المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

جاءت التحضيرات لاحتفالات العام السبعين ليوم استقلال إسرائيل، وفقاً لتسميته الرسمية، لتكشف المزيد من مكامن ومظاهر الأزمات، بعضها على المستوى الضحل، السياسي "التراشقي"، وبعضها الآخر نحو العمق، وهو ما يصح تسميته بالأزمات العضال، المرتبطة بمفاصل السياسات المتواصلة وعلى وجه الخصوص تلك الموجهة ضد الشعب الفلسطيني، بكل ما يرتبط بها ويتفرّع.

ولو اعتبرنا شكل الاحتفال بالأيام والمناسبات التي توضع في "السجلّ القومي" مؤشراً على خصائص مؤسسة الدولة التي تحتفل بها عموماً، ففي الحالة الإسرائيلية ما زالت العسكرة هي السمة الأشدّ طغياناً، وكان لها وقع مثير للخوف قبل أسابيع، حين أثار سلاح جو الجيش الاسرائيلي رعب المواطنين في تل أبيب ومحيطها الواسع، حين كان يتدرب على "إمتاعهم" في اليوم القومي.

لم يخبر الجيش الرأي العام عبر أية وسيلة بأن سرب طائرات F-15 سوف يحلّق في سماء تل أبيب ومدن أخرى، تحضيرا لاستعراض الطائرات التقليدي. وجاء هذا الاستعراض على خلفية توتر حقيقي حربيّ الطابع، بين إسرائيل وسورية وكل ما تشمله. هذه السنة بالذات خططت المؤسسة العسكرية لاستعراض أوسع من المعتاد وبمشاركة قوّات من جيوش أجنبية (من اليونان، بولندا، النمسا، كندا وإيطاليا) بالإضافة الى عشرات طائرات ومروحيات وسفن الجيش الإسرائيلي. ويشمل الاستعراض الجوي سماء 49 مدينة وبلدة. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي لم يعلم المواطنين بالتدريبات فدبّ فيهم الخوف، لم يغفل الإعلان أن "الاستعراض سيصبح استعراضا عالميا، وأن التعاون الناجح الذي بُذل طيلة سنوات، يؤكد على أهمية التعاون المشترك وتبادل المعلومات الهامة، تطوير المهن والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين الدول".

هذه الحادثة تكشف طبقات عديدة في السياسة، أولها التعامل مع المركب المدني، المواطنين، كآخر من يجب أن يعلم، مع أن الزعم السائد المروَّج هو أن كل شيء يجري من أجلهم. والثاني هو كيفية استخدام هذه المناسبات لتسويق السياسات العسكرية وحقنها مباشرة في أوردة الرأي العام، فيما يشبه مخدراً للطمأنة: نحن نقيم علاقات عسكرية فلا تقلقوا! فالعسكرة تتحوّل من وسيلة الى هدف بذاته.

نقر على الأعصاب الأشدّ حساسية في جسد "الإجماع"

على صعيد التسويق الحكومي اختير للاحتفالات هذا العام شعار يتّسم بالمكابرة: "نعم، هناك سبب للتفاخر". ومن تولّت الإخراج والإنتاج هي وزيرة الثقافة ميري ريغف، المعروفة بميلها الى الشعبوية الرخيصة، والنقر على الأعصاب والغرائز الأشدّ حساسية في جسد "الإجماع القومي". فاختيار عنصر "المفاخرة" الذي لا يلزم بمراجعة ولا بنقد ولا حتى بوقفة تأمل سريعة، هو إبداع ديماغوغي لافت. ويصف المعلقون الاقتصاديون ما سيتم رصده لهذه الاحتفالات على انه "مبلغ خيالي" مخصص للاحتفال الأكبر والأغلى في تاريخ اسرائيل منذ قيامها. لذلك يلاقي انتقادات عنوانها رفض هدر الأموال العامة.

الوزيرة الشعبوية ريغف لا تأبه للمنتقدين، كعادتها، وتقول: "سنعرض في الحفل التجديد والتراث الخاص بشعب إسرائيل وكذلك المساهمة الكبرى للشعب اليهودي ودولة إسرائيل للعالم". وهنا يتم استثناء كل من لا يلائم المقاس القومجي المتطرف الذي يحدده الائتلاف اليميني الحاكم. فقد تم استبعاد مغنية شهيرة لأنها لم تخدم في الجيش (ساريت حداد) ومغنٍّ آخر لأن الوزيرة وصحبها يعتبرونه "يسارياً" (أفيف غيفن).

أحد المواقع وصف طابع الاحتفالات المتوقع من خلال مقطع فيديو نشرته وزارة الثقافة، يظهر فيه إسرائيليّون من مجالات مختلفة يتحدثون عن "الإنجازات"، بينهم مجموعة جنود في دورة ضباط، ويهود متدينون يقتنون كتاب توراة جديد، وعجوزان يقولان: "جففنا المستنقعات"، وهو، بالمناسبة، ما يعتبره خبراء البيئة والزراعة خطأ فادحاً أخلّ بالتوازن الطبيعي بدرجات مدمّرة. ولكن تقييمات الخبراء ليست هي المرجعية في معسكر الشعبوية الاسرائيلي، بل يُنظر اليها غالباً بكثير من التشكيك، وحتى التخوين أحياناً. لأن كل ما يضفي علامة سؤال نقدية أو يشوّش الصورة الرومانسية المثالية التي يحاولون فبركتها وتسويقها، يعتبر عدوّ الشعب.

بحثاً عن منبر يجمّل صورة الزعيم

خلافا للتقاليد المتبعة قررت ريغف، التي أعلنت مراراً أنها المسؤولة الأولى والأخيرة والحصرية عن الاحتفالات، أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو سيلقي خطابا خلال حفل إيقاد الشعلات السنوي. هذا الإجراء لم يأت من فراغ، بل كمحاولة لترميم الصورة المهزوزة لرئيس حكومة تتراكم أمامه ملفات التحقيق وتحيطه أكثر فأكثر الشبهات بالفساد. ويبدو أن هناك من قدّر الدقائق الثمينة في احتفالات استقلال اسرائيل، بعملة المنفعة الشخصية والفئوية، لتخليص نتنياهو من بعض الورطات، ولو بأدوات التسويق في ساعات الذروة – ذروة ارتفاع منسوب الفخر القومجي اللزج، الذي غالباً ما يكون مُفقِداً للرشد والوعي المدني والنقدي. ليس هناك أكثر من نتنياهو إتقاناً للاستثمار في هذا الجوّ المتعرّق.

لكن لم يرق الأمر لكثيرين، حتى من معسكر رئيس الحكومة. أوّلهم كان رئيس الكنيست، يولي إدلشتاين، الذي صرّح: "للمرة الأولى منذ قيام الدولة، ستلحق هذه الخطوة (خطاب رئيس الحكومة) ضررا بالاحتفال الرسمي، وهو المقدس في نظر الكثيرين. فإذا لم تكن الكنيست الممثل الوحيد للشعب الإسرائيلي كما في كل السنوات الماضية، لن تشارك الكنيست وأعضاؤها في الحفل". الوزيرة ريغف لم تتأخر في الردّ بأسلوبها الشهير، وقالت: "أنا الوحيدة المسؤولة عن حفل إيقاد الشُعلات. ومَن لا يريد المشاركة، له مطلق الاختيار". لا حاجة للإضافة بأن شجاراً بهذه المفردات يفترض أن يتقنه الصبية وليس الوزراء.

هذا الإصرار دفع بالبعض الى التهديد بمقاطعة خطاب نتنياهو. أحدهم على سبيل المثال كان رئيسَ الشاباك سابقا، كرمي غيلون، الذي كتب في أحد مواقع الشبكات الاجتماعية: "تحظى مراسم إيقاد الشعلات بنسبة المشاهدة الأعلى في السنة، وتبث في القنوات التلفزيونية العامة الثلاث. ويجدر بالمشاهدين المعنيين التعبير عن احتجاجهم ضد جعل نتنياهو المراسمَ الرسمية في الدولة حدثا سياسيّاً، وذلك بأن يطفئوا التلفزيون عندما يلقي نتنياهو خطابا أو أن يشاهدوا قناة أخرى. إذا اتخذ آلاف المشاهدين هذه الخطوة فسيحدثون تأثيرا جماهيريا هاما".

حالياً تم التوصل الى تسوية. وتقضي بأن يقوم نتنياهو بإيقاد شعلة استقلال وإلقاء بعض الجمل من وثيقة الاستقلال، وفي هذه الحالة فان رئيس الكنيست سيتمكن من الحضور إلى الاحتفال كما هو مخطط له.

هذه الحادثة تكشف ما يصرّ الرأي العام على عدم الالتفات اليه ورفض رؤيته بعين ثاقبة. المقصود هو استغلال مختلف أنواع وأشكال الرموز المسماة قومية، كبئر لا تفنى في خدمة مصالح سياسيّي الحُكم، وأولهم رئيس الحكومة الحالية، والذي لا يزداد إلا شعبية كلما أفرط في ازدراء القانون وجهاز القضاء وتقاليد الحكم المعمول بها، وازدراء الجمهور الإسرائيلي نفسه. هذا ما يحدث ربما حين تكون اللعبة برمّتها تتراوح بين قطبين متكاملين: زرع الخوف وإعادة إنتاجه من جهة، وتغذية طوطم العسكر والزعيم القويّ من جهة أخرى.

ما لن تطمسه الاستعراضات العسكرية بجميع أنواعها

بالطبع، كما سبقت الإشارة، فإن العنصر الغائب في احتفالات يوم استقلال اسرائيل هو النظر في السجلّ، فيما يعنيه هذا اليوم بالتزامن مع والتماس مع ما أفرزه: النكبة الفلسطينية. هذا العام سبقت التاريخ على التقويم الاسرائيلي نشاطات مسيرة العودة في غزة، والتي واجهها جيش الاحتلال بالقنص، بارتكاب مجازر بالتصويب الدقيق ضد متظاهرين عزّل. هذا المشهد ببعده الفلسطيني المنتفض وبعده الإسرائيلي القمعي يلخّص الكثير: مؤسسة مدججة بالسلاح تحاول شطب الفلسطيني من كلّ سجلّ، وفلسطيني يأتي الى نقطة التماس حاملا رايته، وحقه، وحضوره. وهو أمر لن تطمسه الاستعراضات العسكرية بجميع أنواعها، تلك التي تنتج البطش المباشر، وتلك التي تحلّق في السماء احتفالا بالاستقلال.

في هذا السياق كتب دانييل بلتمان في صحيفة "هآرتس" مقالا عنونه بـ"أنا اتهم" وبالذات "عشية يوم الاستقلال السبعين"، ويشرح أن "كلمات عنوان هذا المقال أخذت من رسالة "أنا أتهم" التي كتبها إميل زولا لرئيس الجمهورية الفرنسية في 13 كانون الثاني 1998، حول الظلم الذي وقع على ألفريد درايفوس، حول تحطم تراث حرية فرنسا، حول تحول اللاسامية إلى القوة الموحدة لمن يكرهون المساواة، حول الكذب والخبث في الجيش وحول الفساد، تشويه الحقيقة، الجهل، العنف والخداع. حول كل ذلك احتج واتهم المسؤولين عنه. وفي إسرائيل عشية يوم الاستقلال السبعين أيضاً نحن نتهم".

الكاتب يوجه نقداً لاذعاً الى نتنياهو مسوّغاً ذلك "بأنه باع روحنا لشيطان التحريض، التخويف والعنصرية. الظروف فتحت أمامه نافذة للظهور كزعيم يقول الأمور الصحيحة بشجاعة: سنقوم بتسوية ضائقة بضع عشرات آلاف بني البشر المساكين حسب قيم العدالة والإنسانية. الآن، بعد أيام من يوم الكارثة، الذي فيه نتذكر لاجئي شعبنا الذين لم يجدوا مكاناً آمناً يهربون اليه، نضع حداً للمشكلة الإنسانية الصعبة هذه. إخوتي المدنيون، هذا ما كان سيقوله زعيم محترم، هذا هو السبيل العادل، ولا يوجد سبيل آخر. ولكن نتنياهو المتهم الأساسي بوضع إسرائيل اليوم، اختار أن يبقى زعيماً بائساً مذعوراً وليس له عمود فقري أخلاقي".

ويوجه بلتمان النقد أيضاً الى وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان قائلا: "نحن نتهمه بالتحريض ضد مواطني الدولة العرب، ونتهمه بسياسة فاسدة وبلطجية واستخدام معايير الأنظمة التي اختفت من العالم، والتي تسمم الديمقراطية الإسرائيلية التي تحتضر. ونتهمه بهدر دم منتخبي الجمهور، يهوداً وعرباً، الذين انتخبوا للكنيست بصورة قانونية ويمثلون بإخلاص مواطنيهم".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات