باتت احتجاجات الأطباء في إسرائيل طقساً سنوياً تقريباً. كل احتجاج ومطالبه: تقصير ساعات العمل (مناوبات)، تغيير ظروف العمل، زيادة الأجور وما إلى ذلك. لكن جميع الاحتجاجات ذات قاسم مشترك واحد: الاستنزاف المهني.
يُعرَّف التآكل بأنه حالة من الإرهاق العقلي، والذي ينتج عن الإجهاد المستمر الناتج عن الشغل المهني. ويعاني العديدون من الإرهاق المهني في عالمنا، لكنه يشتدّ بشكل خاص بين أصحاب المهن التي تقوم على مُثُل الإيثار والتضحية الشخصية، مثل الطب. ولا يقتصر استنزاف الأطباء على إسرائيل وحدها. إنه يتفاقم في جميع أنحاء العالم الغربي، ويهدّد استقرار الأنظمة الصحية حتى في الفترات التي يتم فيها إصلاحها.
لقد وجدت دراسات استقصائية مختلفة نُشرت في السنوات الأخيرة أن 40 -50% من الأطباء يعانون من الإرهاق - في جميع مراحل حياتهم المهنية وفي جميع أنواع التخصصات. وكشفت دراسة استقصائية أجريت في إسرائيل العام 2018 بين العاملين في الجهاز الصحي أن متوسط مؤشر التآكل بين الأطباء هو 3.57 (على مقياس من 1 إلى 7، أي أن كل مستوى أعلى من 3 يتطلب علاجاً عاجلاً). وفي مسح مماثل بين العاملين في القطاعين الخاص والعام غير العاملين في النظام الصحي، كان متوسط الدرجة في هذا المؤشر 2.2.
لظاهرة التآكل عواقب شخصية وتنظيمية بعيدة المدى. فقد ظهر أن الأطباء الذين يبلغون عن الإرهاق هم الجزء الأكثر عرضة للمعاناة من الاكتئاب الإكلينيكي، والمشاكل الزوجية، وإدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والميول الانتحارية. ووفقاً للتقديرات التي وُضعت في الولايات المتحدة الأميركية، تبلغ التكلفة المباشرة للأطباء المُعالجين 4.6 مليار دولار سنوياً - نظراً لارتفاع معدل تبدّل الوظائف والمناصب والتقلّص الكبير في ساعات العمل. وهكذا يتخلى العديد من الأطباء عن معالجة المرضى لشغل مناصب إدارية أو بحثية، وبعضهم لاكتساب مهنة أخرى.
لماذا يعاني الأطباء من هذا التناقص الكبير؟ تظهر الاستطلاعات أن الأسباب المباشرة لذلك هي العمل الشاق للغاية؛ المردود المالي الذي لا يتناسب مع حجم الجهد والمسؤولية؛ التدخلات الإدارية في عملية صنع القرار؛ دعاوى متعددة بسبب الأخطاء الطبية؛ وتراجع المكانة المهنية بين عامة الناس.
لم يكن الحال على هذا النحو دوماً. بدأ الاختراق الهائل لنتائج البحث العلمي إلى الممارسة الطبية في خمسينيات القرن الماضي، وهو ما كان يعتبر العصر الذهبي للطب العلمي. فقد تمتع الأطباء بعد ذلك بمكانة عالية، وحصلوا على أجور جيدة وأبلغوا عن رضاهم عن عملهم. في أوائل السبعينيات، أعرب أقل من 15% فقط من الأطباء في الولايات المتحدة عن أسفهم لاختيارهم المهنة. لكن خطأ ما حدث في تتمة الطرق. بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أفاد 30 -40% من الأطباء في البلاد أنه إذا أتيحت لهم الفرصة، سيختارون مهنة مختلفة، وقالت نسبة أعلى إنهم سيوصون أطفالهم باختيار مهنة مختلفة.
يمكن فهم جذر المشكلة من خلال الدراسات المهمة التي أجراها عالما النفس الأميركيان مارلين جاجانا وإدوارد ديزي. وقد حددا ثلاثة عوامل تؤثر على الدافع والرضا المهني: الاستقلالية، والشعور بالانتماء، والكفاءة. هذه العوامل، كما حاجج العالمان، مهمة بشكل خاص للمهنيين الذين يؤدون أدواراً معقدة تتطلب المرونة المعرفية والإبداع في حل المشاكل، مثل الطب.
في الأجهزة الصحية الحديثة في العالم الغربي النيوليبرالي، تضررت استقلالية الأطباء بشكل قاتل بسبب القيود الإدارية الصارمة. تم استبدال الشعور بالانتماء، الذي يقوم على التعاون بين الزملاء، بمنافسة لا حدود لها بينهم. وتم استبدال الكفاءة المهنية، التي تنعكس في السيطرة على نطاق واسع من المعرفة ومساحة من حرية التصرف، بالطاعة الصارمة للبروتوكولات.
وجد جاجانا وديزي أنه عندما تتضرر هذه العوامل، لا تؤدي المكافآت الخارجية - مثل زيادة الأجور - إلى تحسين الوضع، بل حتى قد تضعف الحافز وتزيد من الإرهاق.
العديد من الأطباء يواجهون في ممارستهم روتيناً يومياً
الحكمة العملية وفقاً لأرسطو هي القدرة على تطبيق المعرفة العامة على المواقف العينيّة، وتوجيه ما يجب فعله وما لا يجب فعله، وإظهار الطريقة الأمثل لتحقيق الأهداف "الجيدة"، وإعطاء نصائح جيدة لا تشكل جزءا من معرفة علمية، ولكنها ليست تخميناً أيضاً بل على أساس تحكيم المعايير والفهم العميقين.
في مجال الطب، يجمع العقل العملي بين المعرفة العلمية والمعرفة بالخصائص الفريدة للمريض الفردي، من أجل سد الفجوة بين ما يمكن فعله وما يجب القيام به. يتم الحصول على هذه الدّراية خلال عملية لا تنتهي من التعلم أثناء التجربة.
إن القدرة على فهم رغبات المريض وعالم خبراته ونظام الدعم الذي يحيط به تتطلب ليس فقط إتقان الطب ولكن أيضاً مناهج المؤرخ وعالم الاجتماع والفيلسوف. إن تحديد ظروف الضرر الذي يلحق برفاهية المريض الفردي ينطوي على معرفة الآليات التي تنشّط النظام البيولوجي البشري والعوامل المختلفة التي تعيق أداءه السليم. في المقابل، فإن اختيار التدابير اللائقة لتحسين حال المريض أو الحفاظ على سلامته يتطلب فحصاً نقدياً لجسم البحث السريري، وتكييف النتائج مع ظروف المريض نفسه.
الخبرة الشخصية ضرورية لتطوير العقل العملي بشكل عام وذلك الطبي بشكل خاص. لقد كتب أرسطو أنه لا يبدو أن هناك شاباً في العالم يمكن اعتباره حكيماً. والسبب هو أنه حتى التفاصيل الصغيرة تقع في مجال العقل، ولا يمكن معرفتها إلا من خلال تجربة طويلة، تشمل لقاءات مع المرضى، ومراكمة الخبرة في التكنولوجيا ومعرفة مزاياها ومحدودياتها، والتحديث المستمر للتغير المستمر في منظومة المعرفة.
إن استيعاب الإنجازات العظيمة للعلوم والتكنولوجيا واعتماد الأساليب العلمية لفحص الوسائل العلاجية الجديدة (البحث السريري الخاضع للرقابة) أعطى الطب التقليدي، كما ذكرنا، مكانته وسلطته المهيمنة في منتصف القرن العشرين. من ناحية أخرى، خلق أيضاً تعارضاً بين ممارسة الطب بناءً على الأدلة العلمية وبين الحكمة العملية الذي توجه النشاط العلاجي السريري. وقد فشل الطب في العصر الحديث في احتواء التناقض الذي تنطوي عليه عبارة "العلم الفردي".
أدى تطبيق مبدأ الموضوعية - إحدى ركائز المنهج العلمي - على الممارسة الطبية إلى تفضيل واضح لـ "البيانات الصلبة" التي تنتجها التقنيات المتقدمة وتستند إلى المعرفة البيولوجية، على "البيانات الناعمة" المتشكّلة بناءً على سردية المريض. وعليه تتم معالجة مشاكل المريض من منظور العيوب البيولوجية وسط تجاهل احتياجاته ورغباته كفرد.
بالإضافة إلى ذلك، أدى الانخفاض في أهمية الحكمة العلاجية السريرية إلى تأسيس نظام أجور يشجع على تقصير كبير في وقت مقابلة الطبيب والمريض، ويشجع أيضاً التخصصات التي تتعامل مع تطبيق التقنيات المتقدمة، مثل القسطرة والعمليات الجراحية المعقدة وما شابه. يعتمد الترويج للأدوية في المستوى الأكاديمي على المنشورات العلمية، ويشكل في كثير من الحالات الأساس لمكانتها وهيبتها العامة. وهكذا أصبحت الكفاءة العلاجية السريرية ذات أهمية ثانوية في الطريق إلى ما يعرف بالنجاح المهني.
بسبب كل هذا، يواجه العديد من الأطباء اليوم في ممارستهم روتيناً يومياً للعمل على خط الإنتاج بعد الثورة الصناعية. غالباً ما يضطر المرضى، الذين يتوقون إلى اكتساب الحكمة العملية، وللحصول على مشورة جيدة تسمح لهم باتخاذ قرارات مستنيرة تناسب احتياجاتهم الشخصية، إلى اللجوء إلى عوامل خارج مهنة الطب بما في ذلك الحاخامات والسحرة وغيرهم من الدجالين.
المطلوب تغيير في المفاهيم الأساسية
يمكن إيراد عدد لا يحصى من الحالات التي يتم فيها الكشف عن فجوات عميقة بين الاقتران الصارم للمرض بالعلاج المتقدم والمبتكر وبين فهم عالم المريض. سأقدم مثالاً واحداً يصف ذلك: منذ حوالي 10 سنوات، ذهبت (ن)، البالغة من العمر الآن 83 عاماً، وهي نشطة ومستقلة، لأول مرة إلى الطبيب بسبب آلام في الصدر، والتي تظهر عند القيام بجهد طفيف وتهدأ عند الراحة (الذبحة الصدرية). وخلال القسطرة وُجد أن هناك تضيقاً خطيراً في الشرايين التاجية التي تنقل الدم إلى عضلة القلب. خضعت (ن) لعملية جراحية، وعادت إلى أدائها الكامل، ولكن بعد عام عادت الذبحة الصدرية، ووجدت القسطرة أن أحد الأوعية التاجية كان مسدوداً مرة أخرى. فتحت القسطرة الوعاء وزرعت دعامة لمنع المزيد من الانسداد. هذا لم يساعد. وبعد ثلاث عمليات قسطرة أخرى ومعالجة دوائية معقدة، تمت إحالة (ن) إلى طبيب قلب متخصص في علاج الذبحة الصدرية المتكررة المقاومة لأساليب العلاج المعتادة.
كان الاجتماع بين (ن) والطبيب قصيراً. لقد قرأ التقارير الطبية، ونظر إلى صور القسطرة السابقة، وقال بعد 3 دقائق طويلة: سوف أضمك إلى إجراء قمت بتطويره مع آخرين منذ حوالي 10 سنوات. ومن دون منحها الوقت للسؤال أو الاكتشاف أو الاعتراض، اتصل الطبيب المتخصص بـ السكرتيرة وأبلغها أن تسجل "ن" في الموعد الشاغر التالي.
على الرغم من احتجاجات عائلتها وأصدقائها، الذين رأوا في طبيب القلب الذي عادته، أكبر الخبراء وصاحب آخر حكم، ذهبت (ن) لاستشارة طبيب عائلتها. والمثير للدهشة أن الطبيب - الذي رافقها على مدار الثلاثين عاماً الماضية - طلب منها وصف جدول أعمالها اليومي. أخبرته بأنها تقرأ كثيراً وتشاهد التلفاز وتطبخ قليلاً. بعد الظهر تذهب في جولة مشياً على الأقدام وتصل إلى المقهى المجاور لمنزلها، على مسافة حوالي 500 متر، وتلتقي أحياناً بأصدقائها وتعود إلى المنزل على نفس الطريق. أحياناً تسافر أيضاً إلى الأحفاد أو إلى المسرح أو إلى حفلة موسيقية.
متى تظهر الآلام؟ ألحّ عليها الطبيب المخضرم. قالت "ن": "في الطريق إلى المقهى، يجب أن أتوقف وأجلس على مقعد ثلاث مرات. أحياناً بسبب ألم في الصدر، ولكن أحياناً بسبب ألم في ساقيّ. كما أنني أعاني من ضيق الشرايين في عروق ساقيّ. وبعد دقيقة أو دقيقتين، يمر الألم وأستمر في طريقي. ومؤخراً، قمت بما يشبه العلاج الوقائي، وصرت أرتاح حتى قبل ظهور الألم". قال لها الطبيب: "هذا الإجراء مبتكر وواعد بالفعل. طبيب القلب الذي كنتِ معه هو بالفعل الخبير الأول في البلاد في هذا المجال. ولكن الفائدة القصوى التي ستحققينها لنفسك، بافتراض أن الإجراء ناجح تماماً، ستكون أنه في الطريق إلى المقهى، سيتعين عليك التوقف مرة واحدة بدلاً من ثلاثة – بالنسبة للمخاطر فمن تقارير عن 50 مريضاً من أحد المراكز الطبية الرائدة كانت هناك حالة موت واحدة وحالة واحدة لانسداد في عضلة القلب بعد العلاج".
في اليوم التالي، اتصلت (ن) بمكتب طبيب القلب وألغت الموعد، برغم الاحتجاجات الشديدة من زوجها وابنها. "هناك الكثير من المقاعد حولنا، وجدولي الزمني ضيّق للغاية"، طمأنت جميع القلقين على سلامتها.
إن الطب بدون حكمة عملية يزيد من الإحساس بالفجوة بين التوقعات والواقع، ومعه الشعور بالإحباط بين الأطباء. المجتمع المهني المحبط يفقد ثقة الجمهور. وفقدان الثقة يزيد من الإحباط وهكذا دواليك. من ناحية أخرى، فإن نظام الرعاية الصحية في حالة يرثى لها، ويتزايد الضغط على الأطباء ليصبحوا عمال إنتاج مطيعين.
إذا كانت مهنة الطب - كما يريد الجمهور ومن حقه - تريد البقاء على قيد الحياة، فيجب على المجتمع الطبي إعادة الحكمة العملية السريرية إلى مركز نشاط الطبيب. للقيام بذلك، يجب على المرء تغيير المفاهيم الأساسية، والانتقال من الطب الذي يطبق الأدلة العلمية باستخدام البروتوكولات القياسية إلى "العلم الفردي" - ذلك الذي يجمع بين المعرفة العلمية وبين البحث الفريد للمريض العيني. وللقيام بذلك لا يكفي تقصير المناوبات. بل هناك أيضاً حاجة إلى تغيير عميق في التعليم الطبي وبرامج التدريب وطرق دفع أجور ومكافأة الأطباء وترقيتهم.
___________________________
(*) كاتب المقال بنيامين موزس طبيب متخصص في الطب الباطني وعلم الأوبئة السريرية. ترجمة خاصة عن الإنترنت.