نشأت ظاهرة "حيتان المال" في إسرائيل بعد عقود قليلة من "استقلال الدولة"، عبر عمليّة الخصخصة التي قادتها الحكومة لتحويل ممتلكات وشركات تغطّي وتخدم القطاع العام من الحكومة إلى رجال أعمال مستقلين.
وجاء ذلك من خلال الضغط المستمرّ والمكثّف الذي حفزتّه السياسة اليمينيّة الأيديولوجيّة في العام 1977، ومن جهةٍ أخرى بتأثير التوجّه العالميّ نحو الخصخصة كجُزء أساس من النسق النيوليبراليّ.
واليوم بعدَ مرور ما يقارب الأربعة عقود على هذا التحوّل، كيف تدير إسرائيل اقتصادها، وهل فعلاً استطاعت تحقيق سوق حرّة وأكثر تنافسية مما كانَ قبله؟
من المهمّ إلقاء نظرة على القوّة المتزايدة بنيوياً لـ"حيتان المال"، وكما أوضح المحلل الاقتصاديّ الإسرائيليّ غاي رولنيك في عدّة برامج ومقابلات فإن "حيتان المال" لن ينتهوا فقط حينما تقوم بسجنِ أحدهم، فالمسألة أكثر تعقيداً، وهي شبكة كاملة من رجال أعمال وشركات، والأهم هي سياسات حكوميّة.
وأعد الصحافيّ آفي بار- إيلي، مؤخراً، تقريراً في صحيفة "ذي ماركر" رصد فيهِ ثلاثة مسارات لتعامل الدولة مع "حيتان المال" وخاصّة في سوق الغاز الطبيعي، وأشار إلى أنه في الدول التي يسميها الديمقراطيّات الغربيّة نجد مساراً رابعاً هو الأكثر أهميّة، ولكنه غير متوفّر حالياً في الدولة، والقصد المواجهة السياسيّة لهذهِ الظاهرة، ثمّ محاصرتها وتفكيكها بنيوياً.
في هذا المقال سأحاول فهم آليات الدولة في الاحتواء الإيجابيّ لـ"حيتان المال" وكيفيّة التعاطي معهم، كما جاء في تقرير "ذي ماركر"، وسأحاول التطرق إلى الظاهرة ونشأتها.
والحديث عن مسارات الدولة الثلاثة للتعامل مع "حيتان المال" يتم من خلال التشديد على سوق الغاز، التي تعتبر مهمة بسبب استخدامات الغاز المتعدّدة في السوق والصناعات الإسرائيلية عموماً.
ولفت الدكتور روني هيلمان في مقال له على موقع "غلوبس"، إلى أن "سعر الغاز الطبيعي في إسرائيل من الأهم في العالم، باعتباره أحد المكوّنات الأساسيّة للمعيشة". وأضاف أن معظم المنشآت الصناعية والكهربائية والمائية والصناعية الكبيرة، بما في ذلك إسمنت البناء، يتم إنتاجها باستخدام الغاز. ومن هنا أهمية سوق الغاز والاحتكار الجاري راهناً على أيدي شركات مثل "ديلك" و"نوبل".
المسار الأول: "الدولة تدفع"
يتسم سوق الغاز في إسرائيل بارتفاع شديد في الأسعار في إثر هيكليّة السوق الاحتكارية، وعلى سبيل المثال إبان أزمة كورونا انخفضت أسعار الغاز في العالم وتراجعت أسعار الطاقة عموماً، وبينما يباع الغاز (لكلّ وحدة حرارة) بأكثر من 4.8 دولار، انخفضت الأسعار على العقود الفورية في أوروبا والولايات المتحدة إلى 1.7 دولار. وهذهِ الأسعار بقيت مرتفعة في إسرائيل بسبب احتكار مجموعتي "ديلك" و"نوبل". وما زالت المجموعتان تبيعان الغاز بمبلغٍ مرتفع وتجنيان من ذلك أرباحاً، على حساب الدولة وشركة الكهرباء الحكوميّة. وبنية الاحتكار الذي تمارسه "ديلك" و"نوبل" لسوقِ الغاز الطبيعيّ، تتأسس على المبلغ المرتفع للغاز، ودفع هذهِ الأسعار بمليارات الشواكل من الأموال العامة، كـ"علاوة وضمان احتكاري". وتضيف "ذي ماركر" أن شركة الكهرباء تستمرّ في الدفع "دون التشكيك في السعر ودون الاستفادة من فرص الخروج من العقد؛ وبالتالي، وافقت على طلب شركات الغاز لإجراء تغييرات على العقد لصالحها". وهذهِ البنية الاحتكاريّة هي نتيجة صفقة الغاز في العقد الأخير.
وبحسب تقرير مراقب الدولة، في أيار 2017، فإن التنبؤات غير الصحيحة وقلة التنسيق بين الهيئات الحكومية تسببتا في خسارة لمستهلكي الكهرباء تقدر بـ7.2- 8.3 مليار شيكل (2- 2.3 مليار دولار)، وفي عدم الاعتماد على السعر الأدنى للغاز كما جاء في خطة الغاز الحكومية التي وافق عليها الكنيست في العام 2015.
وأشار التقرير أيضاً إلى "وجود فجوة كبيرة بين الاتفاقية الموصوفة في "خطاب النوايا الأولى" للمفاوضات الموقعة من قبل الطرفين، والاتفاقية النهائية الموقعة، والتي أصبح فيها سعر الغاز باهظ الثمن"، وتم على أساس السعر الباهظ إنشاء آليات الترابط (والتي تعنى بالحفاظ على السعر في ظلّ الأزمات والتضخم) وفي إثر ذلك لحقَت بالاقتصاد أضرار جمّة. ومن المهمّ الإشارة إلى أن هذهِ الاتفاقيّات هي جزء من بنية احتكاريّة، تضمن الحفاظ على دور شركات الغاز الكبيرة، من جهةٍ الحكومة تخسر وعموم المواطنين يدفعون، ومن جهةٍ أخرى تغطي الشركتان متطلبات الغاز في الدولة، مع ضمان أرباح باهظة.
وأوضح التقرير أن الدفع الباهظ من قبل الحكومة والأموال العامة للشركتين جرى من خلال تعهّد شركة الكهرباء بشراء كميات كبيرة من الغاز بناء على تقديرات مفرطة للطلب المتوقع، متجاهلةً وجود توقعات أخرى، اتضح أنها أكثر دقة. وتبيّن لاحقاً أن هذهِ الاتفاقيّات كانت في صالحِ الشركتين، وأيضاً كانَت لها آثار سلبيّة على السوق عموماً.
وهكذا تتضح لنا معالم المسار الأول أمام الدولة، وهو الدفع للشركتين بطرقٍ عدّة وملتوية على القانون، وتصبح الشركتان أكثر قوةً ومتانةً وتثبّت موقعهما كـ"حيتان المال".
المسار الثاني: "الدولة تغمض عينيها"
أورد التقرير في "ذي ماركر" أن الصحيفة اطلعت على مصادر تبيّن انتهاكات قامت بها "ديلك" و"نوبل" منها: 1) عدم الالتزام بالترتيبات التقييدية؛ 2) رفعتا الأسعار بشكل تعسفي؛ 3) أجبرتا العملاء على توقيع عقود شديدة القسوة؛ 4) اعترضتا على المنافسين؛ 5) تهددان الحكومة والدولة السيادية بأنه في حال أتاحت التنافس في قطاع الطاقة والغاز ستقومان بفصل خطوط أنابيب أساسية لاقتصاد الدولة.
فكيف تردّ الدولة و"هيئة المنافسة الحكوميّة" ورئيستها ميخال هلبرين؟
يقول التقرير ساخراً من عدم تصرّف الدولة: "تتخذ الشركتان كلّ استفزاز ممكن لجذب الانتباه من السيدة هلبرين، كما لو أنهما تشعران بالملل من الفراغ التقييدي الذي تعملان فيه، وتبحثان عن بعض الإجراءات"، مما يبيّن ببساطة أن الدولة وهيئتها "تغمض عينيها"، عن التصرّفات التي يصفها التقرير بأنها "خطر استراتيجي أمني".
الهيئة أيضاً لم تقم بواجبها إبان انخفاض السعر العالمي للغاز، الذي كان من المتوقع أن ينعكس في السوق المحليّة، إلا أن الشركتين كانت لهما خطط أخرى ولم تسمحا بانخفاض السعر كما جاء في تقرير آخر لـ"ذي ماركر" في آب 2020. وتجسدّت قوة الاحتكار في حزيران 2020، حينما جاءت فرصة لشركة الكهرباء لشراء الغاز بأسعار أدنى من الخارج إبان أزمة كورونا، وفي إثر ذلك هدّدت الشركتان ضمنياً بأن شراء الغاز الرخيص في الخارج يمكن أن يؤدي إلى إجراءات قانونية. وكان من المتوقع في الوضع الحالي لاقتصاد الطاقة المحلي والانخفاض الحاد في أسعار الغاز العالمية، أن تتصرف الدولة بشكل عاجل وحاسم لتخفيف قبضة الاحتكار على سوق الغاز، ولو بشكل طفيف، إلا أنها بقيت صامتة.
المسار الثالث: "الدولة تطيع وتقلّص الخسارة"
حذر نائب المدعي العام، المحامي آفي ليخت، منذُ العام 2014، من عواقب الهيمنة التي تفرضها "ديلك" و"نوبل" على مكامن الغاز في جميع الشركات الثانويّة والدولة عموماً. ونقلت "ذي ماركر" عن ليخت قوله "إن قوة السوق التي تبنيها الشركتان تثير قلقاً يتجاوز مواضيع السعر والمنافسة تجاه مجالات أخرى، وخصوصاً قدرتهما على التأثير في عملية صنع القرار في اقتصاد الدولة عموماً". وقد تحققت هيمنة الشركتين كاملةً على سوق الغاز، مما يتيح لهما الهيمنة على قطاعات أخرى في الدولة.
ويتضح أن الدولة والوزارات المختلفة وافقت على أن تتيح هذهِ القوّة للشركتين وأن "تطيع رغباتهما"، وتسليم الخطوط وأنبوب الأكسجين الأساسيّ للدولة ليدِ شركة أجنبيّة، كما جاء في تقرير "ذي ماركر". ليسَ ذلك فقط، بل تساعد في "تعبيد طرق جديدة" للهيمنة والاحتكار سواء من خلال القانون أو السياسات الاقتصاديّة، في ثلاثة "موانع رئيسة" وفقاً للدكتور هيلمان؛ المانع الضريبي لكلّ شركة تريد البحث عن خزان غاز جديد، إذ سيكون عليها أن تدفع ضريبة 60% كاملة من الدخل المتوقع. والنتيجة: لا تأتي شركات مهنية من الخارج إلى إسرائيل للتنافس في احتكار الغاز. ومانع البنية التحتية، حيث يُطلب من أي شركة جديدة تحاول العثور على الغاز والتنافس مع الاحتكار القائم بناء بنية تحتية من غير المرجح استخدامها بمئات الملايين من الدولارات. والمانع القانوني، ويتجسّد في منع شركات جديدة من البحث عن الغاز وكسر الاحتكار، من خلال ترتيبات قانونيّة وعوائق في نقل الملكيّة.
والملفت للنظر أن احتكار سوقِ الغاز ليس الوحيد في الاقتصاد الإسرائيليّ. فعلى سبيل المثال، مجموعة إنتاج واستخراج موارد البحر الميّت الطبيعيّة، المتنوعة والعديدة، مجموعة "أي. سي. إل" (ICL)، تأسست في العام 1968 كمجموعة حكوميّة، إلا أنه في العام 1992 قامت الحكومة ببيعها ضمن المرحلة الثانية والتي عُرفت بالمرحلة الذهبيّة للخصخصة، والتي تضمنت شركات كبرى ومهمّة. وأوردت "ذي ماركر" أنه منذ حوالي العام قررت شركة "أي. سي. إل" عدم دفع ضريبة الأرباح الفائضة الكاملة والتي تعرف بـ"ضريبة شيشنسكي"، التي حددتها لها مصلحة الضرائب، لمجرد أنها تعترض عليها. ولفت التقرير إلى أن مبلغ الضرائب لا يقل عن 200 مليون دولار، "كان من المفترض أن يتدفق إلى صندوق الدولة. ومن شأن هذا الإيداع تمويل نفقات أزمة كورونا، على سبيل المثال". بالتالي عدم المراقبة وإلزام "حيتان المال" بالقانون ثمّ الدفع أدى إلى خسارة أموال طائلة، وما يميّز هذهِ الخسارة أنها تأتي ضمن غضّ الطرف إلى حد طاعة الشركات الكبرى المهيمنة على أهم قطاعات الموارد والصناعات، وعدم مواجهتها سياسياً. وأيضاً تتهرّب هذهِ الشركات من الدفع من خلال الثغرة المتواجدة فيما يتعلّق بـ"ضريبة شيشنسكي"، فهي تدفع ضرائب وفقاً للمادة 11 من قانون الضرائب على الأرباح من الموارد الطبيعية، إلا أنها تعمل على "تأجيل مبالغ الضرائب المتنازع عليها حتى نهاية التحقيق في الأمر. وبعبارة أخرى، يخلق القانون حافزاً لشركات الموارد الطبيعية لتأجيل دفع الضرائب تحت أعذار مختلفة وغريبة، ثم جرّ سلطة الضرائب إلى المحاكم لسنوات دون دفع".
أتاحت هذهِ الثغرات القانونيّة عدم الدفع من قِبل مجموعتي الغاز "ديلك" و"نوبل" ومجموعة شركة استخراج الموارد الطبيعيّة من بحر الميّت "أي. سي. إل"، وأيضاً تحدّي أجهزة حكوميّة وتهديدها.
عن اضمحلال الدولة مقابل قوّة "حيتان المال"
أوضح المحاضر والأنثروبولوجي جاسون هايكل، في ورقة بعنوان "النيوليبراليّة ونهاية الديمقراطية"، أن الحريّة الاقتصاديّة بدون تقييدات تتيح تراكم القوّة بيدِ مجموعة من الشركات وأصحاب المصالح، وتقتضي الانهيار التدريجيّ للآليات الديمقراطيّة وأهمها قدرة الناخبين والشعب على التأثير في السياسات الاقتصاديّة. ويوضّح ذلك قائلاً "إن النيوليبرالية تميل إلى تقويض السيادة الوطنية للدولة، لدرجة أن برلمانات الدول المستقلة المفترضة، لم تعد لديها سلطة على قرارات سياستها الخاصة بل تحكمها بدلاً من ذلك البنوك الأجنبية، وخزانة الولايات المتحدة، والاتفاقيات التجارية، والمؤسسات الدولية غير الديمقراطية، وكلها تمارس نوعاً من قوّة السيطرة غير المرئية".
نجد إذن أن تقويض سيادة الدولة هو نتيجة ديناميكيّات وسياسات نيوليبراليّة، وخاصّة في سياق إسرائيل التي أعادت بناء اقتصادها منذ أواخر سبعينيّات القرن الماضي ومرّت في عدّة مراحل لـ"خصخصة الشركات الحكوميّة"؛ المرحلة الأولى بينَ الأعوام 1977-1985 والمرحلة الثانية بين 1986-1990، وأسست هذهِ المراحل بدورها أساساً صلباً للنيوليبراليّة.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذهِ السياسات بدأت مع اليمين، إلا أن اليسار تبناها أيضاً للحفاظ على هيمنة الطبقة الأشكنازيّة التي يمثلّها من خلال بيع ممتلكات الدولة لها، كما جاء في تقرير لـ"مركز أدفا" في عام 2006 بعنوان "ثلاثة عقود على الخصخصة". وبعد ذلك اجتمعت "اللجنة الحكوميّة لشؤون الخصخصة" واتفقت على عدة أهداف أبرزها: خروج الحكومة من قطاع الأعمال والخدمات وتوسيع مقومات المنافسة فيه؛ جذب الاستثمار الأجنبي ودمج الاقتصاد الإسرائيلي في النشاط الاقتصادي التجاري الدولي؛ الحصول على المبلغ المناسب للشركات المُراد بيعها؛ مرونة سوق العمل، وتوسيع رأس المال. وأدى ذلك إلى تشكّل ظاهرة "حيتان المال" في إسرائيل، وأتاح تراكم قوّة الشركات في مقابل اضمحلال القوّة السياديّة للدولة.