يعتبر الكاتب والناقد كوبي نيف (هآرتس، 13 آذار الجاري) أن المسلسل الوثائقي "صالح، هذه أرض إسرائيل"، هو مسلسل "ممتاز"، و"يعاني من فهم المقروء" في الوقت نفسه، لذلك يرى أنه باعث على الإحباط الشديد. وهو يشير بهذا إلى أشكال الردود عليه، من قبل من يصفهم باليمين البرجوازي العلماني الأشكنازي، وهم بنظره: أحزاب ميرتس، "المعسكر الصهيوني" و"يوجد مستقبل"، "أبناء وبنات الحكّام الأشكناز قامعي الشرقيين والعرب".
نيف يقسم تلك الردود إلى ثلاثة أصناف: الإنكار، "هذه الأمور لم تحدث أبدا"؛ الحكم المتساوي، "ماذا في ذلك؟، نحن أيضا عانينا عندما جئنا إلى البلاد"؛ والرأسمالية النقية، "متى ستتوقفون عن التباكي". ويرى أن هذه الادعاءات "لا تساعد ولا تجدي نفعاً". الكاتب يناقش كل واحد من المواقف، ويحاجج المنكرين بأن الوقائع "معروضة أمام هؤلاء الناس، مباشرة أمام أعينهم، دلائل قاطعة مكتوبة ومحاضر جلسات وشهادات، ليس فقط للضحايا، بل ايضا لمن قاموا بها. وماذا يقولون؟ لا شيء، عمى مطلق، قدرة عجيبة على النظر إلى الوقائع وعدم رؤيتها".
ويرد على مدّعي "نحن أيضاً عانينا" بالقول: "أنتم لا ترون الفارق؟ أنتم الأشكناز تعرضتم للمعاناة، كما تسمّونها، التي نبعت من صعوبة ونواقص تلك الايام. مقابل ذلك، معاناة الشرقيين فُرضت عليهم من قبل الحكم الشمولي لتلك الايام. ليس فقط أن نمط حياتهم البائس فُرض عليهم بطرق تحايل وعنف، بل أيضا من أراد التحرر من هذا السجن الذي أُدخل اليه، هدده نظام الحكم بالحرمان من السكن ومصدر الرزق، وإخراج أولاده من عهدته، وحتى تجويعه. هل هذا يبدو لكم نفس الشيء؟".
أما الرأسماليون الذين يتهمون الضحايا "بالتباكي" فيواجههم نيف قائلا: "إذا شاهدتم المسلسل، لا يمكنكم عدم فهم أن نتائج القمع والتمييز في ذلك الحين تستمر حتى الآن، وعدم رؤية أن نقطة انطلاق زملائكم الشرقيين في العمل أو في الحي كانت وما زالت أدنى بكثير من نقطة انطلاق آبائكم ونقطة انطلاقكم. مثلا، مكّنوا آباءكم من جعل بيتهم ملكا لهم، في حين لم يُمنح آباؤهم هذه الإمكانية، ولا حتى بالأموال. كما أنهم أرسلوهم لتعلم الخراطة والنجارة في الوقت الذي ذهبتم أنتم إلى الجامعات. ألا تعتقدون أنه قد حان الوقت ولو لقليل من التمييز المصحح؟".
أما عما يسميه الجانب اليميني المتعصب، الديني الشرقي (الليكود وشاس)، فردود هؤلاء على المسلسل وعلى الواقع في الخمسينيات وما بعدها التي توصف في المسلسل، يكتنفها الإنكار وعدم فهم مرير لما حدث في حينه وما زال يستمر إلى الآن. إن نجاح القمع العنصري لا يقاس فقط بمقاييس سياسية واجتماعية واقتصادية ومقاييس ملموسة اخرى. هو يقاس أيضا، وربما في الأساس، بنجاح القامع العنصري (في هذه الحالة، المواطن الاشكنازي الحاكم) في غرس سلم قيمه العنصرية في أوساط ضحايا قمعه العنصري، والتي وفقاً لها فإن الإنسان الأبيض الأشكنازي يتفوق من كل النواحي على الإنسان الأسود وعلى اليهودي الشرقي الأدنى.
نيف يرى أنه "من هذه الناحية، القمع الأشكنازي للشرقيين هو نجاح باهر. الشرقيون الآن أبناء وأحفاد جيل المقموعين، أخذوا على عاتقهم وأدركوا جيدا الرأي القديم الذي زرعه فيهم الحكّام الأشكناز القامعون، والذي يقول إن الشرقيين ايضا ليسوا يهوداً كما ينبغي، وبشكل عام هم مخلوقات أدنى من كل النواحي من إخوانهم الأشكناز المتنورين، لأنهم يشبهون بشكل كبير، تقريبا مثل العرب"...
الجيش وضع تقارير للمناطق التي تقتضي "الحاجة الأمنية" توطين يهود فيها
أحد العناصر بل المستويات الهامة التي طرحها الفيلم يتمثل في أن شكل توطين اليهود العرب المهجرين من دولهم والمستقدمين إلى إسرائيل الصهيونية، جاء ضمن خطة واضحة ومعلنة ومكتوبة ومفصلة لجعل هؤلاء المهاجرين بمثابة حاجز أمام عودة اللاجئين الفلسطينيين، إذ تم توطينهم باعتراف المؤسسة في المناطق التي عُرّفت "خاوية" ويكتنفها خطر "اجتياح" اللاجئين الفلسطينيين المهجرين إليها. بل إن أحد المتحدثين في المسلسل يقول بصراحة كاملة إن من حدد نقاط ومناطق ومواقع توطين اليهود العرب كان الجهاز الأمني بنفسه، إذ وضع الجيش تقارير مفصلة للمناطق التي تقتضي "الحاجة الأمنية" توطين يهود فيها.
في سياق هذه النقطة الأخيرة المشار إليها كتب حجاي مطر وأورطال بن ديان (سيحاه ميكوميت، آب 2017)، عن استخدام اليهود العرب كحاجز أمام العودة الفلسطينية. ويقولان: "يجب قول شيء حول ما يجدد منتجو الفيلم فيه، وحول ما لا يجددون فيه. والاختيار المقصود والعنصري من قبل سلطات الدولة لاستخدام اليهود من شمال أفريقيا كدروع بشرية أمام عودة فلسطينية، وكقوة عمل رخيصة لصناعات الدولة النامية –هو أمر لم يعد سرا منذ فترة طويلة. فالعشرات إن لم يكن مئات الأبحاث والدراسات الأكاديمية قد كتبت حول هذا الموضوع. ولكن منتجي الفيلم يتجاهلون تماما هذا التاريخ".
يحاجج كاتبا المقال ما يدعيه منتج الفيلم درعي من أن "ما قيل حتى اليوم في الخطاب الشرقي حول هذا الموضوع استند أساسا إلى مشاعر الإحباط الحقيقية ولكن ليس على الحقائق". وهنا يقول مطر وبن ديان إنه أمام مثل هذه الادعاءات يكفي النظر مثلا إلى الدراسة البحثية التي أجرتها د. عزيزة كزوم التي تناولت بتحليل واسع مركبات عملية إرسال الشرقيين إلى ما سمي بمدن التطوير، وبالتالي إنتاج الهرمية الإثنية – الطبقية في المجتمع الإسرائيلي. ويهتم كاتبا المقال أيضا بالتذكير بأجيال من المثقفين الشرقيين وغيرهم ممن بحثوا منظومات القمع والتمييز بشكل منهجي ومهني ومنهم: إيلا شوحط، يهودا شنهاف، سامي شلوم شطريت، شلومو سبيرسكي، يوسي دهان وغيرهم.
ويلمح كاتبا المقال إلى أن منتجي الفيلم إما انهم لا يعرفون هذه المادة البحثية الغنية او أنهم اختاروا تجاهلها، مع استخدام المقولة الرائجة بأن الشرقيين يسلكون انطلاقا من الأحاسيس غير العقلانية وليس انطلاقا من التفكير. ولكن الكاتبين يشيران في الوقت نفسه إلى انه على الرغم مما سبق فإن الفيلم ينجح في التجديد. ويشيران إلى أن منتجي الفيلم قد نجحوا في كشف بروتوكولات واقتباسات غير معروفة من الأرشيفات التي كان من شأنها ان تصدم المشاهدين. ويشيدان بتقنية خلق موازاة سينمائية بين هذه البروتوكولات وبين قصص حياة سكان بلدة يروحام الجنوبية، وهو ما أنتج بتقديرهما تجربة جديدة ولغة جديدة لقصة قمع الشرقيين.
الكاتبان يرتكزان إلى هذا التقييم ليوجها نقدا واضحا للفيلم على "لغته المخففة" ويقولان ان منتج الفيلم درعي، أشبه بعضو الكنيست والوزير السابق عمير بيرتس عشية انتخابات سنة 2000، معني بإجراء مراسم دفن لما يسمى في إسرائيل "الشيطان الطائفي" ولهذا فان الجرح لم يندمل بل ما زال ينزف ويوقع ضحايا جددا.
"تعزيز الحدود ضد محاولات لاجئين فلسطينيين العودة إلى وطنهم"!
الباحثة إيلا شوحط كانت كتبت مقالا (نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 1998) بعنوان "اليهود الشرقيون في إسرائيل: الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها اليهود"، توقفت فيه عند مسألة استخدام هجرة/ تهجير اليهود العرب لصد عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم.
تكتب شوحط في مقالها: "يشكل اليهود الأوروبيون نخبة من العالم الأول تسيطر لا على الفلسطينيين فقط، بل على اليهود الشرقيين أيضاً. وكشعب يهودي من العالم الثالث، يشكل المزراحيم أمة شبه مستعمرة داخل أمة. إن هذه المشكلات الموجودة في شكلها الجنيني في فترة ما قبل الدولة، أعطت ثمارها "المرّة" بعد إنشاء إسرائيل، لكنها الآن باتت واضحة بفعل مجموعة متطورة من المسوغات العقلانية والمعالجات المثالية. وقد تحقق تطور إسرائيل الاقتصادي السريع في الخمسينيات والستينيات على أساس توزيع غير متساو للمنافع بصورة منهجية. وهكذا تشكلت البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية على نقيض أساطير المساواة التي ميزت تمثيل إسرائيل لذاتها في العقد الأخير. ثم إن القرارات التمييزية التي اتخذها المسؤولون الإسرائيليون ضد المزراحيم بدأت قبل وصول المزراحيم إلى إسرائيل وقامت على أساس أن "الأشكنازيم"، باعتبارهم "ملح الأرض"، يستحقون أوضاعاً أفضل "وامتيازات خاصة". وعلى العكس من المهاجرين "الأشكنازيم"، عومل المزراحيم بصورة غير إنسانية في المعسكرات التي أقامها الصهيونيون في بلاد المنشأ كما في أثناء الانتقال".
وهي تربط بين شكل توزيع الشرقيين وبين مخطط تكريس التهجير، وتكتب: "لدى الوصول إلى إسرائيل، وُزعت مجموعات المزراحيم المتعددة عبر البلد على الرغم من إرادة البقاء معاً. العائلات فرقت، والمجموعات القديمة فتتت، والقادة التقليديون جردوا من مناصبهم. اليهود الشرقيون أسكنوا، في الغالب، في "معبروت" (معسكرات انتقال) وقرى نائية ومستوطنات زراعية، وفي ضواحي المدن، ومنها ما أُفرغ حديثاً من الفلسطينيين. ومع استنفاد تسهيلات الاستيعاب أنشأت سلطات الاستيطان "عيّروت بيتوّاح" ("بلدات التطوير") في مناطق ريفية وحدودية في الغالب، أصبحت، كما هو متوقع، هدف الهجمات العربية. وكانت السياسة المعلنة "تعزيز الحدود" لا ضد الهجمات العربية العسكرية فحسب، بل أيضاً ضد أية محاولات يقوم بها لاجئون فلسطينيون للعودة إلى وطنهم. وإذا كانت الدعاية الإسرائيلية امتدحت كيبوتسات الأشكنازيم، المحمية بصورة أفضل، لشجاعتها في العيش على الحدود، ففي الواقع إن أعدادهم القليلة (نحو 3 بالمئة من السكان اليهود، ونصف ذلك العدد إذا أخذنا المستوطنات الحدودية فقط) لا تكاد تمكنهم من ضمان أمان الحدود الطويلة، في حين كانت مستوطنات المزراحيم الأكثر عدداً على الحدود تضمن قدراً من الأمن. ثم إن مستوطنات الحدود المزراحية كانت تفتقر إلى بنى تحتية للحماية العسكرية القوية كتلك الموجودة لدى مستوطنات الأشكنازيم، الأمر الذي أدى إلى فقد أرواح المزراحيم. إن الفصل العرقي الذي يميل إلى تمييز الإسكان الإسرائيلي يعود أيضاً إلى هذه الفترة، ففي حين يتجه الأشكنازيم إلى العيش في المناطق الشمالية الأكثر ازدهاراً، كان المزراحيم مركزين في المناطق الجنوبية الأقل ثراء"!.