المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أثارت تصريحات أمير أوحانا، وزير العدل الجديد في الحكومة الإسرائيلية المؤقتة (حتى انتخاب الكنيست الـ 22 في 17 أيلول القادم، ثم تأديتها اليمين الدستورية) التي هاجم فيها الجهاز القضائي والمحكمة العليا في إسرائيل موجة عارمة من النقد الشديد، حتى أنها (هذه التصريحات) أخرجت عن صمتهما كلاً من رئيسة المحكمة العليا، القاضية إستير حيوت، والمستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، وهما المنصبان اللذان يمتنع من يشغلهما، في العادة وفي الغالب، عن الخوض في أية نقاشات سياسية أو أي سجال سياسي مع أي من المسؤولين السياسيين.

افتتح أوحانا سلسلة تصريحاته الجديدة هذه في الكلمة التي ألقاها خلال حفل نظمته "نقابة المحامين" لتأهيل فوج جديد من المحامين في إسرائيل (يوم 10 حزيران الجاري)، فقال إن "من يريد مصلحة الجهاز القضائي في إسرائيل ينبغي أن يكون مستعدا لتوجيه النقد له، وهو ما يعني أيضا إجراء تغييرات فيه". وأضاف: "التغيير يعني الإصلاح والإصلاح لن يتحقق إذا ما رضخنا أمام صرخات بالية تدعي وتحذر من "نهاية الديمقراطية" و"تدمير سلطة القانون" حيال أي تحرك عن الوضع القائم". وأضاف أنه "لا مناص من الاستنتاج بأن السلطة القضائية هي الأقل ديمقراطية من بين السلطات الثلاث" (إضافة إلى التشريعية/ الكنيست والتنفيذية/ الحكومة) لأن "قضاة المحاكم لا يتحملون أية مسؤولية عن نتائج قراراتهم ولا يخضعون لانتخاب الجمهور كل أربع سنوات ليحصلوا على ثقته"!! ولأن "القضاة لا يتخذون قراراتهم بناء على اعتبارات مهنية فقط، بالضرورة"!!

لكن أوحانا لم يتوقف عند ذلك، بل توغل أكثر في الهجمة ضد الجهاز القضائي والمحاكم، وخاصة المحكمة العليا، وذلك خلال المقابلة التي أجريت معه في النشرة الإخبارية في القناة التلفزيونية الثانية (يوم 12 حزيران) إذ عاد على تصريح كان أدلى به قبل سنوات وقال فيه إنه "ليس إلزامياً تنفيذ جميع قرارات الحكم القضائية التي تصدرها المحكمة العليا الإسرائيلية" (!!) لأن "الاعتبار الأعلى والأكثر أهمية يجب أن يكون المحافظة على حياة المواطنين"!! وهو تصريح غير مسبوق في الساحة السياسية والقضائية الإسرائيلية.

رغم أن أوحانا كان قد أطلق في السابق تصريحات كثيرة ضد المحكمة العليا وقضاتها خصوصا (وصفهم بأنهم "عصابة سلطة القانون"، في تغريدة على حسابه في "تويتر" في الشهر الماضي!) والجهاز القضائي عموما وشارك في مبادرات تشريعية، أو كان المبادر في بعضها، للتضييق على المحكمة العليا وتقليص صلاحياتها، إلا أن جميع تلك التصريحات والمبادرات كانت ضمن نشاطه السياسي ـ الحزبي كعضو في الكنيست مندوباً عن اليمين وحزبه الأكبر، "الليكود"، بينما تأتي تصريحاته الجديدة الآن وهو يشغل منصب وزير العدل، المسؤول المباشر عن الجهاز القضائي ومحاكمه ورئيس "لجنة تعيين القضاة" فيها. وهذا، تحديدا، ما جعل هذه التصريحات في غاية الخطورة، حسبما أكد عدد كبير من أساتذة الحقوق الجامعيين، المعلقين القضائيين والصحافيين وكذلك السياسيين.

من بين التصريحات التي أدلى بها أوحانا في الماضي، قبل تعيينه وزيرا للعدل، ويكشف من خلالها عن حقيقة آرائه ومواقفه في كل ما يتعلق بالوضع القانوني في البلاد، بالجهاز القضائي وبالمحكمة العليا، نشير إلى ما يلي:

- في العام الماضي (2018)، وخلال مقابلة تلفزيونية، رفض أوحانا اعتبار الجهاز القضائي "جهاز عدل". ومع تفجر فضيحة رئيس نقابة المحامين السابق، إيفي نافيه، والشبهات بأنه استغل منصبه لتعيين وترقية مرشحات لسلك القضاء مقابل رشى جنسية، قال أوحانا: "عندما تتكشف التفاصيل، سيعرف الجمهور مدى العفن ونشوة القوة في الجهاز القضائي".

- في العام 2017، في أعقاب قرار المحكمة العليا منع الاستمرار في احتجاز جثامين شهداء فلسطينيين بموجب القانون القائم، قال أوحانا إن الحكومة "قد تقرر عدم احترام قرارات المحكمة العليا"! وأضاف: "أعتقد أن المحكمة العليا تقترب أكثر فأكثر من نقطة تضطر الحكومة فيها إلى حسم موقفها: هل نواصل احترام قرارات المحكمة العليا وتنفيذها طالما هي تتدخل في قرارات المحكمة بهذه الدرجة من الفظاظة؟ ... فإن ما يحصل (من طرف المحكمة العليا) هو، بكل بساطة، بمثابة انقلاب ضد الحكومة"!

- في مقابلة مع موقع "ميداه" اليميني في شهر كانون الثاني الأخير، تطرق أوحانا إلى المبادرة التشريعية التي كان شريكا فيها بشأن تعيين المستشارين القانونيين في الوزارات المختلفة، فقال: "في البداية كنت أعتقد أنه من المناسب أن يقوم الوزير نفسه بتعيين مستشار قانوني لوزارته، كي يساعده على تنفيذ سياسته التي انتُخب من أجل تطبيقها. لكنني اكتشفت لاحقا مدى معارضة هؤلاء الذين اعتادوا على السيطرة والتحكم من دون أن يتم انتخابهم ـ الحقوقيون واليسار ـ فتعمقت قناعتي بضرورة هذه المبادرة".

- عبر أوحانا مرات عديدة عن تأييده لتعديل قانون الحصانة البرلمانية ـ كما يريد نتنياهو الآن ـ ولسن "فقرة التغلب" التي تسمح للكنيست بإعادة سن أي قانون تلغيه المحكمة العليا بدعوى "عدم دستوريته". وفي إحدى الندوات في مدينة بيتح تكفا، قال أوحانا: "إن صاحب السيادة هو الجمهور وهو الذي يتخذ القرارات اللازمة من خلال منتخَبيه وبواسطتهم، لأن هذه هي الديمقراطية. وإذا ما أبقينا على هذا الوضع الذي تتدخل فيه المحكمة العليا في كل شيء، فما حاجتنا إلى الانتخابات إذن؟ فلتنتخبوا المحكمة العليا وكفى". وعن "فقرة التغلب"، قال: "أنا أؤيد، لأنها تعطينا جوابا على سؤال: من هو صاحب السيادة في النظام الديمقراطي ـ هل هو الجمهور الواسع أم شلة صغيرة من القضاة؟". وفي مقابلة إذاعية قبل شهر واحد من تعيينه وزيرا للعدل، قال أوحانا إن "هنالك حاجة إلى تعديل قانون الحصانة. إنه قانون ضعيف وعاجز، وخصوصا في عالم قضائي كالذي نعيش فيه في حالتنا نحن".

تبعات تدميرية وفوضى عارمة

هذا التصريح الأخير، الذي يقول فيه وزير العدل إنه "ليس من الواجب وليس من الإلزامي احترام قرارات المحاكم وتنفيذها"، أثار غضباً واضحا لدى أوساط قضائية وحقوقية، بل وسياسية، واسعة جدا في إسرائيل تجسد في الخطوة الاستثنائية التي أقدمت عليها رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت (استثنائية لأن قضاة المحاكم إجمالا وفي العادة يلتزمون الصمت في أية مواضيع أو نقاشات خلافية) فخرجت لتردّ بصورة علنية حادة على ما قاله الوزير معلنة: "هذا الكلام يعبر عن وجهة نظر غير مسبوقة وعديمة المسؤولة"! وقالت: "إنني أنظر بخطورة بالغة جدا إلى أن وزير العدل في دولة إسرائيل يختار في يوم تنصيبه مشاركتنا وجهة نظره القانونية غير المسبوقة وعديمة المسؤولية بأن ليس من الواجب احترام وتنفيذ جميع قرارات الحكم الصادرة عن المحاكم... كل طرف بإمكانه منذ الآن، وبمباركة صريحة من وزير العدل في دولة إسرائيل، اختيار أي قرارات الحكم هي التي يريد احترامها تنفيذها وأيها لا"! وحذرت حيوت من تبعات وجهة النظر التدميرية هذه قائلة: "بين وجهة النظر هذه وبين الفوضى العارمة ـ المسافة قصيرة جدا".

وامتدحت رئيسة المحكمة العليا المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت (بكونه المسؤول عن "تفسير القانون" للحكومة ووزرائها وعن تبيان ما هو قانوني وما هو غير قانوني لهم) الذي سارع إلى توضيح الأمر للوزير الجديد و"إفهامه أن واجب الانصياع لقرارات الحكم القضائية التي تصدر عن المحاكم هو من المسلمات التي لا يمكن أن يكون عليها أي نقاش أو استئناف في النظام الديمقراطي"، ثم "تذكيره (الوزير الجديد) بأن ولاءه الأعمى لرئيس الحكومة دفعته إلى الدعوة إلى الرفض القضائي"، بينما "الانصياع لقرارات المحاكم ليس من بين الإمكانيات الخاضعة للاختيار، بل هو واجب ملقى على كل مواطن وعلى كل ذراع سلطوية".

وكان مندلبليت قد أصدر بيانا شخصيا خاصا عقب فيه على تصريحات الوزير الجديد وأوضح فيه أنه "في دولة إسرائيل، كدولة يهودية ديمقراطية تقوم على مبدأ سلطة القانون، فإن واجب احترام قرارات الحكم القضائية الصادرة عن المحاكم هو من المسلمات التي تشكل ضمانة لحماية حق أي مواطن في الدولة". وأكد مندلبليت أن الانصياع لقرارات المحاكم "ليس موضع اختيار، بل هو واجب ملقى على كل مواطن وعلى كل الأذرع السلطوية، أياً كانت".

أما عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش ("اتحاد أحزاب اليمين")، الذي كان مرشحا لإشغال منصب وزير العدل في الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي لم يفلح نتنياهو في تشكيلها في نهاية المطاف (وهو ما تسبب في حل الكنيست وإجراء انتخابات عامة جديدة، في أيلول القادم)، فقد هاجم رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، وكتب في تغريدة له على موقع "تويتر" إنه "ينبغي النظر بخطورة بالغة لحقيقة أن رئيسة المحكمة العليا تجيز لنفسها انتقاد وزير العدل المنتخب بصورة حادة وعلنية". وأضاف سموتريتش: "فيما يتعلق بالموضوع نفسه، فإن الانصياع للقوانين أهكم بكثير من الانصياع لقرارات المحاكم. حين تكون قرارات المحاكم مبنية على قاعدة الانصياع لقوانين الكنيست، لن تكون أية مشكلة في الانصياع لها، بروحها ونصها".

من جهته، اعتبر أستاذ القانون في "الجامعة العبرية" في القدس سابقا والمحلل القانوني في صحيفة "هآرتس" حاليا، البروفسور مردخاي كريمنتسر، أن تعيين عضو الكنيست أمير أوحانا لمنصب وزير العدل في إسرائيل هو "خطوة في غاية الخطورة"، لأن "الاعتبار الوحيد الذي يشغل بال رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ويدفعه إلى هذا التعيين هو: من هو الشخص الأكثر ملاءمة لتخليصه من ورطة المثول أمام القضاء في شبهات الفساد الخطيرة المنسوبة إليه، رسميا؟".

وكتب كريمنتسر (6 حزيران) إن "مصلحة من قرر التعيين تلقي بظلال كثيفة على من فاز بالتعيين... رئيس الحكومة يتوقع وينتظر المقابل على هذا التعيين من خلال خدمة شؤونه وغاياته الشخصية. وكون التعيين مؤقتا حتى الانتخابات يضع أوحانا في امتحان: إذا لم يلب رغبة سيده بالتمام والكمال في مسألة تخليصه من الإجراءات القضائية، فلن يفوز بهذا المنصب ثانية بعد الانتخابات القادمة في حال فاز فيها نتنياهو وشكل الحكومة الجديدة".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات