استعداداً لانتخابات الكنيست الـ 20، التي ستُجرى في التاسع من نيسان القادم، أقيم عدد من أحزاب الوسط الجديدة.
واستناداً إلى استطلاعات الرأي الأخيرة، من المتوقع أن تجتاز ثلاثة منها نسبة الحسم وأن تفوز بتمثيل في الكنيست، وهي: حزب "مناعة لإسرائيل" (حوسِن ليسرائيل") بزعامة بيني (بنيامين) غانتس؛ حزب "تلم" (اختصار للكلمات التالية: "تنوعا ليئوميت مملختيت" ـ حركة وطنية رسمية) بزعامة موشيه يعلون، الذي سيخوض الانتخابات ضمن قائمة مشتركة مع "مناعة لإسرائيل"؛ وحزب "جيشر" (جسر) بزعامة أورلي ليفي ـ أبكسيس. وهذه الأحزاب الثلاثة تنضم إلى أحزاب الوسط العديدة التي كانت قد أقيمت وانتُخب ممثلون عنها لعضوية الكنيست منذ أواسط التسعينيات.
لكن التجربة تفيد بأن الأحزاب من هذا القبيل تميل، عادة، إلى الاختفاء عن الخارطة السياسية ـ الحزبية بصورة سريعة. ومنذ العام 1996، تميز المشهد السياسي بنشوء أحزاب وسط جديدة، ثم انتخابها لعضوية الكنيست، غير أنها سرعان ما تعود وتختفي من الخارطة السياسية ـ الحزبية بعد دورة واحدة، أو دورتين، أو ثلاث دورات على الأكثر، وهو ما يمكننا من وصف هذه الأحزاب بأنها "أحزاب موسمية". كان هذا مصير أحزاب "الطريق الثالث"، "شينوي"، "حزب المتقاعدين" و"كديما". ومن المرجح، ربما، أن يكون هذا أيضاً مصير حزب "الحركة" (هتنوعا)، الذي انتُخب للكنيست في قائمة مستقلة في العام 2013 ثم في إطار "المعسكر الصهيوني" في العام 2015، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أنه لن يعبر نسبة الحسم إذا ما خاض الانتخابات في قائمة مستقلة لوحده. وكذلك حزب "كلنا" (كولانو) الذي انتُخب لعضوية الكنيست للمرة الأولى في العام 2015، يتعين عليه إثبات قدرته على الصمود والبقاء للمدى البعيد، إذ تتوقع له استطلاعات الرأي الحالية عبور نسبة الحسم والفوز بعضوية الكنيست في انتخابات 2019 أيضاً، لكن بتراجع كبير جداً (عما حققه في الانتخابات السابقة في العام 2015). في المقابل، ثمة حزب واحد يبدو، في هذه اللحظة على الأقل، أنه استطاع تثبيت حضوره في السياسة الإسرائيلية، هو حزب "يوجد مستقبل" ("يش عتيد")، وتتوقع له استطلاعات الرأي الجديدة الفوز بعدد كبير، نسبيا، من المقاعد في الكنيست في انتخابات 2019 أيضا، للمرة الثالثة منذ تأسيسه ودخوله معترك المنافسة الانتخابية.
لماذا تتبدل أحزاب الوسط بهذه السرعة؟
تدل نتائج الانتخابات منذ منتصف التسعينيات على أن في إسرائيل شريحة غير قليلة من المواطنين تتموقع في وسط الخارطة السياسية وتشكل "مخزونا انتخابيا" محتملاً لأحزاب الوسط، التي تستفيد من ضعف الأحزاب الكبيرة، وخاصة الليكود والعمل، اللذين لا يقتربان حتى من إنجازاتهما في السبعينيات والثمانينيات، حينما فازا مجتمعين بنحو 80 مقعداً، بل وأكثر (مقابل 60 عضوا في كل واحدة من المعارك الانتخابية التي جرت ابتداء من العام 1999 فصاعدا). وبالرغم من القفزة المثيرة التي حققها الليكود خلال المعارك الانتخابية الأخيرة، إلا أنه لا يبدو أنه ـ وكذلك حزب العمل، بالتأكيد ـ سيتمكن من إعادة الكرّة وتحقيق تلك النجاحات السابقة. ولهذا، يبقى وسط الخارطة السياسية "مُختَرَقاً" أمام أحزاب وسط كبيرة. وزيادة على هذا، تبين نظرة إلى دول ديمقراطية أخرى أن أحزاب الوسط قادرة على تثبيت مواقعها في الحلبة السياسية والصمود لفترة متواصلة غير قصيرة. ومن الأمثلة البارزة على هذا، الحزب الليبرالي ـ الديمقراطي في بريطانيا (الذي أقيم في العام 1988) والحزب الديمقراطي الحر (FDP) في ألمانيا (الذي أقيم في العام 1948).
ومع ذلك، تتميز أحزاب الوسط في إسرائيل بسرعة الاختفاء، نسبياً. لماذا؟
إن النظرة المتمعنة إلى أحزاب الوسط الإسرائيلية على مدى السنوات الماضية تبين أنها تواجه عددا من المخاطر الرئيسية:
• الاعتماد على قائد ذي شخصية كاريزماتية ـ تتشكل غالبية أحزاب الوسط من خلال الالتفاف حول قائد واحد ذي شخصية كاريزماتية. وإذا ما انسحب ذلك القائد، لأي سبب كان، أو إذا اتضح أنه غير ناجح، فإن الحزب يجد صعوبة بالغة في الصمود والاستمرار بدونه. المثال الأبرز على هذا هو حزب "شينوي"، الذي لم يستطع البقاء في إثر انسحاب يوسف لبيد، من رئاسة الحزب. وجميع أحزاب الوسط القائمة اليوم تعتمد على شخص قيادي واحد ذي شخصية كاريزماتية ـ يائير لبيد (يوجد مستقبل)، موشيه كحلون (كولانو)، بيني غانتس (مناعة لإسرائيل)، ليفي ـ أبكسيس (جسر)، تسيبي ليفني (الحركة) ـ ولذلك، فهي تواجه خطرا مماثلا.
• انقسامات داخلية ـ نذكر، بوجه خاص، الانقسام الذي حصل في حزب "كديما"، حين انسحب عدد من أعضائه ليشكلوا حزب "هتنوعا" (الحركة) عشية انتخابات العام 2013، وهو ما أدى إلى تحطم "كديما" في تلك الانتخابات. كما شهد حزب "شينوي"، حزب "المتقاعدون" وحزب "المركز"، انقسامات مشابهة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من عدم حصول انقسام في حزب "كولانو"، إلا أن انسحاب عدد كبير من أعضاء الكنيست الذين مثّلوه، بعد دورة واحدة في الكنيست، قد يكون مؤشراً إلى المصير الذي سيؤول إليه مستقبلاً. وليس مستغرباً أن حزب "يوجد مستقبل"، الذي نجح في تجنب أزمات داخلية جدية حتى الآن، سيحقق إنجازاً كبيراً في الانتخابات القريبة، حسب ما تتوقع استطلاعات الرأي، وهي الانتخابات الثالثة التي يخوضها هذا الحزب على التوالي.
• عدم الاستثمار في مأسسة الحزب وتثبيته ـ والمقصود بهذا إقامة مؤسسات وتفعيل النشطاء الميدانيين والأعضاء (ليس خلال فترة الانتخابات فقط). وتثبت التجربة أن المؤسسات، النشطاء والأعضاء يساعدون الحزب على البقاء والصمود في الأزمات واجتيازها، مثلما فعل حزبا الليكود والعمل اللذان واجها أزمات عاصفة. إلا أن غالبية أحزاب الوسط لا توظف جهوداً تذكر في هذه المجالات وليس لها أي حضور ميداني، إطلاقاً تقريباً (كان حزب "كديما" استثناء في هذا، كما ينظم حزب "يوجد مستقبل" فعاليات ميدانية دائمة، وإن كان يفتقر إلى الديمقراطية الداخلية).
• ابتعاد الناخبين وانتقالهم إلى أحزاب وسط جديدة ـ يبين التاريخ أن جمهور المصوتين لصالح أحزاب الوسط غالباً ما يهجر حزب الوسط الذي صوّت لصالحه في الانتخابات السابقة وينتقل لتأييد حزب وسط جديد. ويبدو طبيعياً أن ناخبي أحزاب الوسط هم أقل ولاء لأحزابهم، لأن تصويتهم ليس ناتجاً عن قناعة إيديولوجية واضحة أو هوية قطاعية محددة. ومع ذلك، ثمة لأحزاب الوسط في إسرائيل مميزات محددة "تشجع" الناخبين على العزوف عنها. فهي كثيرا ما تتعهد أمام جمهورها المتحمس بإحداث تغييرات فورية وحقيقية في مجال ما ـ على غرار وعود "حزب المتقاعدين" بتحسين أوضاع المتقاعدين بصورة جدية وفورية، ووعود حزب "شينوي" بإحداث "ثورة مدنية" ووعود حزب "كولانو" بخفض تكاليف المعيشة (وخصوصا أسعار السكن). ولهذا، قد يكون جمهور الناخبين عرضة للإصابة بخيبة أمل كبيرة وسريعة من هذه الأحزاب. ويضاف إلى هذا، أيضا، أن هذه الأحزاب تصور نفسها بأنها تعتمد "سياسة جديدة" ونظيفة (خلافا لـ "السياسة القديمة"، المتكلسة والموبوءة بالفساد التي تميز حزبي الليكود والعمل). ونظراً لأنه من الصعب جدا تحقيق وعود كهذه في الحياة السياسية المركبة، فسرعان ما يخيب أمل الناخبين من هذه الأحزاب أيضاً، وخلال وقت قصير. وأخيراً، فإن أحزاب وسط كثيرة تعتمد، كما أسلفنا، على قائد فرد ذي شخصية كاريزماتية وحين ينسحب هذا القائد أو يتضح أنه غير ناجح، لا يتردد الناخبون في استبداله بقائد كاريزماتيّ آخر في حزب وسط آخر.
هل هذا سيء؟
من الناحية المبدئية، لا يمكن اعتبار تشكيل أحزاب جديدة ظاهرة سلبية، نظراً لما يمكن أن تقوم به هذه الأحزاب من "نفض" للمنظومة السياسية الحزبية، من خلال إتاحة المجال أمام انتخاب سياسيين جدد ومتحمسين وتمكينهم من طرح قضايا جديدة ذات أهمية على جدول الأعمال السياسي، الجماهيري، العام. وثمة أيضا أهمية كبيرة لوجود حزب يمثل قطاعا واسعا من الجمهور الإسرائيلي الذي يعرّف نفسه بأنه "وسط سياسي"، بما يحمله تعزيز هذا "الوسط السياسي" من فرص التأثير الإيجابي على المجتمع بأسره ـ التخفيف من حدة الصراعات الإيديولوجية والفئوية وموازنة المطالب والمواقف المتشددة التي تطرحها فئات سياسية او اجتماعية معينة.
لكن بنظرة أوسع، يشكل نجاح (واختفاء) أحزاب الوسط أحد الأعراض الأساسية لأزمة الأحزاب في إسرائيل. ذلك أن كثرة أحزاب الوسط الجديدة التي تُقام وتحقق مكاسب كبيرة في الانتخابات تدل على عدم رضى الجمهور من الأحزاب الموجودة والعريقة ـ من السياسيين الذين يقودونها ومن إخفاقها في حل مشكلات أساسية في المجتمع الإسرائيلي. في سيرورته الدائرية، يمسّ التبدل السريع في الأحزاب الممثلة في الكنيست، أكثر فأكثر، بثقة الجمهور بالسياسة والعمل السياسي، بالسياسيين وبالأحزاب، علماً بأن هذه الثقة هي في الحضيض أصلاً. والناخبون أنفسهم الذين خاب أملهم من الأحزاب الكبيرة يعودون ليُصابوا بخيبة أمل أخرى من أحزاب الوسط، المرة تلو الأخرى، مما قد يعرضهم إلى اليأس التام والنهائي من المنظومة السياسية ومن الديمقراطية في إسرائيل.
علاوة على هذا، ونظرا لكون الخارطة السياسية ـ الحزبية تتميز بكثرة أحزاب الوسط، وليس بحزب واحد "يستولي" على وسط الخارطة السياسية ـ الحزبية بل ويستبدل أحد الأحزاب الكبيرة، فإن أحزاب الوسط هذه تساهم في تكريس وتوسيع الانقسام السياسي الذي يمس بالقدرة على الحوكمة. وطبقاً لما تتوقعه استطلاعات الرأي الحالية، يبدو أن الكنيست الـ 21، الذي سيُنتخَب في نيسان القريب، سيشهد بلوغ الانقسام السياسي ذرى أخرى جديدة، بسبب نجاح أحزاب الوسط الجديدة، إلى حد كبير.
نظرة قصيرة إلى المستقبل
من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت أحزاب مثل "مناعة إسرائيل"، "جيشر" و"تلم" ستكون أحزابا موسمية تزول وتختفي بسرعة وخلال وقت قصير. لكن ما من شك في أن التاريخ يبين أن على هذه الأحزاب الحذر من مغبة حصول ذلك، فهي مثل أحزاب الوسط الأخرى التي تفككت واختفت، تتمحور حول قادة أفراد ذوي شخصيات كاريزماتية وتعد باعتماد سياسة جديدة. ومن المشكوك فيه أن تعمد هذه الأحزاب إلى إنشاء مؤسسات فاعلة، وتفعيل نشطاء وفروع في فترة ما بعد الانتخابات والمحافظة على اتصال دائم مع النشطاء والمؤيدين. لكن، إذا لم تتعلم من مصير أحزاب الوسط السابقة، فثمة شك في قدرتها على الصمود والبقاء لفترة طويلة والتغلب على الأزمات التي ستعصف بها، بالتأكيد، مستقبلاً.
________________________
(*) باحث في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"- القدس. نقلاً عن موقع المعهد على الشبكة. ترجمة خاصة.
المصطلحات المستخدمة:
كديما, الليكود, تلم, شينوي, الحزب الليبرالي, الكنيست, موشيه يعلون, يائير لبيد