انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لسيدة مقدسية تتمسك بقبر ابنها الراحل علاء فيما كان عناصر من الشرطة الإسرائيلية يحاولون إبعادها بالقوة عن القبر، وفي خلفية الصور جرافة إسرائيلية تعمل في أرض المقبرة اليوسفية، شرق المسجد الأقصى في مدينة القدس ضمن سعي سلطات الاحتلال لتنفيذ مشروع "الحديقة التوراتية" الذي يهدف إلى تحويل محيط المسجد الأقصى إلى متنزهات تخدم الراوية الصهيونية الدينية بشأن الهيكل بشكل خاص والقدس بشكل عام.
هذه ليست المرة الأولى التي تنتهك فيها إسرائيل حرمة المقابر غير اليهودية في أنحاء البلاد. فمؤسسة "ذاكرات" (زوخروت) التي تعنى بـ"جلب معرفة النكبة إلى الجمهور اليهوديّ في إسرائيل"، باعتبار أن "معرفة النكبة هي شرط حتميّ للاعتراف بمسؤولية اليهود عن حصتهم في النكبة الفلسطينية"، أشارت إلى "ممارسة إسرائيل ومؤسساتها المختلفة ومواطنيها جرائم الهدم والتدنيس والانتهاك ضدّ المقابر الفلسطينية في البلدات المهجّرة بأشكال متعددة تقشعرّ لها الأبدان".
ويشير عمر الغباري، المسؤول عن "مركز الجولات ومشروع العودة" في "ذاكرات"، إلى أن استهداف هذه المقابر يأتي ضمن "تدمير استراتيجيّ يصبو إلى محو ما هو أبعد مما تراه العين المجردة، محو الهويّة الفلسطينيّة من الحيّز. تطهير المنظر من سِماته الفلسطينيّة والإسراع في تهويده من أجل صياغة صورة جديدة للحيّز تطبع مع الزمن في أذهان ووعي الجمهور لتربيته وإقناعه بيهودية المكان".
ويسرد الغباري عدة أمثلة على طمس آثار مقابر فلسطينية في عدة قرى مدمرة، فمنها ما تحول إلى مراع لأبقار المستوطنين (مقابر كفر سبت في الجليل ويالو وسمسم)، وتم تحطيم القبور في بئر السبع وقالونيا وطبريّة، وتحولت مقبرة جمزو مسرحاً للدراجات الناريّة والمركبات الجبليّة، كما تم شق طرق على أجزاء من مقابر دير ياسين وطيرة حيفا والشيخ مراد في يافا. واختفت المقبرة المسيحيّة في البروة تحت إسطبلات مستوطنة أحيهود، ومقبرة صمّيل في تل أبيب اختفت تحت موقف للسيارات. واحتل الجيش المقبرة المسيحيّة في معلول ومنع الوصول إليها، وأقيمت ساحة ألعاب للأولاد اليهود في تل أبيب فوق عظام الموتى الفلسطينيين في مقبرة سلمة.
وفي القدس أطلق اسم "حديقة الاستقلال" على الحدائق العامة التي أقامتها على مقبرة مأمن الله، وغيرها الكثير من الأمثلة.
الاهتمام الشديد بمقابر اليهود
بالمقابل تتداعى إسرائيل رسميا، والمنظمات المدافعة عنها، لتضخيم أي حدث في أنحاء العالم يتضمن اعتداء على يهودي أو انتهاكا لمقبرة أو لكنيس أو مؤسسة أو منظمة أو مصلحة تجارية يهودية، وتبرز اتهامات بمعاداة السامية وربط ذلك بإسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر. بل ذهبت إسرائيل أبعد من ذلك، وبحسب موقع وزارة الشؤون الدينية الإسرائيلية العام 2019 أقيمت لجنة حكومية تهدف إلى رعاية المقابر اليهودية في الشتات عبر "صيانة وترميم ومنع هدم المقابر اليهودية في أنحاء العالم".
وفي مسوغات القرار تقول وزارة الشؤون الدينية الإسرائيلية إن "حكومة إسرائيل تنظر بأهمية كبرى إلى احترام الميت والحفاظ على التاريخ اليهودي في الشتات، لذلك وافقت الحكومة على إقامة لجنة من عدة وزارات لمعالجة قضية المقابر في الشتات".
وتضم اللجنة إضافة لممثلين عن وزارة الشؤون الدينية، ممثلين عن سكرتاريا الحكومة، والمديرين العامين لوزارات الخارجية والشتات والتعاون الإقليمية، ورئيس الهستدروت الصهيونية العالمية، ورئيس الوكالة اليهودية.
هذا الاهتمام الشديد في تعامل إسرائيل بقدسية مع جثة أو رفات اليهودي حيثما كانت، وتسعى لاسترجاعها لدفنها حسب الطقوس الدينية اليهودية، يقابله تعامل معاكس مع جثث الفلسطينيين والعرب من منفذي عمليات، او جثث أسرى توفوا في سجونها، بطريقة تنتهك حرمة الموتى أولا والقانون الدولي الإنساني أيضا. إذ تنص القاعدة 115 في القانون الدولي الإنساني العرفي على أن "تُعامَل جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، وتُحترم قبورهم وتُصان بشكل ملائم".
وتشير منظمة الصليب الأحمر الدولية إلى أنه "تم تقنين واجب معاملة جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، للمرة الأولى، في اتفاقية جنيف للعام 1929". وتعتبر هذه القاعدة إحدى قواعد القانون الدولي العرفي المنطبقة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
كما تشير منظمة الصليب الأحمر الدولية إلى أن "الكثير من كتيّبات الدليل العسكري تنص على وجوب معاملة جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام".
وحسب المادة (130) من اتفاقية جنيف الرابعة )1949( فإنه "على السلطات الحاجزة أن تتحقق من أن المعتقلين الذين يتوفون في أثناء الاعتقال يدفنون باحترام، وإذا أمكن طبقاً لشعائر دينهم، وأن مقابرهم تحترم، وتصان بشكل مناسب، وتميز بطريقة تمكن من الاستدلال عليها دائماً".
مخيم جنين 2002
يخص نص لمنظمة الصليب الأحمر إسرائيل بالذكر عبر الإشارة إلى أن المحكمة العليا في إسرائيل أيدت في العام 2002 وجوب التزام إسرائيل بقوانين الحرب فيما يتعلق بجثث الموتى، في قضيّة جنين (رفات الموتى).
وحسب خبر منشور في الموقع الالكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 4 نيسان 2002، فقد رفض قضاة المحكمة العليا التماسا قدمه أعضاء كنيست عرب ومنظمات حقوقية يطالبون فيه بإصدار تعليمات للجيش تمنعه من إخلاء جثث الفلسطينيين من مخيم جنين لدفنها في مقبرة قتلى العدو في غور الأردن. وجاء رفض المحكمة الالتماس بعد توصل أطراف القضية إلى تفاهم يتم بموجبه تسليم جثث الفلسطينيين الذين قتلوا خلال عملية اقتحام مخيم جنين لأهلهم، لدفنهم حسب الطقوس الإسلامية وعلى وجه السرعة وعدم تشييعهم "بشكل تحريضي" وإلا فسيقدم الجيش على دفنهم.
وبناء على هذه الاتفاق جاء في نص قرار المحكمة الذي صاغة القاضيان أهارون باراك وثيودور أور والقاضية دوريت بينيش "إن هذا التفاهم مناسب جدا ويحترم الأحياء والأموات"، كذلك أشار القضاة إلى أنه "وأيضا في فترات القتال يجب الالتزام بقوانين الحرب".
لكن هذا القرار بقي محصورا في قضية مخيم جنين فقط، ولم يطبق على الجثث المحتجزة منذ عشرات السنوات في "مقابر الأرقام"، كما لا تلتزم السلطات الإسرائيلية بتطبيقه حاليا مع جثث الفلسطينيين الذين تقتلهم خلال تنفيذهم عمليات ضد أهداف إسرائيلية، أو بدعوى تنفيذهم عمليات، أو ممن يتوفون في السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين.
جثث فلسطينيين مفقودة!
ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 28 حزيران 2020 أن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس "أصدر تعليماته للجيش لتكثيف الجهود من أجل العثور على عشرات جثث ’المخربين’ المحتجزة في إسرائيل والمجهولة مواقعها، في ظل الأنباء في الشهرين الأخيرين عن تقدم في المفاوضات حول صفقة لتبادل الأسرى مع حركة حماس".
وحسب الصحيفة فإن الحديث يتعلق "بعشرات جثث ’المخربين’ الذين عزز الجيش جهوده للعثور عليها في فترة تولي موشيه يعلون وزارة الدفاع، لكن هذه الجهود تراجعت إلى حد تجميدها. ويهدف الإجراء إلى أن تكون هناك بطاقة مساومة في وجه حماس في حالة التوصل لصفقة فعلية لتبادل إسرائيليين أسيرين لدى حماس هما أفرا منغيستو وهشام السيد، وجثتي قتيلين من الجيش هما أورون شاؤول وهدار غولدين".
وكانت صحيفة "معاريف" ذكرت العام 2014 أن تعامل إسرائيل مع مقابر الأرقام التي تحتجز فيها الجثث فيه الكثير من الإهمال.
وذكرت الصحيفة أن "هناك من يطالب بحرق الجثث، ويدعو آخرون إلى ضرورة تسليمها، لكن الدولة تحتفظ بها كورقة مساومة في قبور خاصة غير أنها فشلت في العناية بها".
وحسب التقرير هناك ست مقابر تنظم أمورها تسعة أوامر عسكرية، لكن ثلاثة تقارير كشفت عن إهمال في عمليات الدفن وفي صيانة المقابر.
نفتالي بينيت وسع عمليات احتجاز جثث الفلسطينيين
بعد حرب 2014 على قطاع غزة، قررت الحكومة الإسرائيلية منع إعادة جثث منفذي العمليات أو المقاتلين المنتمين لحركة حماس فقط، باعتبار أنها هي التي تحتجز إسرائيليين أو جثث إسرائيليين، لكن نفتالي بينيت وخلال توليه وزارة الدفاع قرر في شهر تشرين الثاني 2019 منع إعادة أي جثة لفلسطيني بغض النظر عن الانتماء السياسي لصاحبها. ونقلت القناة السابعة العبرية عن بينيت قوله إن القرار يسري على الجثث المحتجزة أو الجثث التي سيتم احتجازها مستقبلا وسواء نفذ القتيل عملية فعلا أو كان سينفذ عملية لكنه قتل قبل ذلك، بغض النظر عن انتمائه السياسي.
سبق ذلك جدل قضائي في إسرائيل حول صلاحية الحكومة الإسرائيلية في احتجاز جثث منفذي العمليات، ففي 14 كانون الأول 2017 ذكرت صحيفة "هآرتس" أن المحكمة العليا قررت منع الحكومة من احتجاز جثث منفذي العمليات، باعتبار أنه لا يحق لدولة إسرائيل احتجاز الجثث لأغراض المساومة عليها، لعدم وجود قانون محدد وواضح يسمح لها بفعل ذلك. وقرر القاضيان يورام دنتسيغر وجورج قرا - بخلاف موقف زميلهما القاضي نيل هندل- أنه وفي حال رغبة إسرائيل بالقيام بذلك (باحتجاز الجثث) بإمكانها سن قانون يتوافق مع المعايير القانونية الإسرائيلية ومع القانون الدولي. فيما رأي القاضي هندل أن القانون الإسرائيلي يتيح للحكومة صلاحية احتجاز الجثث، وربط وجهة نظره بالوضع الأمني في إسرائيل. وقررت المحكمة آنذاك منح الحكومة ستة شهور لسن قانون خاص بذلك، وفي حال عدم سن قانون تصبح إسرائيل ملزمة بإعادة جثث الفلسطينيين لعائلاتها.
لاحقا أقرت المحكمة الإسرائيلية العليا بتاريخ 9 أيلول 2019 جواز احتجاز إسرائيل جثامين الفلسطينيين من منفذي العمليات بغالبية أربعة قضاة مقابل ثلاثة، ومنحت المحكمة للقائد العسكري "صلاحية احتجاز جثامين الفلسطينيين ودفنهم مؤقتا لأغراض استعمالهم كأوراق تفاوض وفقا للمادة 133 (3) من قانون الطوارئ".
احتجاز جثامين أسرى وموقوفين
بعد أن أمضى الأسير داود طلعت الخطيب (45 عاما) من بيت لحم نحو 19 عاما في السجون الإسرائيلية، وقبل ثلاثة شهور من موعد الإفراج عنه، توفي بجلطة في السجن، وبدلا من تسليم جثته، قررت السلطات الإسرائيلية الاستمرار في اعتقال الجثة، وبعد خمسة شهور على وفاته، أي بعد الموعد المحدد للإفراج عنه بشهرين، قررت تسليم الجثة لعائلته.
وفي حالة نصار ماجد طقاطقة (31 عاما) الذي توفي بتاريخ 16 تموز 2019 خلال فترة توقيفه وفي مرحلة التحقيق في سجن الرملة، أي أنه لم يكن محكوما ولا مدانا بأية تهمة عند وفاته، قررت سلطات الاحتلال احتجاز جثمانه حتى اليوم.
وحسب نادي الأسير الفلسطيني فإن السلطات الإسرائيلية لا تزال تحتجز جثث سبعة أسرى توفوا في السجون، من بينهم أنيس دولة المحتجزة جثته منذ العام 1980 وعزيز عويسات منذ العام 2018 وفارس بارود وبسام السايح في العام 2019 وسعدي الغرابلي وكمال أبو وعر في العام 2020.
وفي السادس من آب 2021 ذكرت صحيفة "القدس العربي" أنها أثارت مرارا موضوع احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين مع المتحدث الرسمي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وبعد صمته ومبعوثه الخاص للأراضي الفلسطينية المحتلة، بعث نائب المتحدث الرسمي، برسالة جاء فيها: "رداً على سؤالك حول الجثث التي لا تزال رهن الاحتجاز الإسرائيلي، يمكننا أن نقول ما يلي: يعرب الأمين العام مراراً وتكراراً عن قلقه العميق إزاء استمرار الممارسة الإسرائيلية باحتجاز جثث القتلى الفلسطينيين، ويدعو إسرائيل إلى إعادة الجثث المحتجزة إلى عائلاتهم، بما يتماشى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني".
لا احترام لغير اليهودي
عند تناول وجهات نظر رجال الدين اليهود في قضية موت اليهود وغير اليهود (الأغيار) يبرز أيضاً نوع من الخلاف على طبيعة الكلمة التي تستخدم في وصف وفاة اليهودي وغير اليهودي، ففي السياق العبري يتم استخدام كلمة "נפטר" (تلفظ "نِفتار") في وصف وفاة اليهودي، وتعني أنه انقطع أو رفع عنه واجب تنفيذ الوصايا الدينية. وبحسب صحيفة "يسرائيل هيوم" يرى بعض الحاخامات أن هذه الكلمة حصرية في اليهود، رغم عدم ورودها بهذا الشكل الخاص في النصوص الدينية اليهودية، فيما تستخدم كلمة مات "מת" (وتلفظ "مِت") في وصف وفاة غير اليهودي وعند نفوق الحيوان، فيما يرى آخرون إمكانية استخدام الكلمتين في السياقين اليهودي وغير اليهودي. لكن الدارج في اللغة العبرية بما فيها الصحافية تخصيص كلمة لوصف وفاة اليهود، لا تستخدم في وصف وفاة غيرهم. والملاحظ أن مراسل "يسرائيل هيوم" أساف غولان تناول هذه القضية تحت عنوان بارز نصه: هل يمكن قول "نفتار" لغير اليهودي أو للحيوان؟
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, يديعوت أحرونوت, هآرتس, القناة السابعة, يسرائيل هيوم, باراك, الهستدروت, الوكالة اليهودية, موشيه يعلون, نفتالي بينيت