حتى الآن، تقوم هيئة حكومية إسرائيلية مؤلفة من وزراء بدور يمكن وصفه بالرقيب الأعلى، وهي صاحبة القرار الأخير في تقرير مصير ملفات ووثائق أرشيفية، انتهت مدة التكتّم عليها وفقاً للقانون. ويقول تقرير جديد لمعهد "عكيفوت"، الذي ينشط ضد فرض "السريّة" على وثائق ومعلومات أرشيفية حان وقت كشفها، إنه تم تفويض لجنة وزارية خاصة، برئاسة وزير العدل، للمصادقة على قرارات أرشيف الدولة الرسمي بمنع الكشف عن المواد الأرشيفية التي انقضت "فترة تقييدها"، والتبرير: أسباب تتعلق بالأمن القومي أو العلاقات الخارجية.
ويلاحظ تقرير جديد للمعهد، عنونه بـ "الأمور غير لطيفة" نسبة الى مقولة مسؤول سابق للأرشيف الرسمي الإسرائيلي في وصفه لما تضمنه عدد من الوثائق من تفاصيل خطيرة، أنه على الرغم من أن اللجنة بدأت عملها في أوائل الثمانينيات، إلا أن نطاق نشاطها محدود، وحتى يومنا هذا تم إغلاق القليل من الملفات والوثائق بموافقتها. ولكن المهم هو نوعية تلك الوثائق والمواد التي تواصل حجبها، والتي وصفها المعهد كـ "مواد أساسية لفهم تاريخ دولة إسرائيل، ولا سيما الأحداث والسياسات المهمة لفهم جذور وتطور الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني".
فقد أظهرت نتائج التقرير، وهو عبارة عن دراسة تاريخية جادّة، أن معظم نشاط تلك اللجنة الوزارية يتمحور في منع الكشف عن المواد الأرشيفية المتعلقة بالنكبة؛ أي الأحداث وجرائم الحرب التي ارتكبت خلال حرب 1948، وذلك بذريعة "الخوف من الإضرار بالأمن والعلاقات الخارجية" للدولة. هذه المواد محتجزة، خصوصاً، في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الإسرائيلي، ويفصل التقرير سلسلة من وثائق ظلت مخفية وسرية عن الجمهور لعقود. وهو يؤكد أن جذور سياسة الإخفاء والسرية تكشف وتوضح أن ما يقف خلفها هي اعتبارات سياسية وشكلية، لا تستند إلى أسباب مادية وقانونية لذلك.
يذكّر معهد "عكيفوت" في تقريره الراهن بورقة معلومات كان قد أصدرها في أيلول 2017 ومما جاء فيها أن القسم الأكبر من مواد الأرشيفات الإسرائيلية محجوب عن الجمهور. وعلى الرغم من أن قانون الأرشيفات يحدد مبدأ مفاده أن "كل شخص مخول بالاطلاع على المادة الأرشيفية المودعة في أرشيف الدولة"، لكن المعطيات تظهر أن الجمهور يُمنع من حق الوصول إلى الغالبية الساحقة من مواد الأرشيفات الحكومية الكبرى، خصوصا أرشيف الدولة، أرشيف الجيش ومنظومة الأمن.
أما الممارسة الأخرى التي يتوقف عندها البحث، وهي أكثر شيوعاً وجدية في إخفاء الوثائق في الأرشيفات الحكومية، فهي التي وردت بالتفصيل في تقرير سابق للمعهد عن المعيقات والحواجز التي تحول دون وصول الجمهور إلى الأرشيفات الحكومية وهي توصف بلا أقل من استخدام ذرائع كاذبة وتحريف الحقائق بغية منع الكشف عن مواد معينة.
الأرشيفات الحكومية.. إرث من الإخفاء لاعتبارات غير لائقة
يشدد التقرير على أنه لسنوات عديدة، تضمنت المعايير التي تم بموجبها اتخاذ قرارات كشف الوثائق في أرشيفات الحكومة، (أولاً في أرشيف الجيش الإسرائيلي وأرشيف الهاغاناه، ثم لاحقا في أرشيف الدولة) أحكاماً صريحة تمنع فتحها ومراجعة المواد الأرشيفية التي قد تضر بصورة الدولة والجيش الإسرائيلي وقادته.
في العام 1988، قُريب الوقت الذي بدأ فيه أرشيف الجيش الإسرائيلي بالكشف عن مواد للاطلاع عليها من قبل باحثين خارج مؤسسة الأمن، كتبت زهافا أوستفيلد، نائبة مدير أرشيف الجيش الإسرائيلي، وثيقة تهدف إلى تحديد الاعتبارات التي يعتمدها المسؤولون الضالعون في عملية الكشف عن مواد في أرشيف الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية. الوثيقة المعنونة بـ "تفاصيل المحاور ذات الحساسية الأمنية والسياسية والشخصية" والمختصرة بـ "وثيقة المحاور"، هي في الأساس قائمة بما تم تعريفه على أنه "عدد من المحاور الحساسة حتى اليوم"، ويقصد بها عدم فتحها للاطلاع العام.
عُرّف أحد "المحاور" بكونه "مادة يمكن أن تلحق الضرر بصورة الجيش الإسرائيلي كجيش محتل بلا أسس أخلاقية"، وهذا يشمل معلومات عن" سلوك عنيف ضد مدنيين وأفعال وحشية (قتل خارج ظروف وشروط المعركة، اغتصاب، سرقة ونهب)". مثلا، وردت قضية دير ياسين تحت عنوان "القضايا التي قد تثير جدلا سياسيا عاما". أما تحت عنوان "المواد المتعلقة بالصراع العربي اليهودي التي قد تضر بأمن الدولة حتى اليوم" فقد تم سرد العديد من الأمثلة، بما في ذلك "طرد عرب"، "قرارات سياسية ضد عودة عرب إلى إسرائيل"، "تهجير بلدات وسكان"، "هدم قرى" وغيرها. هنا تم ذكر عدة قضايا، منها "ريفتين، لاهيس والخالصة".
بشأن قضية تقرير ريفتين، يشير المعهد إلى ما كان نقله مطلع العام الجاري، وهو أنه بعد مرور 73 عاماً سمحت الرقابة العسكرية بالكشف عن النص الرسمي لتقرير بعنوان "تقرير ريفتين" الذي وثق جرائم قتل قامت بها عناصر منظمتي "الهاغاناه" (الدفاع) و "بلماح" (كتائب السحق) ضد عرب فلسطينيين وكذلك مهاجرين يهود، تم اختطافهم واحتجازهم. اسم التقرير منسوب إلى سياسي إسرائيلي من حزب "مبام" اسمه يعقوب ريفتين كلّفه دافيد بن غوريون حين كان رئيسا لـ"لجنة أمن المستوطنات"، في 10 شباط 1948، بالتحقيق في سلسلة من الحوادث التي اشتبه فيها بقيام أفراد "هاغاناه" بارتكاب جرائم خطيرة للغاية من بينها القتل والتعذيب خلال التحقيق، إضافة الى السرقة والنهب. وبعد حوالي ثلاثة أسابيع، قدم ريفتين إلى بن غوريون تقريراً يلخص إجراءات التحقيق التي قام بها.
على الرغم من أن وجود تقرير ريفتين لم يكن سرا، وتم نشر تفاصيل منه، إذ عُرف أن توصيات المحقق شكلت عاملاً مهماً في قرار تعيين المدعي العسكري العام في الجيش وإنشاء مكتب المدعي العسكري، وورد التحقيق مرارا في أدبيات العلوم السياسية والتاريخ، وتم الاستشهاد بنتائج التحقيق في الأحداث وإيراد الاستنتاجات – على الرغم من ذلك لم ينشر التقرير نفسه بالمرة، حتى هذا العام حين أبلغت الرقابة العسكرية "عكيفوت" بأنه ليس هناك ما يمنع النشر. ويجدر التنويه أن المعهد قدم إلى الرقابة العسكرية طلباً للنشر في تشرين الثاني 2017، أي أنه قد مرّ أكثر من 3 سنوات على اتخاذ قرار كشف التقرير.
أما بشأن ما يُعرّف في "وثيقة المحاور" كـ: "طرد عرب: سياسة الرد على متسللين، تعليمات لإيذاء متسللين حتى في حالة وجود شكوك، تعليمات بشأن استسلام العرب"، فمما يتوفّر من معلومات، أن شموئيل لاهيس الذي كان قائد سريةّ في الكتيبة 22 في لواء كرملي، اتّهمَ بقتل عشرات المدنيين في قرية الحولة اللبنانية في حادثين منفصلين، في 31 تشرين الأول واليوم التالي 1 تشرين الثاني 1948. هذا الضابط أدين في محكمة عسكرية بما اقترف وحُكم عليه بالسجن سبع سنوات. ولكن بعد الاستئناف، تم تقصير عقوبته إلى عام واحد في السجن، وفي يوم الاستقلال العام 1950، ألغى رئيس الدولة حاييم فايتسمان الحكم تماماً. وفي العام 1955، أصدر رئيس الدولة التالي إسحاق بن تسفي عفواً كاملا عن الضابط لاهيس (رغم قرار إدانة المحكمة العسكرية، يجب التنويه). قضية مشابهة هي محاكمة ثلاثة جنود متهمين بقتل أربع نساء عربيات في تموز 1948 بعد أن تم اعتقالهن على أراضي قرية الخالصة في الجليل الأعلى التي هُجّرت (كريات شمونه حالياً).
"وثيقة المحاور" غابت بنصّها وظلّت مهيمنة بجوهرها
حالياً، كما نُشر مع صدور التقرير، فإنه تم الإفراج عن عناوين الوثائق التالية التي عُرفت بأسمائها وهي: تقرير عن التهجير ضمن ملف وزارة الأقليات: 1948 – 1949 وهو معروف بعنوان "الأمور غير لطيفة" نسبة الى مقولة مسؤول الأرشيف؛ "تقرير ريفتين" عام 1948 الذي تناول نتائج تحقيق في جرائم حرب اقترفها عناصر "الهاغاناه"؛ بحث حول اللاجئين: 1964 كان طلب دافيد بن غوريون من باحثين إسرائيليين إعداده حول "الأسباب لهروب اللاجئين في 1948"؛ ملف دير ياسين وهو تقرير يتضمن صورا وضعته ميليشيا "الهاغاناه" عن المذبحة التي ارتكبها عناصر ميليشيات "الإيتسل" و"الليحي" في دير ياسين في العام 1948؛ صفحات من بروتوكولات اجتماعات الحكومة عام 1948 – 1949 تضم معلومات عن تهجير فلسطينيين وهدم قرى عربية، وجرائم نهب، وسطو، واغتصاب وقتل اقترفها عناصر "الهاغاناه" وجنود الجيش الإسرائيلي؛ 10 وثائق غير معروفة المضمون من أرشيف الجيش الإسرائيلي العام 1948؛ وتقرير باسم من أعدّه، وهو يعقوب شمشون شابيرا، في العام 1948، والذي جاء بطلب من بن غوريون حول ما "إذا استهدف الجيش حياة سكان عرب في الجليل وجنوب البلاد خلافاً لقوانين الحرب المتعارف عليها". وكان مدير الأرشيف الرسمي قال العام 1985 إن الوثائق فيها "أوصاف لأحداث مرعبة" بشأن التهجير الذي يتورط فيه زعماء سياسيون كبار.
يشدد البحث على أنه بالرغم من أن معايير الكشف عن المواد الأرشيفية قد تغيرت على مر السنين، وتوقف استخدام "وثيقة المحاور" من قبل أرشيف الدولة منذ سنوات عديدة، ووضع أرشيف الجيش الإسرائيلي معايير أخرى للكشف عن المواد الأرشيفية، لا تتضمن الأحكام الباطلة التي وجهته من قبل، فإن مواصلة فرض السرية على وثائق تقع تحت رحمة اللجنة الوزارية المذكورة، تبين أن الإجراء في جوهره ما زال مستخدماً لإخفاء الوثائق التي تتناول القضايا المدرجة سابقاً في "وثيقة المحاور". بكلمات أخرى، لم تعد "الوثيقة" مرجعية بنصّها، لكنها ما زالت مهيمنة بجوهرها وروحها.
خلاصة بحث "عكيفوت" هو أن السرية المستمرة لا تهدف إلى حماية مصالح الدولة خارجياً، بل داخلياً: لحماية صورة الجيش والوقوف ضد الخطاب المستند إلى الوثائق حول أسس الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وإن الإخفاء لا يصعّب على المؤرخين فحسب، بل يوجد له تأثير حقيقي على الخطاب الأكاديمي والعام والسياسي الإسرائيلي. إنه يهدف إلى الحفاظ على رواية رسميّة معقمة ومشوهة حول أسس الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وبالتالي يوجد له تأثير حقيقي وحاسم على أفق نهايته.
هذا الإخفاء المنهجي ينضم إلى إخفاء آخر أبسط وأكثر شيوعاً لمواد أرشيفية في إسرائيل: مسؤولون من ذوي الدرجات الوظيفية المنخفضة يقررون من تلقاء أنفسهم أو بالتشاور مع رؤسائهم عدم فتح مواد أرشيفية "حساسة" انتهت فترة تقييدها، واتخاذ القرار بشأن الإشارة إلى المادة على أنها "سرية" أو "سرية" حتى دون الخضوع لبنود قانون الأرشيفات. ويقول المعهد إن هذه هي أكثر الممارسات شيوعاً لإخفاء المواد الأرشيفية.
"عكيفوت" يقدّم ما يسميه جزءاً من الحل للوضع الحالي: يجب أن يكون مستخدمو الأرشيف - الباحثون الأكاديميون ونشطاء المجتمع المدني وصانعو الأفلام الوثائقية والصحافيون وغيرهم - على دراية بأحكام قانون الأرشيفات وأنظمة الاطلاع والمراجعة، وألا يترددوا في مناقشة إدارات الأرشيفات. لكن معظم المسؤولية تقع على عاتق الأرشيفات نفسها وخاصة على مسؤوليها: يجب أن يدركوا أن حماية المواد الأرشيفية ليست وسيلة مشروعة لمنع النقد وعرقلة النقاش التاريخي أو السياسي. يجب الحفاظ على هذه السرية فقط عندما يكون هناك خوف حقيقي من الإضرار بمصالح مهمة لحماية أمن الدولة أو علاقاتها الخارجية أو خصوصية المذكورين في الوثائق. استخدام هذه الأسس يجب أن يكون محدوداً ودقيقاً - وليس موسعاً وفضفاضاً. و"يجب عدم مواصلة التكتّم على التاريخ الإسرائيلي فقط لأن الأمور غير لطيفة"، كما يختتم المعهد بحثه.