المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعريف: منذ نحو عقد نشر موشيه يعلون، أحد أقطاب تحالف "أزرق أبيض"، كتاباً أكد فيه من ضمن أمور أخرى أن "العملية السياسية" بين إسرائيل والفلسطينيين التي أطلقتها اتفاقيات أوسلو هي "مجرّد وهم كاذب". وكتب بهذا الشأن قائلاً:

كانت الطريق التي أفضت إليها اتفاقات أوسلو مرصوفة بالأخطاء التي ارتكبها الطرفان. يقينا أن لدى الإسرائيليين أسبابا وجيهة لمراجعة أعمالهم، فالسياسيون والقادة الذين نصبوهم فوقهم تصرفوا أحياناً بطيش وتسرع وإهمال وفي أحيان أخرى بانغلاق وفظاظة، وحتى بتسيب وعدم مسؤولية تامة في بعض الحالات. ومع ذلك فإن الزعامة الإسرائيلية والزعامة الفلسطينية لا تتحملان مسؤولية متساوية في الفشل الحاصل، وذلك لسبب بسيط جداً: كانت الأولى معنية حقاً بسلام دائم وسعت إليه، في حين لم تأل الثانية جهداً- بشكل مقصود وغير مقصود- في سبيل إفشاله. وللأسف الشديد فإن "الشريك" الذي علقت الدولة اليهودية عليه آمالها

بتحقيق المصالحة التاريخية كان ياسر عرفات. وعلى مدى سنوات طوال اعتبر عرفات في نظر الإسرائيليين أسوأ عدو لهم، ولم يكن ذلك عبثاً أو محض صدفة. فقد قاد عرفات منذ الستينيات (في القرن العشرين) واحدة من أشرس الحروب الإرهابية في العصر الحديث، والتي أزهقت أرواح آلاف الأبرياء. وقد جاءت اتفاقيات أوسلو لتوفر له فرصة لـ"يولد من جديد"؛ فهذه الاتفاقيات لم تنقذ المنظمة التي تزعمها من إحدى الفترات الأصعب في تاريخها وحسب، بل ووفرت له أيضاً شرعية دولية وصورته في أعين الكثيرين- الذين اشمأزوا من أعماله في الماضي- كزعيم وطني شجاع. فلم يكن يخطر في بال أحد، إبان السبعينيات والثمانينيات، أن هذا الزعيم "الإرهابي" الذي أعلن حرباً شعواء على الصهيونية وعلى الشعب اليهودي سيقف ذات يوم إلى جانب رئيس حكومة إسرائيل ووزير خارجيتها ليتسلم جائزة نوبل للسلام.

ربما يكون عرفات قد غيّر جلده لكنه لم يغيّر ما في داخله. فهو لم يتخل ولو للحظة عن تطلعه ورغبته في رؤية زوال الدولة اليهودية. والفلسطينيون بزعامته اعترفوا في الظاهر بـ"حق إسرائيل في العيش بسلام وأمن"، لكنهم رفضوا قطعياً تعريفها الصهيوني، ومن وجهة نظرهم فإنه لا يوجد ولم يكن لليهود حق في وطن قومي يهودي في أرض إسرائيل. وقد اضطر إسحاق رابين إلى التخلي عن المطلب بمثل هذا الاعتراف في اتفاقيات أوسلو واكتفى بتعهد عرفات بإلغاء البنود التي تنكر حق إسرائيل في الوجود، من الميثاق الوطني الفلسطيني. ولغاية اليوم يمتنع المتحدثون الفلسطينيون- وحتى المعتدلون بينهم- من التعبير عن تأييد حل "دولتين لشعبين". وهم يدعون في أحسن الأحوال إلى إقامة دولتين بين النهر والبحر، دولة فلسطينية، وأخرى "ثنائية القومية"، أو "دولة جميع مواطنيها". هذه الحقيقة تبيّن مدى خطأ الرأي السائد الذي يرى في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني نزاعاً على أرض وحدود. وفي نظر الفلسطينيين فإن المأساة الحقيقية لشعبهم ليست "الاحتلال" في العام 67 وإنما العام 48، والذي أفضى إلى قيام إسرائيل وحوّل الكثيرين منهم إلى لاجئين. لهذا السبب فإنهم يرفضون بشدة التنازل عن حق العودة الذي يعني سحب الأرض من تحت أقدام الكيان الصهيوني و"تصحيح الظلم التاريخي" الذي أحاق بهم.

من ناحية عرفات- الذي عبر في هذا الموضوع عن إجماع واسع في صفوف الزعامة الفلسطينية- كانت اتفاقيات أوسلو مجرد منصة انطلاق إلى المرحلة التالية في الصراع ضد إسرائيل. وكما هو معروف فإن المنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتش أكد أن "الحرب ما هي إلا استمرار للسياسة، لكن بوسائل أخرى". من وجهة نظر الفلسطينيين، كانت السياسة وما زالت استمراراً للحرب بطرق أخرى. وفي المحصلة فقد منح مسار أوسلو الدبلوماسي منظمة التحرير الفلسطينية موطئ قدم شبه سيادي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو إنجاز استراتيجي لم تكن المنظمة تأمل بتحقيقه لو أنها تمسكت بطريق الإرهاب فقط. مثل هذا الانجاز بَرَّرَ حتى القيام بخطوات تصالحية تجاه العدو الصهيوني، بقي معظمها مجرد تصريحات.

على أرضية هذه الإستراتيجيا المزدوجة الوجه، والتي تسخر الدبلوماسية في خدمة المعركة ضد الدولة اليهودية، يمكن فقط فهم لماذا رفض عرفات ورجاله نبذ طريق العنف بعدما حصلوا على موطئ القدم المنشود في الضفة والقطاع. وبدلاً من استثمار كل جهودهم في بناء الدولة، فضل الفلسطينيون أن يقيموا في المناطق التي سلمت لهم كياناً إرهابياً شبه منظم.

في أيلول 2000، وبعد سنوات من الغليان الهادئ والصدامات المتفرقة التي استخدمت لـ"التسخين" استعدادا للقادم، شن الفلسطينيون هجوماً دموياً واسع النطاق على إسرائيل. وبدأت هذه الهجمة، التي حظيت بالتسمية المضللة "انتفاضة الأقصى"، في الظاهر، كاحتجاج شعبي على زيارة أريئيل شارون لـ "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف)، لكنها كانت فعليا خطوة مدروسة خطط لها قبل ذلك بوقت طويل. فالسبب الحقيقي لاندلاعها يكمن في قمة كامب ديفيد في تموز 2000، والتي قدم خلالها رئيس حكومة إسرائيل وقتئذٍ، إيهود باراك، مقترحات سخية جداً للفلسطينيين، وتشمل إقامة دولة على منطقة تقدر مساحتها بتسعين في المئة من الضفة الغربية وكامل قطاع غزة، إضافة إلى نقل أحياء عربية في القدس الشرقية لسيادة فلسطينية، وكل ذلك من منطلق الاستعداد لـ "إنهاء النزاع بثمن مؤلم" حسب قول باراك.

لكن عرفات رفض هذه المقترحات لأنه لم يكن يرغب في مثل هذه النهاية للنزاع، فهو لم يكن معنيا أبداً بحل يستند إلى دولتين قوميتين تعيشان بسلام جنباً إلى جنب، وعندما كان يتعين عليه مد يده إلى مصالحة جريئة زُعم أنها ستضع حداً للنزاع، آثر العودة إلى طرقه القديمة. وكان انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان قبل شهر واحد من قمة كامب ديفيد، قد عزز ثقة عرفات بإمكان كسر إرادة الإسرائيليين عن طريق استخدام القوة. من هنا فإن زيارة شارون لـ "الحرم الشريف" وفرت له فقط الذريعة لشن الحرب الشعبية "البطولية" التي حلم بها فترة طويلة كما يبدو.

طوال "الانتفاضة" لبس عرفات طاقيتين، طاقية رجل الإطفاء وطاقية مشعل الحريق. فمن جهة، ظل كثيرون يرون فيه الرجل الوحيد القادر على خفض ألسنة النيران، لكن من دون إخمادها كلياً. ومن جهة أخرى، وبعيداً عن الميكروفونات وعدسات كاميرات التلفزيون، واصل دون توقف صبّ الزيت على النار.

 

المصطلحات المستخدمة:

موشيه يعلون, الصهيونية, حق العودة, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات