تزامنت نهاية شهر تشرين الأول من هذا العام مع حلول الشهر الثامن حسب التقويم العبري، وهو الشهر الذي تقام فيه الفعاليات الختامية لمجموعات الشبيبة "بني عكيفا" قبل أن ينتقلوا إلى المجموعة الأكبر سناً. و"بني عكيفا" هي منظمة شبيبة تابعة لتيار الصهيونية الدينية تعمل على تربية الشباب الإسرائيلي تحت سن 18 عاما على قيم التوراة وحب الاستيطان. أثناء حفلات التخرج، تقام حفلة كبيرة، يتخللها غناء ورقص، ويقوم الشبان والشابات بعرض خلاصة ما تعلموه خلال العام السابق. وقد كانت هذه المنظمة طيلة العقود الماضية تتبنى، إلى جانب قيم التوراة، مبادئ ليبرالية فتسمح مثلا بالاختلاط ما بين الجنسين. ولكن هذه المرة، وبالتحديد في فرع "بني عكيفا" تل أبيب- اليركون، فرض قادة الحركة على الشابات شروطا جديدة وغير مألوفة في هذا الفرع الذي يقع في مدينة "متحررة" و"ليبرالية". لقد طلبوا من الفتيات
أن يرقصن بشكل منفصل عن الشبان، وفي قاعات مظلمة حتى لا تبرز مفاتنهن على الرغم من أن الفتيات المقصودات في هذا الحفلة هن من الصف الثامن! في أفضل الحالات، ستسمح قيادة الحركة للفتيات بالرقص تحت أضواء ذات أشعة فوق بنفسجية بحيث يستطيع المرء أن يرى فقط ظل الشخص الآخر لكن ليس بوضوح. ولقد برر قادة الحركة هذا القرار بأنه يحافظ على "العفة"، وهي أحد أهم المبادئ التي تستند إليها الشريعة الدينية اليهودية خصوصا فيما يتعلق بعلاقة المرأة بالرجل. وعلى ما يبدو فإن مفاهيم الحداثة والمساواة و"الانفتاح" لم تعد مقبولة لدى قادة "بني عكيفا" في فرع تل أبيب- اليركون الذي يشهد انزياحا نحو التشدد الديني الأقرب إلى التزمت. وكجزء من امتعاض الفتيات ووالداتهن، وصلت الفتيات الى قاعة الحفلة وقد ارتدين ملابس شبيهة بملابس نساء حركة "طالبان"، كالحجاب والنقاب، لإبداء احتجاجهن على الاجتياح المفاجئ لقيم العفة الدينية في واحدة من حركات الشبيبة التي تمتاز بالاختلاط بين الجنسين.
في هذه المقالة، نسلط الضوء على هذه الحادثة ونقدم قراءة في التحولات التي تمر بها حركة "بني عكيفا".
منذ بدايات الاستيطان، أسست التيارات المختلفة داخل الحركة الصهيونية منظمات شبيبة بهدف "صناعة" اليهودي الجديد المستعد للاستيطان في "أرض إسرائيل". وهي أطر تستهدف الشبيبة (ذكورا وإناثا) ابتداء من الصف الثالث وحتى الصف الثاني عشر؛ بحيث تحولت هذه المنظمات الشبابية إلى أطر تربوية وتعليمية لا منهجية (إلى جانب المدرسة) وتهدف إلى بناء منظومة قيم خاصة بتوجهاتها الأيديولوجية. وفي إسرائيل هناك العشرات من منظمات الشبيبة والتي تختلف بناء على ميولها اليسارية، أو اليمينية، أو الحريدية، أو الحردلية، أو الصهيونية الدينية وغيرها. لدى تيار الصهيونية الدينية ثمة العديد من منظمات الشبيبة التي تربي الشبيبة على قيم التوراة والعمل والاستيطان. إحدى هذه المنظمات تسمى "بني عكيفا" وهي الثالثة من حيث حجمها واتساع نشاطها داخل إسرائيل أو حول العالم، ولديها أكثر من 400 فرع. أحد هذه الفروع هو فرع تل أبيب- اليركون الذي حصل فيه قبل أسبوعين ما بات يعرف بـ "احتجاجات الحجاب".
وعلى الرغم من أن "بني عكيفا" مصنفة كمنظمة شبيبة تابعة للصهيونية الدينية، الا أنها ما تزال تتبنى رؤية شبه حداثية وتؤسس أبناءها على القيم الليبرالية والمساواة. في الواقع، ثمة صراع قديم داخل تيار الصهيونية الدينية بشكل عام، ومنظمة الشبيبة "بني عكيفا" بشكل خاص، حول مجاورة قيم الدين والشريعة اليهودية المتزمتة مع قيم الحداثة والمساواة والليبرالية. إحدى فقرات هذا الصراع تتعلق باختلاط الذكور مع الإناث سواء داخل الجيش، أو المدرسة، أو حتى منظمات الشبيبة. تفاقم هذا الصراع في نهاية السبعينيات من القرن الماضي عندما قدم الحاخام شلومو أفينير فتوى دينية تحرم اختلاط الجنسين داخل منظمات الشبيبة لأن الاختلاط سيوفر مساحة للانحلال الخلقي والفواحش، على حد تعبير الحاخام. ورفض رئيس حركة "بني عكيفا" في حينه هذه الفتوى وقرر الحفاظ على تقليد المنظمة القائم على المزاوجة بين قيم التوراة وقيم الحداثة والمساواة، وهو بذلك استند إلى فتاوى حاخامات آخرين أكثر ليبرالية. هذا الصراع داخل تيار الصهيونية الدينية لم يحسم حتى اليوم، لكن تجلياته انعكست على منظمات الشبيبة التابعة له. فمثلا، في العام 1980، قرر فرع "بني عكيفا" الذي يسمى نفسه فرع "ما بين الأسوار" والمقام في الحي اليهودي داخل البلدة القديمة في القدس تبني، فتوى الحاخام أفينير، وأقام فصلا صارما ما بين الذكور والإناث. وعندما رفضت قيادة منظمة "بني عكيفا" هذا الأمر، انشق هذا الفرع عن المنظمة وتأسست منظمة شبيبة جديدة اسمها "أريئيل".
منذ ذلك الوقت، استمر التنافس ما بين منظمة "بني عكيفا" (التي ما تزال هي المنظمة الأكبر داخل الصهيونية الدينية) وما بين منظمة "أريئيل" (والتي تعتبر الأكثر عفة لكنها أصغر حجما). ولأن المزيد من الأهالي الذي يصنفون أنفسهم ورعين دينيا بدأوا يتأثرون بقيم العفة الدينية التي تجتاح مجتمعات الصهيونية الدينية، فإنهم بدأوا بنقل أبنائهم رويدا رويدا إلى منظمة "أريئيل". وعليه، قررت منظمة "بني عكيفا" أن تنصاع أمام هذه التحولات في مجتمع الصهيونية الدينية وتسمح بفصل الذكور عن الإناث في المناطق التي تشهد تزمتا دينيا. هذا يعني أن قيادة "بني عكيفا" لم تكن مقتنعة تماما بمبدأ فصل الجنسين، لكنها فعلت ذلك في بعض الأحيان امتثالا لمواقف الأهالي أنفسهم حتى لا تخسر فروعها التي بدأت تنشق وتندمج مع منظمة "أريئيل" البديلة. لكن ما حصل في تل أبيب يعتبر مؤشرا إلى تحول جديد. هذه المرة، انقلبت الآية بحيث أن الأهالي يرفضون الفصل بين الجنسين بينما قيادة المنظمة أرادت أن تفرضه قسرا على الفتيات.
وفيما يتعلق بتفاصيل ما حدث في فرع تل أبيب- اليركون، فإن منظمة "بني عكيفا" تقسم الشبان والشابات إلى مجموعات (وهي تطلق عليها اسم أسباط) بناء على الصف المدرسي. في كل عام، وبالتحديد في بداية الخريف، تنهي كل المجموعات عاما كاملا من الفعاليات التربوية والأنشطة الاجتماعية وتتخرج تحضيرا للانضمام إلى السبط الأكبر عمرا. وتنتهي السنة من خلال إقامة ما يسمى "حودش إرغون"، وهو شهر كامل من الفعاليات المكثفة التي تنظمها منظمة "بني عكيفا" حول موضوع أو قضية معينة تريد أن يتربى عليها الشبان والشابات كجزء من أيديولوجيتهم الصهيونية الدينية. في هذا العام، 2021، قررت قيادة منظمة "بني عكيفا" أن يدور شهر الفعاليات الختامي حول موضوع الصهيونية العلمانية التي بنت الييشوف ودولة إسرائيل، وحول التوتر القديم ما بين قادة الصهيونية الأوائل وما بين اليهود المتدينين الذين استصعبوا الاندماج في هذه الصهيونية العلمانية. ولربما يحمل هذا الموضوع دلالات هامة في هذه السنوات كونه يعكس توترا واضحا داخل المجتمع الإسرائيلي ما بين العلمانيين والمتدينين. بالطبع، فإن منظمة "بني عكيفا" تنظر إلى هذا التوتر من موقعها المتدين الذي يتبنى قيم التوراة ومفهوم أرض الميعاد. وتتوزع الفعاليات التي تكون مركزية على مستوى كل إسرائيل، حسب الفئة العمرية. السبط الذي ينتمي اليه أبناء الصف الثامن يسمى "سبط معفيليم" (أي الناشئين)، وقد وضعت له قيادة الحركة برنامج فعاليات خاص مشتقاً من القضية الأساسية لهذا العام وهي "التوتر ما بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية". وقد تضمنت فعاليات الشهر الختامي لهذه الفئة العمرية نشاطات رسم، ألعاباً، نقاشات، وتربية دينية تتعلق بمفهوم الخلاص الديني وحول ما إذا كانت الصهيونية العلمانية هي الأجدر بتحقيق الخلاص أم الصهيونية الدينية. على كل حال، ينتهي شهر النشاطات الختامية من خلال إقامة حقل تخرج ختامي، وهو الحفل الذي يتحضر له الشبان والشابات بالإضافة إلى أهاليهم بكل شغف ويعتبرونه محطة أساسية في مسيرة نضوج الشبان من الناحية الصهيونية، والدينية، والوطنية. وأقيم الحفل الختامي في نهاية شهر تشرين الأول من هذا العام، وخلاله قام كل الشبان والشابات بتزيين القاعات والتدرب على رقصات وأغان لعرضها أمام الحضور. الا أن قيادة الحركة في فرع تل أبيب- اليركون فاجأت الأهالي وقررت منع الفتيات من الرقص أمام الحضور أو أمام الشبان.
وتقول أوريان فايزر، إحدى الشابات المشاركات في الحفل: "لقد علمنا أننا سنرقص تحت أضواء من نوع LED ذات لون بنفسجي لأنه ليس من العفة والاحترام أن نشاهد بعضنا نرقص. إنه قرار مدربينا وإدارة المنظمة، ولكن بالأساس من المدربين المباشرين علينا. لذلك قررنا أن نرتدي الحجاب، لنشير لهم إلى أنهم إذا أرادوا منا أن نرتدي ملابس محتشمة جدا فإننا سوف لن نحب الأمر كثيرا".
ومن المتوقع أن تستمر خلال الأعوام القادمة مسيرة الابتعاد عن الهوية الليبرالية وقيم المساواة التي طالما سادت داخل منظمة "بني عكيفا"، والاقتراب أكثر فأكثر من القيم التي تنصاع إلى الشريعة الدينية بحذافيرها. وهذه التحولات تعكس تنامي التيارات التي تسمى "حردلية" داخل الصهيونية الدينية، وهي تيارات تخلق مساحات رمادية تجمع ما بين الهوية الدينية المتزمتة (أو الحريدية) وما بين الهوية السياسية الاستيطانية (أو القومية). وبالتالي، تعتبر القوي الحردلية إحدى أهم التيارات المغذية للتصدعات الاجتماعية داخل إسرائيل والتي تعكس نفسها على الأجندة السياسية لدولة إسرائيل، التوافقات الحزبية و/ أو التجاذبات الداخلية، وتلقي بظلالها بكل تأكيد على القضية الفلسطينية والحلول السياسية التي قد تطرحها الحكومات الإسرائيلية. وهذه التصدعات التي تنجم عن تنوعات داخل التيارات الدينية الاستيطانية هي ما سيعالجه "مركز مدار" في كتاب جديد يصدر خلال الأشهر القادمة.