المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

شهدت الأسابيع الأخيرة سلسلة من التقارير الصحافية التي استعرضت أبحاثاً منها ما زال العمل جارياً عليها، تعالج هاجس القلق الذي يضرب المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، من ارتفاع نسبة المتدينين المتزمتين "الحريديم" من بين إجمالي السكان، ولكن بشكل خاص بين اليهود الإسرائيليين وحدهم، ورغم أن التقارير لا تحمل الجديد، إلا أنها تكشف إلى أي مدى هذه المسألة تقلق إسرائيل على المديين القريب والأبعد.

وتكثّف نشر التقارير بعد أن قلبت كتلتا الحريديم، شاس لليهود الشرقيين، ويهدوت هتوراة لليهود الأشكناز، كل تقديرات الاستطلاعات التي كانت تتنبأ قبل انتخابات نيسان بتراجع القوة الإجمالية لهاتين الكتلتين، من 13 مقعدا إلى 11 مقعدا، وحتى كانت هناك استطلاعات راهنت على احتمال أن لا تعبر شاس التي كان لها 7 مقاعد في انتخابات 2015، نسبة الحسم في انتخابات نيسان 2019، بمعنى أنها لن تحقق 4 مقاعد. إلا أن نتائج نيسان فاجأت كل معاهد استطلاعات الرأي، بأن حصلت كل واحدة من الكتلتين على 8 مقاعد، بمعنى 16 مقعدا لهما، بدلا من 13 مقعدا في العام 2015. وقد استفادت الكتلتان في حينه من عاملين: الأول تراجع طفيف في نسبة التصويت، بسبب تراجع نسبة تصويت العرب، والثاني حرق ما يعادل 8% من الأصوات، بالذات من معسكر اليمين الاستيطاني، لقوائم لم تعبر نسبة الحسم، ما قلص عدد الأصوات المطلوبة للمقعد البرلماني.

وكان من المفترض أن تخسر القائمتان مقعدين في انتخابات أيلول 2019، بفعل ارتفاع نسبة التصويت بشكل طفيف، بسبب ارتفاع كبير في نسبة تصويت العرب، وعدم احتراق أصوات سوى بنسبة 3%، بمعنى أن عدد الأصوات للمقعد الواحد ارتفعت قياسا بنيسان بنسبة 8%. إلا أن الحريديم حققوا ذات عدد المقاعد، مع فارق بأن حصلت شاس على 9 مقاعد، بينما حصلت يهدوت هتوراة على 7 مقاعد، وقد خسرت مقعدها الثامن ببضع عشرات من الأصوات، ليصب لصالح حزب الليكود.

وقد ضمن الحريديم هذه النتيجة، بسبب حصول شاس على مقعدين من أصوات يهود شرقيين ليسوا من الحريديم، كانوا قد منحوا أصواتهم لحزب "كلنا" المنحل بزعامة موشيه كحلون، في انتخابات 2015 وانتخابات نيسان 2019.

ولكن في كل الأحوال، فقد ظهر جمهور الحريديم ثابتا، تدلي غالبيته الساحقة جدا بأصواتها لصالح شاس ويهدوت هتوراة، ولذا فإن القائمتين ليستا قلقتين في حال جرت انتخابات برلمانية ثالثة في شهر آذار المقبل.

ويقول تقرير جديد لصحيفة "ذي ماركر" إن معدل الولادات يتراجع عند غالبية الشرائح باستثناء الحريديم. ففي حين كان معدل الولادات للمرأة الواحدة من الحريديم قبل عامين في حدود 8ر6 ولادة للأم، فإن المعدل ارتفع في السنة الأخيرة إلى 1ر7 ولادة للأم، مقابل 5ر4 ولادة للأم المتدينة من التيار الديني الصهيوني، وهذا أيضا تراجع عما كان حتى قبل عامين- 8ر4، في حين أن معدل الولادة لدى العلمانيات سجل في السنوات الأخيرة ارتفاعا، من أقل من 2 ولادة حتى قبل سنوات قليلة إلى 2ر2 ولادة في السنة الأخيرة. بينما لدى الأم العربية يواصل المعدل بالانخفاض، وهو حاليا حوالي 4ر3 ولادة للأم العربية، مقابل 5 ولادات في مطلع سنوات التسعين. ومعدل الولادات الأعلى لدى العرب نجده بالذات في بلدات صحراء النقب في الجنوب.

وبحسب تقديرات مكتب الإحصاء المركزي فإن نسبة الحريديم حاليا من إجمالي السكان 5ر12% من دون احتساب القدس المحتلة ومرتفعات الجولان السوري المحتل، وهذا يعني 2ر15% من إجمالي اليهود الإسرائيليين، ولكن أبحاثاً أخرى تقول إن نسبة الحريديم هي في حدود 5ر13% من إجمالي السكان حاليا. ويتوقع مكتب الإحصاء ارتفاع نسبة الحريديم من إجمالي السكان إلى 20% في العام 2040، وإلى 32% في العام 2065، طالما استمرت وتيرة التكاثر السكاني على حالها.

وكان العنوان الرئيسي لتقرير "ذي ماركر" أن ما بين 15% إلى 18% من الحريديم يتركون مجتمعاتهم سنويا ويتجهون نحو العالم المفتوح، بغالبيتهم ينتقلون إلى حياة أقل تشددا دينيا، ويتجهون إلى التعليم العصري وسوق العمل، ومنهم من يتخلى كليا عن التدين ويتجه إلى العلمانية. ولكن التقرير يستعرض عدة أبحاث منها ما انتهى حديثا ومنها ما هو قيد التنفيذ، كما هي حال بحث يجري حاليا في معهد الديمقراطية الإسرائيلي، ويظهر في كل المعطيات أن هناك تضارباً كبيراً. فمثلا يقول استطلاع بشريحة نموذجية واسعة أجراه مكتب الإحصاء المركزي أن 12% من الحريديم، من الشريحة العمرية 20 إلى 24 عاما، يتركون مجتمع الحريديم.

ويقول البحث، الذي يجري اعداده في معهد الديمقراطية الإسرائيلي، إن وتيرة الخروج من مجتمع الحريديم ظاهرة أكثر بين شبان اليهود الشرقيين السفاراديم، ويدعي البحث أن نسبتهم 30%، بادعاء أن هؤلاء أبناء عائلات انضمت إلى الحريديم إما كانت علمانية أو من التيار الديني الصهيوني.

وعلى الرغم من هذه النسب التي تعد عالية، إلا أن كل التقارير تجمع على أن الحريديم يتزايدون باستمرار، بسبب التكاثر السكاني الطبيعي بينهم الذي بات يتجاوز نسبة 8ر3%، وهذا قبل احتساب أعداد الذين يتدفقون على جمهور الحريديم من باب التدين أو التشدد في التدين.

ورأى أحد الأبحاث أن قرابة 4% ممن أعمارهم ما بين 40 إلى 49 عاما انضموا إلى الحريديم في العام 2018، وهبطت النسبة إلى حوالي 7ر2% بين من أعمارهم تتراوح ما بين 30 إلى 39 عاما، ونسبة 7ر1% ممن أعمارهم ما بين 20 إلى 29 عاما.

وفي كل الأحوال، لا توجد في إسرائيل احصائيات دقيقة لعدد الحريديم، بل هناك تقديرات تعتمد على العديد من الحسابات، أولا أولئك الذين في تجمعات سكانية مغلقة عليهم، وفي هذه الحالة 9 مستوطنات في الضفة المحتلة كلها من الحريديم، ولكن مشكلة الإحصاء هي في حصر أعداد الحريديم المنتشرين في مختلف المدن المختلطة دينيا، وهنا يتم استخدام استطلاعات للرأي تعتمد على سؤال المستطلع عن طابع حياته، ولكن هذا النمط من الصعب أن يعكس حقيقة الأعداد.

وهناك جانب آخر يمكن الاستناد اليه كتقدير تقريبي، هو نتائج الانتخابات البرلمانية، إذ أن الغالبية الساحقة جدا من الحريديم تصوت فقط للقوائم التي تمثلها، ويضاف اليها حوالي 5% إلى 6% من الحريديم الذين يقاطعون الانتخابات من باب عدم اعترافهم بإسرائيل، وتكفير الصهيونية. وهؤلاء غالبيتهم الساحقة جدا تعيش في القدس المحتلة، ولا يحملون الجنسية الإسرائيلية الكاملة.

هاجس قلق

وكما ذكر في سلسلة من التقارير على مدى السنوات الأخيرة، فإن أعداد الحريديم هي هاجس القلق الأكبر للمؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، وأيضا للحركة الصهيونية، وهذا بسبب طبيعة حياتهم المتزمتة، وسعيهم المتواصل للسيطرة على الحيز العام، فأينما ترتفع نسبتهم من بين إجمالي أعداد سكان البلدة أو المدينة، يلاحظ ارتفاع نسبة العلمانيين الذين يغادرون المكان، وهذا يبرز بشكل خاص في مدينة القدس، وقبل هذا ظهر في مدينة بيت شيمش، غربي القدس، حتى باتت المدينة تحت سيطرة شبه كاملة للحريديم، ورئيس البلدية منهم.

وتسعى إسرائيل بشكل خاص في السنوات الأخيرة، لتفكيك مجتمع الحريديم، أو تقليصه، تحت تسميات مختلفة، على الرغم من أن الحكومات كلها تواصل دفق الميزانيات الضخمة على مؤسسات الحريديم، ما يعزز قوتهم في الإمساك بجمهورهم، الذي تمتنع غالبية رجاله (51%) من الانخراط في سوق العمل، ونسبة نسائه في سوق العمل ما بين 52% إلى 56%، كما أن هذا الجمهور بغالبيته الساحقة يرفض الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش، برغم توجهات هذا الجمهور اليمينية المتشددة.

والمشروع الأكبر الذي تسعى إسرائيل لتمريره ويلقى معارضة شديدة من كتلتي الحريديم، ومن القيادات الدينية العليا لهذا الجمهور، هو فرض إلزام جارف على شبان المتدينين بالخدمة العسكرية. وهذه القضية ساهمت في تفكيك حكومة بنيامين نتنياهو في شهر تشرين الثاني 2018، إذ أقر الكنيست مشروع قانون أعده الجيش يضمن تجنيدا تدريجيا لشبان الحريديم مع تسهيلات، واعفاء قسم منهم، إلا أن القانون الذي أقر بالقراءة الأولى واجه معارضة من كتلتي الحريديم، وبالذات من كتلة الأشكناز يهدوت هتوراة، ما منع الاستمرار في تشريع القانون، وأسفر عن خروج حزب "يسرائيل بيتينو" بزعامة أفيغدور ليبرمان من الحكومة.

وكانت هذه القضية نقطة خلاف أساسية بين ليبرمان ونتنياهو بعد انتخابات نيسان 2019، إذ ضمن نتنياهو 60 نائبا لائتلافه، وكان بحاجة لكتلة ليبرمان التي تضم 5 نواب، وهذا ما لم يحصل، ما قاد إلى انتخابات ثانية جرت في 2019.

وفي تقارير عديدة عن الجيش الإسرائيلي يظهر أنه قلص حجم القوى البشرية فيه مع السنين، ما يعني أن الجيش ليس بحاجة بالضبط لهذه القوى البشرية من الحريديم، ولذا، وفق التقديرات، فإن المؤسسة الإسرائيلية ترى بانضمام شبان الحريديم إلى الجيش خطوة أولى لهم نحو العالم المفتوح، وبحسب التقديرات بعد خدمة كهذه فإن نسبة جدية من شبان الحريديم سيكون من الصعب عليها استمرار التأقلم في مجتمع الحريديم المنغلق على نفسه، وتسود فيه حياة تقشفية بعيدة كلياً عن العصرنة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات