تقف الحكومة الإسرائيلية، هذا الأسبوع، أمام الامتحان الأصعب منذ حصولها على الثقة في منتصف حزيران الماضي، حينما ستعرض على الهيئة العامة في الكنيست مشروع الموازنة العامة للعامين الجاري والمقبل، للتصويت عليه بالقراءة النهائية. وبدا حتى مطلع الأسبوع، أن الائتلاف الذي يتركز على 61 نائبا من أصل 120 نائبا ما زال متماسكا، وقد ينجح في تمرير الميزانية. في المقابل، فإنه على الرغم من أن الائتلاف هش وضعيف نسبيا، إلا أنه نجح في تمرير قانون عجزت عنه حكومات سابقة، وهو ما سيكسر احتكار إصدار "شهادات الحلال"، لينهي جدلا قائما منذ سنوات طويلة.
وعلى الرغم من بعض التقارير الصحافية الإسرائيلية الصادرة في الأيام الأخيرة، والتي تدعي وجود خلافات من شأنها أن تهدد تمرير الموازنة العامة، ما يعني في حال الفشل، حل الكنيست والحكومة فورا، والتوجه لانتخابات برلمانية جديدة، فإن الائتلاف يبدو متماسكا أكثر، إذ أن الائتلاف منح كل واحد من الأطراف الثمانية، ما يرضيه في بعض مطالبه، ولو كان الأمر متعلقا بوعود على ورق، مثل مخططات متعددة السنوات لحكومة لا تعرف غدها، ولا مصيرها في المدى القريب ورغم أن في مثل هذه الوعود وتلبية الطلبات ما يتناقض مع سياسات مفترضة لأطراف أخرى في الائتلاف، مثل قرارات بناء آلاف البيوت الاستيطانية في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة.
وحينما نتحدث عن أغلبية 61 نائبا، من أصل 120 نائبا، فإن غيابا قسريا لأحد نواب الائتلاف قد يكون مصيريا لضمان الأغلبية للميزانية، بالذات في موجة الكورونا، ولهذا فإن أيام هذا الأسبوع في غاية الحساسية بالنسبة للائتلاف.
ولكن في اليوم التالي لتمرير الميزانية، وكما يبدو حسب عدة مؤشرات، فإن الخلافات الداخلية في الائتلاف، التي تهدد تماسكه، قد تنشب في وقت مبكر، رغم أن أطراف الائتلاف اتفقت في ما بينها على إبقاء كل القضايا الخلافية الى ما بعد مرور عام كامل على بدء عمل الحكومة من أجل التحاور حولها، بمعنى بعد حزيران العام المقبل.
وقد شهدنا في الأيام الأخيرة بعض التصريحات الخلافية، مثل الموقف من سن قانون يستهدف شخص بنيامين نتنياهو، ما سيمنعه من الترشح مستقبلا لرئاسة الحكومة، وهو القانون الذي يمنع متهما بالفساد من تكليفه بتشكيل حكومة. وكذا أيضا بالنسبة لاعتراضات من جانب ميرتس على قرارات ببناء آلاف البيوت الاستيطانية في الضفة.
ولكن في الأسبوع الماضي ظهر مشهد مخالف لما رأيناه في الأشهر الخمسة الماضية، إذ التحمت كتل اليمين الاستيطاني المعارضة مع كتل الائتلاف الحاكم، في المعارضة على مشروع قانون قدمته القائمة المشتركة يلزم إسرائيل الرسمية بالاعتراف بمجزرة كفر قاسم. غير أن 6 نواب من الائتلاف الحاكم، 4 من القائمة الموحدة و2 من ميرتس صوتوا إلى جانب مشروع القانون، ما جعل وزير البناء والإسكان، زئيف إلكين، من كتلة "أمل جديد"، يهدّد بتصويت نواب الائتلاف مع مبادرات قوانين تطرحها كتل اليمين الاستيطاني المعارضة.
وليس واضحا إلى أي مدى ستصل هذه التهديدات، خاصة وأن أطراف الائتلاف الثمانية تعرف أنها تقف كلها على سجادة واحدة، وفي ما لو اهتزت، وتساقطت الحكومة، فإن كل أطرافها ستخرج خاسرة، حتى تلك التي ستعيدها الانتخابات للكنيست، ولربما بقوة أكبر، إلا أن مكانتها الحالية في الحكم لن تبقى على حالها، ولهذا فإن المصلحة المشتركة هي الحفاظ على تماسك الائتلاف، حتى تحقيق شيء أكبر على الأرض.
في المقابل، فإن كتل اليمين الاستيطاني المعارضة، كما يبدو، تعلمت درس معارضتها وإسقاطها لطلب الحكومة تمديد سريان القانون الذي يحرم العائلات الفلسطينية من لم الشمل، ما شجع نواب اليمين الاستيطاني في الحكومة على معارضة كل مبادرات المعارضة اليمينية، ولم يكونوا محرجين في التصويت ضد مشاريع قوانين يتفقون معها سياسيا.
"قرار تاريخي" بشأن كسر احتكار "شهادات الحلال"!
نجح الائتلاف الحكومي الهش في اتخاذ قرار بمستوى "قرار تاريخي" في السياسة الإسرائيلية سعت له حكومات عديدة، ومنها قوية، ولكنها فشلت أمام سطوة الأحزاب الدينية المتزمتة للحريديم، وحتى أحزاب من التيار الديني الصهيوني؛ إذ إنه مع إقرار الموازنة العامة للعامين الجاري والمقبل في الأيام القليلة المقبلة، سيتم إقرار قانون يكسر احتكار المؤسسة الدينية العليا لإصدار "شهادات الحلال" اليهودي، وأيضا يحاصر مؤسسات الحريديم المخوّلة هي أيضا بإصدار "شهادات حلال". وسيدخل القانون حيز التنفيذ ابتداء من مطلع العام 2023.
وهذه واحدة من القضايا الأشد سخونة في الجدل بين الجمهور العام وقادة المتدينين خاصة الحريديم، وتزداد القضية سخونة لأنها مرتبطة بشكل مباشر بالاقتصاد، إذ أن احتكار اصدار "شهادات الحلال" فرض قيودا شديدة، وبكلفة عالية، على المصالح والمرافق الاقتصادية التي تحتاج لهذه الشهادات، في حين أن عبء الكُلفة الأكبر يتدحرج تلقائيا على عاتق المستهلكين. على سبيل المثال فإن كلفة شروط الحلال اليهودي ترفع أسعار المواد الغذائية بالمعدل بنسبة 25% مقارنة مع أسعارها في أسواق الدول المتطورة. وكسر الاحتكار لن يلغي فارق الأسعار هذا، إلا أنه قد يساهم في خفضه.
ولا تتوقف قيود الحاخامية على السوق الإسرائيلية، بل أيضا على الشركات في الخارج التي تنتج وتصدّر لإسرائيل. فالحاخامية العليا لا تعترف بـ"شهادات حلال" تصدرها مؤسسات دينية يهودية في دول العالم، حتى التي فيها طوائف دينية متزمتة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بل ترسل من طرفها رجال دين مؤهلين لإصدار شهادات كهذه على المنتوجات التي ستصل إلى إسرائيل.
وبحسب تقرير سابق، يقول مستوردون للحوم إن استيراد اللحوم من أميركا اللاتينية يستوجب إرسال ما بين 10 إلى 14 رجل دين يهوديا إلى كل مسلخ سيتم الاستيراد منه، وكلفة كل رجل دين كهذا تتراوح ما بين 7 آلاف إلى 8 آلاف دولار شهريا، بالإضافة إلى تكاليف أخرى، ما يعني كلفة شهرية تتجاوز 100 ألف دولار، من أجل استيراد 500 طن من اللحوم المجمّدة.
وكما ذكر حاولت العديد من الحكومات التوصل إلى صيغة مع كتلتي الحريديم، ومع الحاخامية العليا الرسمية، إلا أن هذا لم ينجح، كما لم تنجح مبادرات أعضاء كنيست لطرح قوانين تصل إلى هدف كسر الاحتكار.
ومن أبرز أسس القانون الجديد: اعتبارا من الأول من كانون الثاني 2023 (مطلع العام)، سيتم فتح سوق "شهادات الحلال" في إسرائيل للمنافسة الكاملة، وستكون الهيئات الخاصة المرخّصة قادرة على منح "شهادة الحلال"، والتنافس في ما بينها ومع المجالس الدينية؛ وستكون الهيئات الخاصة قادرة على الاختيار بين معيارين للشريعة اليهودية، صارم ومتساهل، تحددهما الحاخامية الرئيسية، لكن الحاخامية لن تحتكر وضع المعايير، وستكون أي جمعية من ثلاثة حاخامات كبار، قادرة أيضا على تقديم معايير حلال بديلة.
كذلك ينص القانون على أنه لن تكون تعريفة إصدار الشهادات موحدة وإنما تنافسية؛ وليس فقط الإنتاج المحلي سيستفيد من المنافسة على إصدار "شهادات الحلال"، بل أيضا الواردات ستكون قادرة على اختيار الهيئات المحلية المرخص لها بإصدار الشهادات.
ويمنح القانون أيضا، حاخامات المدن صلاحية إصدار "شهادات حلال" وحتى للشركات التي ليست في منطقتهم البلدية، وهذا لغرض إحداث هزّة في قطاع الشهادات ولتسريع عملية إصدارها. أما بالنسبة لمراقبي الحلال، فسيكونون مطالبين بالحصول على تأهيل من الحاخامية الرئيسية، كما أن المجال سيكون مفتوحا أمام النساء للعمل كمراقبات حلال.
وسارع اتحاد المطاعم للترحيب بالمصادقة على مشروع القانون. وقال رئيس الاتحاد، شاي بيرمان، إن "الإصلاح هو بشرى سارة لكل أصحاب المطاعم والجمهور، وما من شك في أن الكثير من أصحاب المطاعم الذين ترددوا في الاتصال مع الحاخامية العليا، سيفحصون الآن إمكانية طلب شهادة حلال".
وتابع بيرمان: "منذ سنوات ونحن نصرخ بسبب إجبارنا على توظيف مراقبي حلال، ونتيجة معاناة ناجمة من عدم وجود تعليمات ثابتة وموحدة لإصدار شهادات الحلال، ومن الطلبات المفرطة التي يعرضها المراقبون". ورأى أنه في أعقاب هذه التعديلات القانونية فإن الجمهور سيحصل على منتوجات حلال أفضل.
وحسب تقديرات نشرتها الصحافة الاقتصادية، فإن الإنفاق الاقتصادي على طعام الحلال حاليا يقدّر بـ 3 مليارات شيكل سنويا (935 مليون دولار). ويتم دفع 640 مليون شيكل من هذا المبلغ في مقابل "شهادات حلال" صادرة عن حاخامات محليين، إضافة إلى مبالغ كبيرة تُدفع لإصدار شهادات من مجلس الحاخامية التابع لطوائف المتدينين المتزمتين الحريديم. وبموجب التقديرات، فإن ما يدفعه كل مطعم على "شهادة الحلال" سنويا، يتراوح ما بين ألف إلى 10 آلاف شيكل. أما الفنادق فإن كل واحد منها مطلوب منه أن يدفع سنويا 250 ألف شيكل (78 ألف دولار) لمجلس الحاخامية في المدينة، ورسوما أعلى بكثير، وغير محددة، للمجلس التابع للحريديم. وأيضا وفق التقديرات، فإن 75% من المصالح والمرافق الإسرائيلية بحوزتها شهادة من الحاخامية الرئيسية، وأخرى من مجلس الحريديم.
ويقول المحلل الاقتصادي في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، ناتي طوكر، إنه من حيث المبدأ، فإن الأهمية الكبيرة للإصلاح في مجال "شهادات الحلال" لكسر احتكار الحاخامية الكبرى كامنة ليست في تحقيقه فقط، بل في الرسالة العامة التي ينقلها: فما كان قائما، لم يعد موجودا. والعلاقة الوثيقة للغاية بين الدين والدولة، والتي ولّدت عددا كبيرا من التشويهات وإهدار المال والفساد السياسي، آخذة في الانهيار.
ووفقاً لطوكر، فإن "الإصلاح نفسه، وهذا ما يجب الاعتراف به، لن يضر بشكل مباشر بمجتمع الحريديم المتشدد. على العكس من ذلك، فقد اعتمد الحريديم المتشددون حتى الآن فقط على هيئات الحلال الخاصة بهم، وقد تزدهر قوة هذه الهيئات الآن مع انفتاح السوق على المنافسة. ولكن هذا الإصلاح سيقوّض مركزا للسلطة السياسية والاقتصادية هو هيئة الحاخامية العليا، وهذا بالضبط ما أزعج ممثلي أحزاب الحريديم في الكنيست".
ويقول طوكر إن الإصلاحات في قانون "شهادات الحلال" تنضم إلى سلسلة إجراءات أخرى اتخذتها الحكومة الحالية، وعارضتها كتلتا الحريديم، وبضمن ذلك إلغاء مخصصات الحضانة للأسر التي معيلها لا يعمل وإنما يدرس في المعاهد الدينية، وخفض سن التجنيد الالزامي للحريديم إلى 21 عاما بدلا من 24 عاما، وتحديد سقف أعلى لمن يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية من شبان الحريديم.
لكن هذه الخطوات، كما يضيف طوكر، تبقى هامشية وغير مهمة نسبيا مقارنة بالمشكلات الأساسية الموجودة في العلاقة بين الحريديم والجمهور العام. والحكومة الحالية بالكاد تطرقت إلى قضايا مثل ميزانيات المدارس الدينية وجهاز تعليم الحريديم. على العكس من ذلك، فميزانية المعاهد الدينية بلغت حتى الآن في أساسها 804 ملايين شيكل (251 مليون دولار)، وارتفعت في الأيام الأخيرة خلال المناقشات في اللجنة المالية البرلمانية إلى 1.17 مليار شيكل (366 مليون دولار)، تقريبا مثل العام الماضي، إلا أنه للمرة الأولى، وخلافا للعام الماضي، ستدخل الإضافة في أساس الميزانية، لتكون ميزانية ثابتة، وقاعدة لأي زيادة مستقبلية.
ويقول طوكر: "كان إصلاح قطاع إصدار ’شهادات الحلال’ غاية في حد ذاته، لكنه أيضا كان رمزا. وعليه أن يُنذر قادة الحريديم من خطوات أخرى، يتحفظون منها ويعترضون عليها". ويرى الكاتب أنه "على الرغم من تشكيل الائتلاف الحالي في إسرائيل حول هدف معارضة شخص بنيامين نتنياهو، إلا أن له أيضا قاسما مشتركا من القيم ضد الوضع القائم، الذي ساد حتى الآن في العلاقات بين الدولة والحريديم. وهذا ما نجح في توحيد نفتالي بينيت (يمينا) ويائير لبيد (يوجد مستقبل) وميراف ميخائيلي (حزب العمل) ونيتسان هوروفيتس (ميرتس)... إن الغضب الذي يتراكم تجاه بعض جمهور الحريديم، بسبب سوء السلوك، قد يتحول في النهاية إلى وضع سياسي طويل الأمد، ويمكن أن يجعل الصوت السياسي للحريديم معتدلا"!
المصطلحات المستخدمة:
اللجنة المالية, شاي, الكنيست, بنيامين نتنياهو, زئيف إلكين, نفتالي بينيت