المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 998

قال المؤرخ الإسرائيلي عوفري إيلاني إن اليسار الإسرائيلي (الصهيوني) حاول في الانتخابات الأخيرة أن يعيد إنتاج نفسه ولكن محاولته هذه باءت بالفشل.

وجاءت أقوال إيلاني هذه في سياق تحليل نشره في صحيفة "هآرتس" وتطرّق فيه إلى تلك المحاولات كما انعكست في تحالفين هما تحالف حزبي العمل و"غيشر" وتحالف "المعسكر الديمقراطي، بين ميرتس وحزب جديد أنشأه رئيس الحكومة السابق إيهود باراك، الذي كان رئيساً لحزب العمل أيضاً.

 

وفيما يلي ترجمة لهذا التحليل:
كانت الانتخابات الأخيرة في إسرائيل تجربة في تأسيس نوع جديد من اليسار. وفشل التجربة يتطلب استنتاجات عاجلة. فكل من يتابع صفحات بنيامين نتنياهو أو يائير نتنياهو أو غيره من مسؤولي الدعاية في اليمين على الفيسبوك، سوف يستنتج أن اليسار هو القوة الأكثر نفوذاً في إسرائيل وأنه يقف وراء أي قرار يُتخذ ويجري في البلاد. ويتفق المراقبون الأقل تحيزاً على أن الوضع الأيديولوجي في إسرائيل في حالة سيئة. وعلاوة على ذلك: كان هناك لسنوات طويلة في إسرائيل ادعاء بأنه "في إسرائيل لا يوجد يسار حقيقي". وفقاً لهذه الحجة، ليس اليسار في إسرائيل صغيراً فحسب - بل إنه غير موجود على الإطلاق. فبعد كل شيء، يجب أن يمثل اليسار الحقيقي مصالح الفقراء والطبقة العاملة – كما يجدر أن يليق باسم "حزب العمل". لكن في الممارسة العملية، نرى أن المعسكر الذي تم تحديده في إسرائيل على أنه اليسار، هو معسكر يؤيده أولئك المحسوبون على الأعشار الأعلى (الشرائح الاقتصادية الأقوى وفق تدريج يقسمها الى عشر درجات – المحرّر)، ويميل إلى أن يكون مؤسسياً، وأشكنازيا وبرجوازيا أيضا.

ليس للطبقات الدنيا، التي هي في معظمها ذات أصول شرقية، أي سبب للتصويت لصالح نفس التيار "اليساري الأبيض" الأشكنازي الذي يتألف من ورثة حزب "المباي" التاريخي. وبالاعتماد على أشكال وتوجهات مختلفة من المفاهيم الماركسية التي صيغت في القرن التاسع عشر، فإن أولئك الذين يحملون ذلك الرأي عن اليسار الإسرائيلي يحاججون بأن القيم الليبرالية للتنوير والحرية هي عديمة المعنى بالنسبة لفقراء يقاتلون على أساسيات عيشهم. وهكذا، وفق هذا المنظور، لن ينمو في إسرائيل يسار حقيقي إلا عندما يتم إنشاء حركة جماهيرية اجتماعية ديمقراطية طرفيّة وشرقية على أنقاض "المباي" الذي تخفى في زيّ اليسار.

قيل لنا إن هناك يساراً آخر

وها هي هذه الحجة قد وضعت على المحك في الانتخابات الأخيرة. إنشاء تحالف "غيشر" وحزب العمل هو الأقرب إلى تجربة سياسية تسعى الى تأسيس يسار اجتماعي. لأول مرة في العقود الماضية، ظهرت محاولة جادة للتغلب على شذوذ اليسار الإسرائيلي، الذي يعتبر ناخبوه في الواقع جزءاً من البرجوازية العليا. زعيم القائمة، عمير بيرتس، وأورلي ليفي- أبكسيس شرقيان. وشملت القائمة أيضاً نشطاء اجتماعيين راديكاليين مثل الناشطة كرمل ألمكيس- عاموس.

لقد تنبأ بعض أنصار عقيدة "ضرورة ارتباط اليسار بالمناطق والبلدات الطرفيّة" بأن هذا التحالف سوف يؤدي إلى جذب جماهير جديدة، بحيث يجلب قوة تعادل أكثر من عشرة مقاعد إلى البرلمان (الكنيست)، ومصدرها الناخبون الذين امتنعوا حتى الآن عن دعم اليسار. لكن هذا لم يحدث. وبالرغم من أنه لم يتم القضاء على حزب العمل في نهاية المطاف، إلا أنه تم إنقاذه فقط من خلال حملة تفجّع واستغاثة في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية. على الرغم من زيادة إقبال الناخبين في بعض المدن الطرفية، فقد تمت إضافة أصوات قليلة له من الناخبين القلائل المؤيدين لليفي- أبكسيس في أحسن الأحوال. لقد أسفر الارتباط مع حزب ليفي عن نتيجة تقل عن مجموع أجزائها.

قد يحاجج البعض بأن من يتحملون مسؤولية هذا الفشل هم ناخبون تقليديون لحزب العمل في كيبوتسات وبلدات قوية اقتصادياً، انتقل بعضهم بعد الاتحاد مع "غيشر" إلى تأييد "المعسكر الديمقراطي" (تحالف "ميرتس" وحزب تزعّمه رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك، ومنشقون عن "العمل" – المحرّر) أو إلى تحالف "كاحول لافان (أزرق أبيض)". في الواقع، قد يكون سبب هرب الأصوات هذا مدفوعا بالعنصرية؛ لكن على أية حال، فإن التحرك السياسي الذي يؤدي الى تقلّص في الناخبين، من دون أن يحضر آخرين مكانهم، يعتبر بالتأكيد تحركاً فاشلاً.

أصبح العمل من سقط المتاع

حوالي نصف مؤيدي ليفي- أبكسيس في البلدة التي تتحدر وتعيش فيها "بيت شان" (بيسان) رفضوا التصويت لحزب العمل. لقد حاولت الأحزاب اليسارية إعادة إنتاج نفسها، لكنها تحطمت تقريباً في الطريق إلى الكنيست. وهكذا ففي الحساب الختامي، لا يزال دعم "العمل- غيشر" يعتمد على بقايا مجموعة الناخبين القديمة نفسها التي صوتت تقليدياً لحزب العمل. من هذه الناحية فإن تجربة بيرتس لم تسِر على ما يرام. وصحيح أن السياسة ليست علماً دقيقاً، ومن النادر إجراء تجارب تحقق فرضياتها فيها. قد يحاجج البعض بأن حزب العمل لم يصبح بعد حزبا اشتراكيا يضم مجتمعات الأطراف، أو سيقدم بعض آخر مجموعة من التفسيرات الأخرى لفشله. ولكن يتعين عليهم إثبات أن قائمة أخرى مكانه كانت ستحدث التغيير المنشود في حالة اليسار. ومن الجدير التوقف عند هذا الاستنتاج، مع الأخذ بالاعتبار مدى عناد الحجج المناهضة لـ "اليسار الأبيض الزائف". ينبغي بالمعسكر الذي يرى أن مستقبل اليسار منوط ومشروط بالارتباط بالمجتمعات الشرقية أن يعيد النظر على الأقل في فرضياته. لست متأكداً على الإطلاق من أن طرح اليسار الاجتماعي في هذه المرحلة لديه جمهور كبير. وقد يكون ذلك بمثابة إنكار للتحولات الجذرية الحاصلة لدى أفراد الطبقة العاملة وابتعادهم عن المشروع اليساري العلماني الكوني - وليس فقط في إسرائيل، وإنما في أماكن أخرى من العالم.

صوت تنبيه منهك

ومع ذلك، فمن الواضح أن خطوة بيرتس ليست التجربة السياسية الوحيدة في الانتخابات الأخيرة التي أدت إلى خيبة أمل. فميرتس من جانبها، في تجسدها كمركب في "المعسكر الديمقراطي"، لم تكن أفضل بكثير. فهذا الحزب لم يرفع من قوته وفي الوقت نفسه انتقل بعيداً عن الخط الحمائمي المميز الذي التزم به بشكل منهجي.

ميرتس تواصل التعبير عن قيم التنوير والعقلانية، التي تمت صياغتها في القرن الثامن عشر؛ ولكن في المناخ السياسي الراهن، يبدو هذا الصوت وكأنه صوت تنبيه منهك - أشبه بصوت خافت يشتكي من "أن الأمور ليست بخير"، ولكن ليس واضحاً من أية حنجرة متعبة ينطلق. هذه المرة انضمت ميرتس إلى إيهود باراك - وهو الرديف المعاصر بمفهوم ما "للملك الفيلسوف" فريدريك الكبير، القائد العسكري الوحشي في القرن الثامن عشر والذي كانت يداه ملطختين بالدماء لكنه ارتبط بصداقات مع فلاسفة كبار (وقام حتى بتأليف بعض الأعمال الموسيقية). لكن الانضمام إلى الجنرال المغرّد (إشارة الى كثرة تغريداته على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" – المحرّر) لم يسهم في تعزيز صوت التنبيه وجعله صوتاً عالياً واضحاً ذا حضور حقيقي. هذا الحزب الذي كان يدعمه في السابق العديد من الشباب أصبح الآن حزباً متقدماً في العمر ومتعباً.

وهكذا، في هذه الانتخابات، قدم اليسار الصهيوني خيارين متميزين نسبياً: "المعسكر الديمقراطي"، حزب من نمط القرن الثامن عشر؛ و"العمل- غيشر"، وهو حزب من نمط القرن التاسع عشر - أي حزب اجتماعي يتوجّه إلى البروليتاريا ويقوده زعيم من الطبقة العاملة. كلا النهجين قد فشلا أو حققا نتائج سيئة. ويجب أن يضاف في هذا السياق "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" غير الصهيونية، أحد المركبات الأربعة في "القائمة المشتركة" - وهي حزب يساري من نمط القرن العشرين، وهي مكملة درب الحزب الشيوعي الذي كان مدعوما من "الكومنتيرن" – وتشكل الخيار المفضل للمثقفين الماركسيين.

ولكن بدلاً من استلهام القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، من الجدير باليسار النظر بتمعّن في واقع القرن الحادي والعشرين، وتحديد القوى والمصالح والصراعات السياسية الحقيقية الموجودة في هذا الوقت: القوى الناشئة في عالم رقمي فرداني تمت خصخصته، يتعرّض لهزّات هائلة وسط إعصار من الذعر عالي الانفعال.

وما لا يقل أهمية عمّا سلف، ربما حان الوقت للتخلص من الادعاء بأن "اليسار الإسرائيلي ليس يسارا"، فهذا يعني أن اليسار المحلي ينكر أي جوهر لا يمكن بدونه تسميته باليسار (كما لو كانت تسمية اليسار سلعة بمثل هذه الشعبية في الوقت الحاضر). الوجود سابق على المعنى، كما تعلمنا من الفلاسفة الوجوديين. اليسار هو ما هو عليه، وليس هناك يسار آخر. كذلك، وبالنظر إلى سوابق الماضي، ليس واضحاً على الإطلاق ما إذا كان "اليسار الحقيقي" المرغوب هو خيار أكثر نجاحاً من "اليسار المزيف" الموجود اليوم لدينا.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات