تشير كل التقديرات بشأن الاقتصاد الإسرائيلي - سواء أكانت صادرة عن مؤسسات رسمية أم عالمية- إلى أن الاقتصاد بات يغوص في حالة ركود، في العامين الجاري والمقبل 2024، إلا أن تقارير عالمية تؤكد أن هذا الاقتصاد يزحف نحو حالة انكماش محدود، ومستوى المعيشة في حالة تردٍ، في حين أن البنوك التجارية الإسرائيلية باتت تستعد لموجة حالات إفلاس، بسبب اتساع ظاهرة عدم القدرة على تسديد الديون والاعتمادات المالية. كل هذا هو بمثابة انعكاس مباشر للحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وانعكست في شل قطاعات اقتصادية حيوية، وضربت الاستهلاك الفردي والعام في السوق الإسرائيلية.
ففي التقرير الدوري، الصادر في الأسبوع الماضي، خفّض بنك إسرائيل المركزي تقديراته للنمو الاقتصادي، لتصبح بنسبة 2% في كل واحد من العامين الجاري والمقبل 2024، وهذه تعد نسبة ركود، نظرا لتساويها مع نسبة التكاثر السكاني، لكن في قراءة أخرى يظهر أن الربع الأخير الحالي من العام الجاري 2023، سيغرق الاقتصاد في حالة انكماش واضح، يختزل نسب النمو الاقتصادي التي تحققت في الأرباع الثلاثة الأولى من هذا العام. غير أن تقديرات بنك إسرائيل المركزي ترتكز على فرضية أن الحرب ستنتهي في الربع الأول من العام المقبل، وفي هذه الحالة، فإن النمو سيرتفع في الربع الأول من العام المقبل بنسبة 1.6%، وهذا أيضا يعد انكماشا فعليا، لكن إذا ما امتدت الحرب إلى نهاية العام، فإن النمو سيكون في محيط صفر بالمئة، ولأكثر دقة 0.2% مع نهاية العام المقبل.
وهذه التقديرات الرسمية، القابلة للتعديل في كلا الاتجاهين، تزامنت مع صدور تقديرات عن منظمة التعاون والتنمية للدول المتطورة OECD، رأتها الصحافة الإسرائيلية سيئة للغاية، إذ بحسبها فإن النمو الاقتصادي سيرتفع في العام الجاري بنسبة 2.3%، وفي العام المقبل 1.5%، في حين أن تقديرات OECD للاقتصاد الإسرائيلي قبل الحرب، كانت نموا اقتصاديا بنسبة 2.9% في العام الجاري، و3.3% في العام المقبل 2024.
وتقول OECD إن أساس الضرر الاقتصادي سيتركز في الربع الأخير من العام الجاري، وأن الاقتصاد الإسرائيلي سيشهد نمواً متسارعاً بنسبة 4.5% في العام 2025، ويبدو أن المنظمة الدولية ترتكز على تجارب سابقة للاقتصاد الإسرائيلي، في جانب أنه بعد انتهاء حالة التوتر، فإن الجمهور سيُقبل على صرف زائد، تعويضا عما سبق، بعد أن حرص على عدم الصرف الزائد في حالة عدم الاستقرار.
وبحسب تقرير OECD نفسه، فإن إجمالي الدين الإسرائيلي العام سيقفز من حجم 60% من إجمالي الناتج العام حاليا، إلى 65% مع نهاية العام 2024، وهذا يتلاءم مع تقديرات بنك إسرائيل المركزي، ووزارة المالية الإسرائيلية. و5% زيادة تعادل 100 مليار شيكل (ما يقارب 27 مليار دولار)، هي الزيادة المتوقعة في الصرف الرسمي، بسبب العدوان على قطاع غزة، موزعة على العامين الجاري والمقبل، إذ إن الكنيست كان قد أقر بأصوات الائتلاف زيادة 30 مليار شيكل على ميزانية العام الجاري، من خلال زيادة نسبة العجز في الموازنة العامة.
وكانت شركة التقييم والتقديرات الاقتصادية العالمية، "موديس"، قد توقعت انهيار معدل الفرد من الناتج الإسرائيلي، من 54.3 ألف دولار في العام 2022، إلى 46 ألف دولار مع نهاية العام المقبل 2024، وهذا تراجع بنسبة 15%.
وترى الشركة نفسها أن التراجع الاقتصادي سيطاول الكثير من المؤشرات الاقتصادية، لكنها زادت وقالت إن قيمة الشيكل أمام الدولار ستتدهور إلى مستوى 4.3 شيكل للدولار، رغم أن تدهور قيمة الشيكل كانت فقط في الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، ثم تحسنت بنسبة عالية، وعادت إلى المستوى الذي كانت عليه في منتصف شهر آب الماضي، وساهم في هذا أن بنك إسرائيل باع قبل 3 أسابيع 8.2 مليار دولار، وهذا 25% فقط مما أعلن سابقا عن بيعه كي يحافظ على قيمة الشيكل، كما تداخلت عوامل عالمية ومحلية أخرى رفعت من قيمة الشيكل حتى الآن.
ما سيقلق الاقتصاد الإسرائيلي هو أنه في تقديرات "موديس" أن الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي ستنهار بنسبة 75% في العام المقبل، من حوالى 12 مليار دولار في بحر العام الجاري، إلى أقل من 3 مليارات دولار بالمعدل، في العام المقبل 2024.
ويقول المحلل الاقتصادي إيتان أفريئيل، في مقال له في صحيفة "ذي ماركر" التابعة لصحيفة "هآرتس"، إنه في الأسبوعين الأخيرين، ولأول مرة منذ اندلاع الحرب، "تلقينا التقديرات الأولى للوضع الاقتصادي لإسرائيل في العام المقبل 2024، وبحسب كل التوقعات، ستكون هذه سنة قاتمة ومعظمنا كذلك. سيكون الناس أكثر فقرا (أو أقل ثراء، كل حسب حالته)، ليستهلكوا أقل، وسيمارسون نشاطا تجاريا بدرجة أقل. وهذا ليس توقعا مفاجئا، لأننا في حالة حرب، لكن السؤال هو: إلى أي مدى؟".
وأضاف: "أولئك الذين لديهم وظيفة ومنزل، سوف يستهلكون أقل في العام المقبل، وسيوفرون أيضا أقل... وفقا لوكالة موديس، ستنخفض المدخرات الخاصة في إسرائيل في العام 2024 بأكثر من 5%. وإذا لم تنته الحرب بسرعة بانتصار إسرائيلي لا لبس فيه، فستكون هذه سنة اقتصادية صعبة. وحتى الواردات، وهي غالبية السلع الاستهلاكية، والتي انخفضت بالفعل بالقيمة الدولارية بنحو 15% في العام 2023، من المتوقع أن تنخفض في العام 2024 بنحو 14% أكثر. وهذا هو أوضح مثال على الضرر الذي لحق بالاستهلاك الشخصي ومستويات المعيشة".
ويتابع: "لقد كانت التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) هي المحرك للاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، خاصة خلال سنوات الكورونا، بل إنها كانت تسير في اتجاه الانتعاش في الخارج بفضل المكاسب التي حققتها سوق الأسهم الأميركية، لكن الأجواء في الصناعة صعبة".
ويشير أفريئيل أيضاً إلى أن قطاع السياحة الوافدة كذلك، وهو قطاع تصديري يدر الدولارات "أصبح مشلولا تماماً، وكذلك السياحة الخارجية، في ظل غياب الحالة المزاجية. وشركات الطيران الأجنبية التي تسافر إلى إسرائيل تعاني من ركود حاد. ولقد انخفض نشاط قطاعات الترفيه بنسبة عشرات بالمئة، وأفاد اتحاد سائقي سيارات الأجرة عن انخفاض دخلهم بنسبة 50% أو أكثر".
قطاع البناء على حافة انهيار
تؤكد كافة التقارير الإسرائيلية على أن قطاع البناء، الذي يشكل قطاعا أساسيا في حسابات النمو الاقتصادي، يشهد حالة انهيار، ويدور الحديث حول انخفاض بنسبة 70% من الإقبال على شراء البيوت، وهذا الانخفاض بدأ قبل الحرب، بفعل الأوضاع الاقتصادية التي بدأت تتردى في إسرائيل، لكن الحرب أدت إلى استفحال التراجع وبات في وضع انهيار.
وعوامل الانهيار تبدأ في انقطاع 85% من العاملين عن العمل، إذ إن 60% من العاملين كانوا فلسطينيين من الضفة الغربية أساساً، من بينهم نسبة قليلة من قطاع غزة، وحوالى 25% عمال أجانب، ففي حين تم سحب تصاريح العمال الفلسطينيين، فإن الغالبية العظمى جداً من العمال الأجانب غادرت البلاد. وتريد إسرائيل استقدام عشرات آلاف العمال الأجانب، إلا أن هؤلاء ليسوا متشجعين للوصول، في حين أن دولاً حظرت على مواطنيها السفر إلى إسرائيل.
وعلى الرغم من الدعوات الدائمة للاستغناء عن العمال الفلسطينيين، فإنه وفق تقارير حالات سابقة فإن العامل الفلسطيني مفضل أكثر على المقاولين، وأيضا على الاقتصاد، فمن ناحية هو أكثر مهنية وإنتاجية، ومن ناحية أخرى فإن المردود المالي الذي يتقاضاه سيتم صرفه في البلاد، حتى لو أن الصرف في الضفة أو في قطاع غزة، ففي هذا أيضاً استفادة للاقتصاد الإسرائيلي، بينما العامل الأجنبي يحوّل الغالبية العظمى من راتبه إلى وطنه الأصليّ. والتخوف الأكبر من قطاع البناء هو بسبب حجم الاعتمادات البنكية فيه، الذي يصل إلى مستوى 500 مليار شيكل (134 مليار دولار)، وإن أي خلل في القدرة على التسديد سيضرب أجهزة ومؤسسات مالية عديدة.
كما يُثقل على قطاع البناء الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام لعدة أسباب، منها ارتفاعها في الأسواق العالمية، وأيضا التراجع في حركة نقلها إلى إسرائيل.
البنوك تستعد لموجة حالات إفلاس ضخمة
أمام الأوضاع الاقتصادية التي تزداد سوءاً، فقد أعلنت البنوك الإسرائيلية الخمسة الأكبر، في الأسبوع الماضي، عن مضاعفة احتياطي الخسائر الافتراضية، من جراء احتمالات حالات الإفلاس، بسبع مرات، وذلك من حوالى 488 مليون شيكل، كاحتياطي عادي قبل الحرب، إلى 3.1 مليار شيكل حالياً، إذ إن التخوف الأكبر لدى البنوك هو من تزايد حالات إفلاس المصالح الاقتصادية الصغيرة، بصفتها المتضرر الأسرع من الأوضاع الاقتصادية القائمة.
وبحسب التقديرات، فإن حالة العجز عن تسديد الالتزامات ستتضاعف لدى المصالح الصغيرة أكثر من غيرها، لكن هذا لا يعني أن ظاهرة الإفلاس لن تطاول مصالح اقتصادية وسطى من حيث حجمها.
وطالبت البنوك الحكومة الإسرائيلية بوضع برنامج دعم حقيقي وملموس يحمي هذه المصالح الصغيرة، ويعوّضها عن خسائرها، ما يجعلها قادرة على تسديد التزاماتها، نحو البنوك والمؤسسات المالية الرسمية.
وبالرغم من هذا، فإن الخسائر مهما استفحلت فإنها لن تصل إلى البنوك نفسها، فإن أقصى ما سيكون لدى البنوك هو تراجع حجم أرباحها، التي سجلت في العامين الأخيرين ذروة غير مسبوقة، وفي الأشهر التسعة الأولى سجلت البنوك الخمسة الأكبر أرباحاً صافية بقيمة إجمالية بلغت 19.6 مليار شيكل، ما يعني أن البنوك كانت مرشحة لتسجيل ذروة جديدة هذا العام، مقارنة مع حجم أرباحها في العامين 2021، حينما بلغت 18.3 مليار شيكل، وفي العام الماضي 2022 حينما قاربت 24 مليار شيكل.