ويصعب على المرء التفكير في مؤسسة عامة واحدة لم يقم نتنياهو بإضعافها بشكل منهجي في العقود الثلاثة الماضية.

وفي ما يخص المجال الأمني، يكتب أورن أنه كان متعارفاً عليه القول في غالبية السنوات إن نتنياهو محافظ للغاية - يتجنب المغامرات التي من شأنها أن تكلف الجمهور الإسرائيلي ثمناً باهظاً (والأخطر من ذلك، ثمناً سياسياً باهظاً للغاية بالنسبة له)، وأنه يعمل بطريقة محسوبة للحفاظ على الوضع القائم قدر الإمكان - حتى على حساب إيجاد حل أساسي، سياسي أو عسكري للمشاكل الجوهرية، "أما الآن فقد سقط علينا الإدراك بأن أسلوب التعامل الإسرائيلي مع حماس كان على الدوام لعباً بالنار".

وبموجب ما يشير الباحث، فإن السياسة التي انتهجها نتنياهو في الساحتين الفلسطينية والإيرانية طوال فترة ولايته تندرج تماماً في هذا القالب المطروح. فلقد حاول نتنياهو طوال حياته منع التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، لأنه في غياب صراع أو تهديد أمني دائم، ستقلّ الحاجة إليه كزعيم قوي. وإن التوجه المتمثل في تعزيز حماس وإضعاف السلطة الفلسطينية، الذي روّج له نتنياهو بمنهجية على امتداد العقد الماضي، هو التعبير الواضح عن ذلك. كذلك فإن معارضة نتنياهو للاتفاق النووي مع إيران تهدف إلى الإبقاء على المواجهة معها، هذا على النقيض من موقف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي اعتقدت أن الاتفاق سيبعد التهديد الإيراني سنواتٍ طويلة وسيحرر موارد لصالح التعاطي مع مشاكل أخرى.

وختم أورن قائلاً إنه في أحداث "غلاف غزة" يوم 7 أكتوبر وصلت نزعة إضعاف الأجهزة والمؤسسات إلى مستويات مروعة، لدرجة أنه لم يستطع حتى أشد منتقدي نتنياهو تخيّلها، فالقيادة قادت إسرائيل بعيون مفتوحة إلى هذه "الكارثة"، والجيش الإسرائيلي خيّب الظن والأمل – سواء من ناحية استخباراتية (توقع هجوم حماس المفاجئ ومدى قوته) ومن ناحية عملياتية (في الاستعداد والوصول سريعاً إلى حلبات الأحداث). كما أن المنظومات العامة، التي من المفترض أن تعمل في أوقات الطوارئ، فشلت فشلاً ذريعاً في الأيام الأولى على الأقل، إذ فشلت في تلبية احتياجات الناجين، والتواصل مع أهالي المفقودين والمختطفين والقتلى، وتقديم تعويضات سريعة لمن يحتاجون إليها. كما أن الوزارات الحكومية تفشل في عملها. وهذه الفوضى، من أولها إلى آخرها، هي صنيعة يدي نتنياهو، الذي كان دائماً يبني على أن يكون الوضع مخيفاً بدرجة كافية لجعل الجمهور في حاجة إليه، لكن ليس سيئاً لدرجة أن يضطر إلى إثبات قواه الخارقة وأن يُنظر إليه كمسؤول عن الكارثة. والآن فات الأوان بالفعل.

ويخلص الباحث إلى الاستنتاج الآتي: "إن الكارثة الحالية هي أولاً وقبل كل شيء أمنية، لكن انعدام أداء كافة الأجهزة في إدارة الدولة في أزمة تصرخ إلى السماء، يزيد من الضائقة والعجز. هذا التفكك ليس نتاجاً ثانوياً مرافقاً غير مرغوب فيه أو ضرراً جانبياً لعمل نتنياهو، بل هو العمل نفسه. ومن الصعب أن نفكر في الأجهزة التي تمت رعايتها في عهده، فيما عدا اليمين المتطرف في إسرائيل وحماس. هذا هو إرثه، وهكذا تمكن من أن يُنتخب عدداً من المرات أكثر من أي رئيس حكومة آخر وأن يحكم فترةً أطول من أي رئيس حكومة آخر. أن يُنتخب لكي يُنتخب، وأن يحكم لكي يحكم".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات