رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يتورّع عن استخدام الهولوكوست والجرائم النازية ضد اليهود الأوروبيين في منتصف القرن العشرين، لغرض تحقيق المكاسب السياسية النفعية الآنية. على سبيل المثال، في كانون الأول الماضي اعتبر رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام منتدى "سابان" في الولايات المتحدة أن "كلا النظامين في ألمانيا النازية وإيران لديهما أمر مشترك هو الالتزام بقتل اليهود من دون رحمة وفرض حالة من الطغيان والإرهاب". ليواصل بعد ذلك غزوته وهو يتعلّق فرِحاً بتصريح لولي العهد السعودي محمد بن سلمان هاجم فيه إيران واعتبر زعيمها علي خامنئي "هتلر الشرق الأوسط". فنقاط الالتقاء بين الرجلين، الإسرائيلي والسعودي، تتزايد وتتراكم يومياً.
وهكذا، في فضاء سياسي صهيوني يرفض مقارنة أية جريمة مهما بلغت وحشيتها بجرائم النازيين، الهولوكوست، ويعتبرها فريدة تاريخياً ليس هناك ما يمكن ان يقارَن معها، لا يتردد السياسي المنتخَب رقم واحد في نعت آخرين بالنازية ووصفهم بـ"هتلر"، ليفتح الباب الرحب من دفّتيه على إجراء المقارنات المتعلقة بالهولوكوست. فلماذا تصحّ مقارنات مع من اقترف الجريمة ولكن ليس مع من وقعوا ضحايا؟ هذا التناقض وهذه الازدواجية لن توقفها طبعا حجج المنطق ولا العقل، لأنها نزعة تتخطى أصلا هذا وذاك عبر طريق التفافية لا ترى أمامها ولا تؤدي سوى إلى المصلحة، المنفعة، المكسب السياسي، متخففة حتى من المعايير التي تضعها بنفسها وتمليها على الآخرين.
في مطلع شهر تموز الجاري ثارت في إسرائيل عاصفة غضب على نتنياهو بسبب تسوية توصّل اليها مع نظيره البولندي ماتيوش مورافيتسكي تتعلق بتخفيف بعض بنود قانون بولندي يجرّم من يتهم البولنديين بالضلوع في جرائم ضد اليهود، أو يستخدم عبارات مثل "معسكر إبادة بولندي". وتعود القضية إلى مطلع هذا العام حين تم تقديم مشروع قانون في وارسو نص على أن "كل من يتهم علناً بأن الأمة البولندية، أو الدولة البولندية، مسؤولة أو متواطئة في الجرائم النازية التي ارتكبها الرايخ الألماني الثالث، يتعرض لغرامة مالية أو عقوبة سجن تصل إلى ثلاث سنوات، ولكن لا يوجه للشخص أي اتهام إذا كان فعله جزءا من الأنشطة الفنية أو العلمية".
الأصداء الغاضبة على هذا التزييف للتاريخ، وفقاً لكثير من الرؤى، لم تتأخر. جميعها أشارت إلى حقائق تاريخية متفق عليها، منها أن قرابة 1ر1 مليون شخص، معظمهم من اليهود، قتلوا في معسكر أوشفيتز قبل أن تحرره القوات السوفييتية عام 1945. كذلك، يقول المؤرخون إن أفراداً أبلغوا عن جيرانهم اليهود للألمان بل وشاركوا في قتلهم أيضاً، من خلال أعمال مثل الإعلام عن أماكن اختباء اليهود للحصول على المكافآت والمشاركة المباشرة في أعمال قتل (بي بي سي، شباط 2018).
هجوم من اليسار واليمين على نتنياهو
الحكومة الإسرائيلية التي تدّعي أنها تمثّل الشعب اليهودي وتحافظ على وقائع الهولوكوست الحقيقية، سارعت إلى إجراء مفاوضات مع الحكومة البولندية حول القانون لصدّه وعرقلته. ومن هذه النقطة قبل نحو خمسة أشهر وصولا الى الأسابيع الأخيرة، ظهر نتنياهو بلون قاتم جداً. ووفقا لموقع "المصدر": برغم أنه تم إجراء تعديلات معينة على القانون، لا سيما حقيقة عدم اتخاذ تدابير جنائية ضد مَن يدعي خلاف تلك الحقيقة، فما زالت مضامينه تثير قلقا كبيرا. وقد عملت الحكومة البولندية أكثر من ذلك، عندما نشرت في صحف كثيرة في العالم، وفي إسرائيل أيضاً، إعلانات تضمنت صيغة الاتفاق مع نتنياهو، وهكذا جعلت نتنياهو شريكا في العملية. نتنياهو يدعي أنه لم يعرف ذلك مسبقا، إلا أنه منذ صباح نشر الإعلان تعرض لهجوم حاد من اليسار واليمين الإسرائيليين، بتهمة الإضرار بحقيقة الأحداث التاريخية، والمساس بالناجين من الهولوكوست. بل هناك من ألمح إلى "صفقة" تنقل بموجبها الحكومة البولندية سفارتها إلى القدس وتدعم إسرائيل في مجلس الأمن الدولي.
ما حدث هو أن "حزب القانون والعدالة" الحاكم في بولندا، حذف التهديد بسجن من يلمحون إلى أن بولندا كانت متواطئة في جرائم النازيين ضد اليهود. وفي تحول مفاجئ، صوّت البرلمان على التعديل في جلسة طارئة بعد قليل من طلب رئيس الوزراء ماتيوش مورافيتسكي من المجلس تغيير القانون الصادر قبل نحو أربعة أشهر. ووقع الرئيس أندريه دودا القانون لاحقا (وفقاً لـ"رويترز" جاءت تلك الخطوة في وقت يسعى فيه حزب القانون والعدالة القومي لتعزيز العلاقات الأمنية مع واشنطن، وبينما يواجه "زيادة في التدقيق" من الاتحاد الأوروبي. وكانت حكومة حزب القانون والعدالة قد قالت إن القانون "ضروري لحماية سمعة البلاد" لكن إسرائيل والولايات المتحدة اعتبرتا أنه يصل إلى حد طمس التاريخ).
وعلى الفور عبّر نتنياهو في بيان رسمي عن سعادته لقيام بولندا "بالإلغاء التام لمواد القانون... التي أثارت عاصفة وقلقا في إسرائيل وبين المجتمع الدولي"، وهو ما كان رئيس حزب "البيت اليهودي" الوزير نفتالي بينيت، كأنه ينتظره ليهاجم نتنياهو بشكل وُصف بغير المسبوق إذ قال: "إن الإعلان المشترك لإسرائيل وحكومة بولندا يشكل عارا مليئا بالكذب ويمس بذكرى ضحايا الهولوكوست. بصفتي وزير التعليم المسؤول عن تدريس كارثة الهولوكوست، أرفض هذا التصريح رفضا باتا لأنه يتخلى عن الحقائق والتاريخ، ولن يدرّس في جهاز التربية والتعليم. أطالب رئيس الحكومة بإلغاء التصريح أو طرحه للمصادقة في الحكومة". زعيم "يش عتيد" يائير لبيد أيضاً اعتبر "البيان الذي وقعه نتنياهو مع رئيس وزراء بولندا هو وصمة عار وإحراج فاضح لذكرى ضحايا المحرقة".
وفقاً لمحللين، كان بوسع نتنياهو تحمّل انتقادات السياسيين ولكن – وفقاً للموقع المذكور - جاءت الضربة القاضية التي تعرض لها نتنياهو عندما نشر متحف الهولوكوست "ياد فاشيم" بيانا هاجم فيه الاتفاق بشدة وقال: "هناك في الحقائق التاريخية التي فحصناها فحصا دقيقا، والتي عُرِضت كحقائق لا لبس فيها، أخطاء خطيرة واحتيال، ويتضح أنه بعد إلغاء البنود التي يجري الحديث عنها ما زالت أهداف القانون دون تغيير، بما في ذلك إمكانية الإضرار الحقيقي بالباحثين، البحث الحر، وبذاكرة التاريخ حول الهولوكوست"!
مؤرخو متحف الهولوكوست: أخطاء وخدع جسيمة في البيان الحكومي المشترك!
"ياد فاشيم" أصدر بيانا صحافيا طويلا يشرح فيه مؤرخوه لماذا يعارضون المصداقية التاريخية للبيان المشترك، بل أيضا أنهم غير راضين عن التعديل البولندي للقانون المثير للجدل. وكتبوا: "لقد أظهر مسح شامل قام به مؤرخو ياد فاشيم أن التأكيدات التاريخية، التي قُدمت كحقائق غير قابلة للتشكيك في البيان المشترك، تحتوي على أخطاء وخدع جسيمة، وأن جوهر النظام الأساسي يبقى دون تغيير حتى بعد إلغاء الأقسام المذكورة أعلاه، بما في ذلك إمكانية ضرر حقيقي للباحثين، إجراء البحوث دون عوائق، والذاكرة التاريخية للمحرقة".
في الواقع، أضافوا، فإن البيان "يحتوي على صياغة إشكالية للغاية تتعارض مع المعرفة التاريخية الحالية والمقبولة في هذا المجال". والإعلان المشترك بين إسرائيل وبولندا "يدعم بفعالية رواية دحضتها الأبحاث منذ زمن طويل، وهي في الأساس أن الحكومة البولندية في المنفى وأسلحتها السرية سارعت بلا كلل – في بولندا المحتلة وأماكن أخرى – إلى إحباط إبادة اليهود البولنديين". ومع ذلك، يضيف المؤرخون الإسرائيليون أن الحكومة البولندية في المنفى وممثليها في بولندا المحتلة من قبل النازيين "لم تتصرف بحزم نيابة عن المواطنين البولنديين اليهود في أي وقت خلال الحرب. لم تفشل معظم المقاومة البولندية في حركاتها المختلفة في مساعدة اليهود فحسب، بل لم تشارك بشكل نشط في منع اضطهادهم".
وعلّق موقع "تايمز أوف إزرائيل" أنه في حين يبدو أن الإعلان الإسرائيلي- البولندي المشترك (الذي يروج له البولنديون بنشاط من خلال إعلانات على صفحات كاملة في الصحف في جميع أنحاء العالم) يعطي نفس التوازن للبولنديين الذين ساعدوا اليهود وأولئك الذين اضطهدوهم، يقول بيان "ياد فاشيم" إن "عقوداً من الأبحاث التاريخية تكشف عن صورة مختلفة تماماً: كانت مساعدة البولنديين لليهود خلال المحرقة نادرة نسبياً، وكانت الهجمات ضد اليهود وحتى قتلهم ظواهر واسعة الانتشار. كان هناك بولنديون قاموا بجهود "مثيرة للإعجاب" لإنقاذ اليهود، لكن هذا "لا يمكن عرضه على أنه للمجتمع البولندي ككل، إن محاولة تضخيم الإغاثة التي امتدت إلى اليهود وتصويرها على أنها ظاهرة واسعة الانتشار، وتقليل دور البولنديين في اضطهاد اليهود، تشكل جريمة ليس فقط للحقيقة التاريخية، ولكن أيضاً لذكرى بطولة الشرفاء بين الأمم".
بيان "ياد فاشيم" أشار إلى أن "إلغاء القسم المثير للجدل من القانون البولندي الذي ينص على فرض عقوبات جنائية على الأشخاص الذين يتهمون الأمة البولندية بالتواطؤ في الجرائم النازية هو أمر مهم بلا شك. إلا أن الاستبعاد يعكس الاستثناء الصريح الذي تم إجراؤه للبحث الأكاديمي والسعي الفني في صياغة التعديل". ونوّه إلى أن من يتهم بولندا بالتواطؤ ما زال تحت طائلة ملاحقته المدنية.
"نتنياهو يعمل على دمج اسرائيل في الكتلة القومية العنصرية اللاسامية"
وضع عدد من المتابعين التسوية التي حققها نتنياهو مع حكومة بولندا في إطار آني وليس كما زعمت الحكومة الإسرائيلية، دفاعاً عن حقائق تاريخ الهولوكوست. وكتب عدد من المحللين والباحثين أن المسألة مرتبطة برهانات سياسية إسرائيلية على قوى أوروبية لكي تدعمها أمام سياسة الاتحاد الأوروبي التي تتميّز بدرجة من النقديّة فيما يخص الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. فاليمين الإسرائيلي مشغول منذ سنين بالبحث عن حلفاء أوروبيين ليرفعوا أيديهم معه في مؤسسات الأمم المتحدة، ويغضوا الطرف عن سياساته في المناطق المحتلة. ومن الملائم القول إن لعنة الاحتلال الإسرائيلي تلاحق أصحابه كيفما اتجهوا، نحو الحاضر ونحو التاريخ.
الأستاذ الجامعي والباحث الإسرائيلي الأبرز في تاريخ وفكر الفاشية، البروفسور زئيف شتيرنهيل، رأى في مقال (صحيفة "هآرتس") أن نتنياهو يعمل من أجل دمج اسرائيل "في الكتلة القومية، العنصرية، اللاسامية، البولندية والهنغارية، عدو الغرب الليبرالي. تحاول أنجيلا ميركل استخلاص الدروس من الماضي غير البعيد وتطبيق مبادئ إنسانية، لذلك هي مكروهة في وارسو وبودابست، وليست محبوبة حقا في واشنطن والقدس. لدى بنيامين نتنياهو لا يتعلق الأمر بانتهازية أو تضحية بالمبادئ من أجل مصلحة إسرائيلية. الواقع هو أن بولندا المناوئة لليبرالية والتي تكره الأجانب، سوداً ومسلمين، قريبة من قلبه، وتمثل النموذج السياسي والاخلاقي له"، قال متهماً إياه.
ويلاحظ الباحث أن بعض العناوين الأوروبية تلتقي مع النهج الإسرائيلي المتّسم بالعنف والإملاء ومعاداة كل "آخر"، فيكتب كيف "أنهم يعرفون أنه منذ خمسين سنة تسيطر اسرائيل على ملايين العرب، تبقيهم في وضع دائم من الدونية، وتطبّق في "المناطق" المحتلة نظام "الأبارتهايد". في إسرائيل في الداخل، حكم اليمين المتطرف يدمر النظام الديمقراطي الذي ورثه من اليسار المكروه ومن اليمين الليبرالي الذي دُفن منذ زمن. بالنسبة للهنغاريين والبولنديين فان إسرائيل هي حليفة مثالية. صحيح أنه توجد للبولنديين خلافات في الرأي معنا حول تفسيرات المحرقة، لكن هذا أمر يمكن تسويته بسهولة. وهذا هو الدليل: الإعلان البولندي، الذي هو وثيقة مشينة ووضيعة، وُقع بسرور من قبل رئيس حكومة إسرائيل الذي يرى نفسه أيضا زعيماً للشعب اليهودي!".
المصطلحات المستخدمة:
هآرتس, ياد فاشيم, اللاسامية, الكتلة, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد, نفتالي بينيت