المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يوما فقط كانت كافية كي يعي اليمين الاستيطاني أن تحالفه السياسي الأساس ليس كافيا لتماسكه، فهناك صراعات حزبية ومنافسات شديدة بين الشركاء المفترضين لحكومات بنيامين نتنياهو والليكود، انعكست في قفز أفيغدور ليبرمان على قضية الصراع العلماني الديني، بعد أن رأى أن لا حكومة من دونه، وأن نتيجة "الحضيض" التي حصل عليها تنذر بقرب زواله عن الخارطة، فقرر خوض المناورة التي قادت لحل الكنيست. إلا أن الانتخابات المعادة ستعيد توزيع المقاعد من جديد، بشكل ملحوظ، خاصة وأن الشراكات التي تفككت ودفعت ثمنا قاسيا لها تحاول إعادة بناء نفسها، وبضمنها "القائمة المشتركة"، التي فقدت ثلاثة مقاعد في انتخابات نيسان.

وقد سجلت انتخابات نيسان 2019 ثلاث ميّزات، أولها أنه للمرّة الأولى منذ انتخابات 1996 أفرزت الانتخابات كتلتين، حازتا معا على أكثر من نصف مقاعد البرلمان، 70 من أصل 120 مقعدا، وزعت بالتساوي بين حزب الليكود وتحالف "أزرق أبيض". كذلك فإن الليكود مع شركائه حققوا للانتخابات الثانية على التوالي أغلبية حاسمة 65 مقعدا، ما كان يعني بالافتراض أن يشكل بنيامين نتنياهو حكومته الخامسة، بشكل سريع نسبيا. إلا أن هذا لم يكن، بل ولأول مرّة في العقود السبعة للكيان الإسرائيلي يتم حل الكنيست، بعد 50 يوما من انتخابات نيسان، والتوجه إلى انتخابات إعادة، تجري بعد 5 أشهر من الانتخابات السابقة (في 17 أيلول 2019).

وكان واضحا التماسك السياسي اليميني الاستيطاني بين شركاء نتنياهو المفترضين، وبضمنهم أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا)". فقد كان هناك توافق على تعميق سياسة الاحتلال، والاتجاه نحو ضم المستوطنات، تحت غطاء أميركي من صفقة القرن، وقبلها الاعتراف بضم القدس ومرتفعات الجولان السورية المحتلة. كما برز التوافق التام حول إقامة "حامية برلمانية" لمنع محاكمة نتنياهو بالفساد، إذا ما صدر قرار نهائي بهذا الخصوص، وتوافق أشد حول سن قانون يقيد صلاحيات المحكمة العليا، خاصة في مجال نقض قوانين أقرها الكنيست، أو قرارات حكومية.

إلا أنه في خضم هذا التوافق، والرقص حول موقدة الحكومة المقبلة، كان هناك من عمّق النظرة بشكل أكبر في نتائج الانتخابات: أفيغدور ليبرمان، الذي سجّل ذروة غير مسبوقة، وتقتصر على شخصه، في تاريخ الخارطة السياسية الإسرائيلية، وهي أنه على مدى 20 عاما يقود وحده حزبا يتمثل بشكل دائم في الكنيست، وسجل في انتخابات 2006 و2009 ذروة بتمثيل 11 و15 مقعدا. وأحزاب مثله قامت على أساس شخص واحد لم تصمد طويلا، ومنها ما حل بعد ولاية أو اثنتين. فقد رأى ليبرمان أن مقاعده الخمسة التي حصل عليها هي المفتاح لقيام حكومة نتنياهو، ومن دونه لن تكون حكومة. وبذات الوقت، رأى بنتائج الانتخابات نذير خطر الزوال في الانتخابات المقبلة. فالقاعدة الأساسية التي ارتكز عليها منذ ظهوره على الساحة، المهاجرون من دول الاتحاد السوفييتي السابق منذ سنوات التسعين ولاحقا، قد تقلصت كثيرا لعدة أسباب، منها أن هذه الشريحة باتت تندمج أكثر بالمجتمع الإسرائيلي، سياسيا واجتماعيا، ولكن أيضا لأن ليبرمان خان كل شعارات العلمانية التي أطلقها على مدى السنين، في كل مرّة كان يدخل فيها إلى الحكومة، ولم يكن يحارب قوانين الإكراه الديني أو يخفف من حدتها، وهذه مطالب أساس لأولئك المهاجرين.

وليبرمان تنبّه لهذه المسألة بعد انتخابات 2015، التي حصل فيها على 6 مقاعد. وبعد أشهر من تلك الانتخابات بدأ يتحدث عن عزمه التوجه لجمهور يميني استيطاني، ويميني متشدد، مناهض لسطوة المتدينين المتزمتين الحريديم على الحكم، وعدم سريان قانون التجنيد الالزامي على شبانهم، الذين يحصلون على ميزانيات ضخمة لمؤسساتهم الدينية. وكان ليبرمان آنذاك في المعارضة، ولمدة أكثر من عام، من بدء عمل حكومة نتنياهو الرابعة، ولكنه دخل لاحقا إلى الحكومة، وتجاهل هذا الجمهور.

وبعد حصول "يسرائيل بيتينو" على 5 مقاعد، تنبه ليبرمان إلى المهمة الأساس الأولى التي تقف أمام الحكومة، وهي إنجاز قانون التجنيد الالزامي لشبان الحريديم، وهو القانون الذي صاغه الجيش، وأقره الكنيست بالقراءة الأولى في تشرين الثاني من العام الماضي. في حين أن الحريديم حققوا نتيجة فاجأت الجميع، 16 مقعدا مناصفة، بين كتلتي شاس ويهدوت هتوراة، اللتين طالبتا بتخفيف حدة القانون، لضمان اعفاء أوسع لشبان الحريديم. ورأى ليبرمان أن إصراره على إقرار القانون كما هو يحقق له مكاسب سياسية مستقبلية، وهذا ما دلّت عليه استطلاعات الرأي التي تلت حل الكنيست، إذ منحته زيادة ما بين مقعدين إلى 4 مقاعد. ولكن من السابق لأوانه حسم نتيجة ليبرمان، وعلى الأغلب سيحقق زيادة لقوته. لذا فإن الهدف الذي وضعه نتنياهو هو ضمان ائتلاف يرتكز على 61 نائبا من دون ليبرمان في انتخابات أيلول المقبل. في حين أن كل الأحزاب الشريكة لنتنياهو تتهم بصوت واحد ليبرمان بعدم قيام حكومتهم.

في مطلع الأسبوع الجاري، أطلق ليبرمان فقاعة تحد، اعتقادا منه أنها ستقرّبه إلى جمهور علماني أوسع. فقد أعلن أن الحل الأمثل بعد الانتخابات قيام حكومة وحدة قومية، تجمع الليكود وتحالف "أزرق أبيض" وحزبه "يسرائيل بيتينو"، من دون كتلتي الحريديم، على أن يكون أمام الحكومة سن قانون تجنيد الحريديم كليا، وبناء ميزانية من دون امتيازات زائدة للحريديم، ومن ثم من يقبل بحكومة كهذه يستطيع الانضمام.

ورغم أن هذا سيناريو أقدم نتنياهو على شبيه له بعد انتخابات 2013، وعلى أساسه أقام حكومة دامت 20 شهرا، إلا أنه يبدو أكثر صعوبة في المعادلات القائمة حاليا في الحلبة السياسية الإسرائيلية، واحتياجات نتنياهو الخاصة والسياسية.

دحرجة الأزمة

من السابق لأوانه معرفة نتائج انتخابات أيلول المقبل، فهذا مرتبط بعوامل كثيرة، من أهمها إعادة تشكيلات القوائم، وخاصة إعادة تشكيل تحالفات سابقة، سنأتي عليها. وهناك شك، ليس قليلا، في أن يكون بمقدور بنيامين نتنياهو تحقيق أغلبية 61 نائبا من دون حزب "يسرائيل بيتينو" بزعامة ليبرمان، كي يكون بإمكانه اجتياز عقبة قانون تجنيد الحريديم.

في كل الأحوال، فإن قضية هذا القانون ستلازم الحكومة المقبلة، وستكون محور أزمة، بحسب الصيغة النهائية التي سيقر بها. فإذا ما وجدت أغلبية لإقرار القانون بصيغته الحالية، التي يطالب الحريديم بتعديلها، فإن الصدام مع الحريديم سينتقل إلى الشارع، حيث هناك تيارات حريديم ترفض كليا أي حديث عن التجنيد، ولا حتى ما تسمى بـ "الخدمة المدنية البديلة". وفي حال تم إقراره بالشكل الذي عرضه نتنياهو كحل وسط كي تتشكل حكومته الخامسة، وهو بإضافة بند أن الحكومة هي من تقرر سنويا أعداد الحريديم الذين سيسري عليهم القانون، فإن هذا البند، وكما قال ليبرمان، سيفرغ القانون من مضمونه. وفي هذه الحالة ستكون هناك جهات تعود إلى المحكمة العليا بالتماس لإلغاء القانون، لأن المحكمة كانت قد ألغت في شهر أيلول 2017 تعديلا للقانون، أدى إلى توسيع إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.

وتبقى مسألة تجنيد الحريديم هي الواجهة الحالية لمعركة أشد عمقاً، بين العلمانيين والمتدينين، خاصة مع تزايد أعداد المتدينين الحريديم وأيضا التيار الديني الصهيوني الذي يزداد تشددا، وطالب ممثلوه في المفاوضات لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، من "اتحاد أحزاب اليمين"، بأن يكون مسموحا لشبان التيار الديني الصهيوني الخدمة العسكرية في وحدات خالية من المجندات، والسماح للجيش بالفصل بين النساء والرجال في بعض نشاطاته وأعماله. ولذا قال ليبرمان إنه لا يريد أن يكون في "حكومة شريعة".

نشير هنا إلى أن انتخابات نيسان أفرزت ذروة غير مسبوقة في أعداد المتدينين من النواب؛ 37 نائبا، مقابل 22 نائبا في انتخابات 2015. ومن المتوقع أن يبقى هذا العدد تقريبا على حاله، لأن غالبية الأحزاب لن تغير تركيبة قوائمها الانتخابية. وكان 17 نائبا من بين النواب المتدينين من الحريديم، والباقي من التيار الديني الصهيوني.

ترميم تحالفات متفككة

في استنتاجات انتخابات نيسان 2019، قلنا إن الجمهور أوضح أنه يفضل الأحزاب أو التحالفات الكبيرة، ولهذا فقد عاقب ثلاث شراكات انتخابية تفككت قبيل انتخابات نيسان.

فقد رأينا قيام حزب العمل بتفكيك تحالف "المعسكر الصهيوني" مع حزب "الحركة" بزعامة تسيبي ليفني، فانسحبت الأخيرة من المنافسة الانتخابية، في حين هبط تمثيل حزب العمل وحده من 19 نائبا في انتخابات 2015 إلى 6 نواب في انتخابات نيسان الماضي.

كذلك، فإن تحالف "البيت اليهودي" الذي تشكل قبيل انتخابات 2013 وخاض انتخابات 2015 أيضا، فككه وزير التعليم السابق نفتالي بينيت، مع شريكته أييلت شاكيد، فخسر الاثنان الانتخابات، وانخفض تمثيل أحزاب المستوطنين من 8 مقاعد إلى 5.

وهذا ما كان في "القائمة المشتركة" التي تمثل فلسطينيي الداخل، فقد تم تفكيك القائمة، وخاضت الأحزاب الأربعة الانتخابات بقائمتين، وحصلتا على 10 مقاعد، بدلا من 13 مقعدا مجتمعة، وساهم هذا التفكيك في انخفاض نسبة التصويت بين العرب من 62% في العام 2015 إلى 53% في انتخابات نيسان.

وكما يبدو فإن الجهات الثلاث تلك "تعلمت الدرس" إن صح التعبير.

وقد بدأت الاتصالات والمفاوضات الأولية، بين الأحزاب الأربعة الناشطة بين فلسطينيي الداخل لإعادة بناء القائمة، وهناك ضغوط شعبية للإسراع في إنهاء المفاوضات بين الأطراف الأربعة وسط توقعات باستعادة القوة السابقة وأكثر، في حال تشكلت القائمة المشتركة.

كذلك فإن حزب العمل يشهد قناعة بالإجماع تقريبا أنه لا يمكنه خوض الانتخابات بقائمة منفردة، وكان قد تلقى عرضا من حركة ميرتس لخوض الانتخابات بقائمة مشتركة. فكان الرد الفوري من رئيس الحزب، الذي استقال لاحقا من منصبه، آفي غباي، أن حزب العمل سيخوض الانتخابات إما من خلال قائمة "أزرق أبيض"، أو مع ميرتس، إلا أن "أزرق أبيض" سارع للإعلان عن عدم رغبته بضم حزب العمل.

ورد غباي كان يلمح إلى عدم تحمسه للشراكة مع ميرتس، وهي الخيار الأقوى الأخير أمام الحزب إذا أراد شراكة انتخابية. ولكن بعد استقالة غباي، فإن المنافسين على رئاسة الحزب كثر، منهم الرئيس الأسبق عمير بيرتس، والنائبان ستاف شافير وإيتسيك شمولي، وقد يكون غيرهم. وحسب التقديرات، فإن العمل سيخوض الانتخابات بقائمة مشتركة مع ميرتس.

لكن في نهاية الأسبوع الماضي عاد إيهود باراك ليطرح نفسه لاعبا جديدا في الانتخابات المقبلة. وقالت القناة الـ 13 التلفزيونية إنه ينوي تشكيل حزب لخوض الانتخابات. ولكن هذه أنباء ما تزال في بدايتها، وحتى نهاية الشهر المقبل، تموز، موعد تقديم القوائم، قد نشهد تقلبات كثيرة، إذ أن خوض باراك بقائمة مستقلة للانتخابات سيكون على حساب حزب العمل، ويضر باحتمالاته الانتخابية أكثر.

غير أن الصخب في وسائل الإعلام، في الأيام الأخيرة، يدور حول أحزاب المستوطنين، أو الأحزاب التي ترتكز على التيار الديني الصهيوني. ففور حل الكنيست، قرر الوزير السابق نفتالي بينيت خوض الانتخابات مجددا، مراهنا على أنه سيجتاز نسبة التصويت هذه المرّة، بعد أن حصد في الانتخابات الأخيرة حوالي 138500 صوت، مبتعدا بـ 1400 صوت عن نسبة الحسم. إلا أن بينيت أعلن أنه يريد تجميع قوى، وكان قصده الأول إعادة بناء القائمة التي فككها، ولربما ضم قائمة "زهوت" برئاسة المتطرف موشيه فيغلين، الذي حصلت قائمته على 118 ألف صوت، وهذا ما يقارب ثلاثة مقاعد. عير أنه بداية تلقى بينيت ردودا جافة من "اتحاد أحزاب اليمين" الذي فاز بخمسة مقاعد، في حين أن شريكة بينيت، الوزيرة السابقة أييلت شاكيد، لم تعلن صراحة أنها ستخوض الانتخابات مع شريكها السياسي، وكانت مطالبات من حزب الليكود بضمها لقائمة الحزب، حتى أعلن نتنياهو رفضه لهذه الخطوة.

ثم تصاعدت المشاحنات بين أحزاب المستوطنين، وفي الأيام الأخيرة من الأسبوع الماضي، ظهرت مؤشرات أولية لاحتمال إعادة بناء قائمة "البيت اليهودي"، وهذا من المفترض أن يقلق شخص نتنياهو، لأنه سيعزز قوة القائمة، وقد يعيد لها المقاعد التي خسرتها مجتمعة في الانتخابات المقبلة.

وكان نتنياهو قد سارع قبل حل الكنيست إلى دمج حزب "كلنا" برئاسة وزير المالية موشيه كحلون، ضمن قائمة الليكود، لخوض الانتخابات بقائمة مشتركة تحت اسم الليكود، وعمليا فهذه عودة كحلون إلى حزبه الأم.

مرّة أخرى، من السابق لأوانه معرفة خارطة الانتخابات المقبلة، إلا أنه من شبه المضمون أن عدد القوائم التي ستخوض الانتخابات سيكون أقل بكثير مما كان في انتخابات نيسان الماضي، التي تسجل فيها 47 قائمة، وخاضت الانتخابات في نهاية المطاف 41 قائمة، فازت منها 11 قائمة وتمثلت في الكنيست. لكن في حال إعادة تشكيل تحالفات حزبية، فهذا من شأنه أن يعيد توزيع القوائم، خاصة إذا رافق هذا ارتفاع نسبة التصويت، إذ أن انخفاض نسبة التصويت ساهم في زيادة تمثيل القوائم الكبرى.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات