بعد أيام من التوتر والمظاهرات في القدس الشرقية المحتلة، تمت إزالة أجهزة الفحص المعروفة بـ"البوابات الالكترونية"، يوم الخميس 27.7.2017، وجرى كذلك تفكيك الحواجز العسكرية عند مداخل الموقع. للتذكير: فقد شرعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في 16 تموز 2017، بتركيب بوابات إلكترونية على بوابات البلدة القديمة في القدس المحتلة. كان ذلك كما اتضح لاحقاً تنفيذاً لقرار شارك فيه بشكل رئيس بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، رداً على عملية إطلاق نار نُفذت داخل باحات المسجد الأقصى، قتل فيها شرطيان إسرائيليان، وثلاثة شبان فلسطينيين. وشمل القرار "وضع أجهزة كشف المعادن في مداخل المسجد الأقصى، ونصب كاميرات خارج الحرم، لمراقبة ما يدور فيه"، كما جاء في بيان صدر عن مكتب نتنياهو.
وتحت ضغط نضال المقدسيين خصوصاً، والردود الفلسطينية والعربية والدولية المختلفة، اضطرت سلطات الاحتلال لإزالة تلك التجهيزات، والتي تبيّن لاحقاً أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تحفظت من وضعها.
لكن ما حدث ليلة إزالة البوابات الإلكترونية داخل باحات المسجد من عدوان بوليسي احتلالي واسع، ظلّ بعيداً عن الأضواء وعن الأصوات الاعلامية، وخصوصاً العبرية والأجنبية منها.
ويقدم هذا التقرير معلومات مفصلة عما جرى في تلك الليلة القاتمة التي اختلط فيها التعذيب والتنكيل بالرصاص الإسفنجي والقنابل الصوتية.
فقد عاد المصلون إلى الأقصى بعد أيام من المظاهرات التي عمت الشوارع. ولكن في الساعة العاشرة والنصف مساءً، حين تواجد ألوف المصلين في باحة المسجد أمرت الشرطة المصلين بإخلاء الموقع. وقد غادرها الجميع فعلا، لكن نحو 120 مصليّاً لم يسمعوا مكبرات الصوت البوليسية لانهم كانوا داخل المسجد القبلي في طرف الموقع، حيث جرت صلاة ليلية هناك.
المعلومات هنا وردت ضمن دعوى قدمتها اللجنة العامة لمناهضة التعذيب، باسم عدد من المعتقلين الفلسطينيين، إلى قسم التحقيقات مع عناصر الشرطة الإسرائيلية المعروف بـ"ماحش".
وفقا لشهادات المدّعين وشهود آخرين، في لحظة واحدة اقتحمت القوة البوليسية المؤلفة من 100 شرطي صلاتهم وبدأت بإلقاء القنابل الصوتية بين المصلين المذعورين. كان عناصر الشرطة يحملون على خوذاتهم كاميرات ومصابيح إضاءة ليلية، أي انه كان بوسعهم رؤية ما يجري وان المصلين في حالة من الذعر ويتراكضون في كل الاتجاهات. وهنا بدأ عاصر الشرطة بإطلاق الرصاص الأسفنجي مباشرة على المصلين.
هذا المشهد المظلم الظلامي الظالم، حيث تم تعتيم المكان واقتحامه واستخدام اطلاق رصاص إسفنجي وقنابل صوتية، كان بالنسبة لبعض شهود العيان في لحظات حدوثه أشبه بعملية اغتيال من التي سمعوا عنها. وهم يروون كيف خافوا على حياتهم. كذلك، فإن علاقة الشرطة بالمسجد بدأت بمهاجمة المصلين في الهراوات واللكمات والارجل وهو ما ترافق بعنف كلامي وتهديدات وشتائم حملت طابع التهديد الجنسي.
دربٌ طويلة من الإذلال والإهانات
بعد هذا بدأ عناصر الشرطة بتقييد المصلين، حين كان هؤلاء يرفعون أيديهم في الهواء إشارة إلى الإذعان. سارت العملية كالتالي: كان عناصر الشرطة يختارون احد المصلين في كل مرة فيتقدم عدة خطوات إلى الأمام ليُقذف به على ارض المسجد فيُضرب بالهراوات واللكمات وأخيرا يقيدونه بقيود بلاستيكية بشكل مؤلم عن قصد. وهذا على الرغم من انه لم تكن أية مقاومة من قبل المصلين للاعتقال او التقييد. وفي بعض الحالات كان عناصر الشرطة بعد تقييد المصلين وحتى تغطية عيونهم، يرمونهم على الأرض ويدوسونهم عن قصد لإذلالهم. وهذا كله أدى إلى أضرار جسدية واصابات في صفوف المصلين المعتقلين. لقد وصل عددهم إلى 120 شخصا وكان بينهم قاصرون، مما يدل على ان الاعتقالات كانت عشوائية وجماعية وليست محددة وعينيّة.
عملية نقل المصلين المعتقلين من الاقصى إلى محطة الشرطة في المسكوبية، كانت هي الأخرى دربا من الإذلال والإهانات وانتهاكات حقوق الإنسان بقسوة. وضمت العنف والتنكيل من قبل عناصر الشرطة. فقد اجبروهم على السير حفاة طول الطريق والمشي برؤوس مطأطئة، وكل من تجرأ على رفع رأسه تعرض للضرب. وهناك من اجبر على احناء ظهره ايضا. وحين وصل المعتقلون جماعياً إلى باب المغاربة قرر عناصر الشرطة اجراء تفتيش لهم في منطقة مفتوحة وعلى مرأى من الجميع. ويقول قسم من المصلين ان عابري سبيل سخروا منهم خلال تفتيشهم، وهناك من قام ايضا بتصويرهم بهواتفه على سبيل التسلية المهينة. ثم تم نقلهم إلى المسكوبية، بعضهم نقل بسيارات بوليسية مكتظة أجبِر فيها المعتقلون على الجلوس على أرضية السيارة، وقسم آخر في باص تابع لشركة "ايجد" الإسرائيلية الكبيرة. وطيلة عملية نقلهم تواصل الضرب باللكمات والركلات لمصلين مقيدين.
كان في الباص نحو 100 معتقل. وتم إجبار المعتقلين على الجلوس الواحد فوق الآخر. وفي بعض الحالات تم إجبار مصلين جالسين فوق الكراسي على الانحناء للأمام وتم وضع معتقلين فوقهم، كأنهم أغراض وليس بشراً.
بين هؤلاء المعتقلين كان مسعفون تعرضوا لكل هذا العنف على الرغم من انهم ارتدوا سترات لامعة وبحوزتهم بطاقات ممغنطة تدل على عملهم وهوياتهم. ولكن الرصاص الأسفنجي اصاب احدهم في وجهه وادى إلى فقدانه الوعي. ويقول عدد من الشهود ان ضابطا بوليسيا اسمه "شلومي" أمر عناصر الشرطة بنزع السترات عن المسعفين ومصادرة البطاقات الممغنطة التي تشير إلى هويتهم المهنية. بل تم تمزيق بطاقة أحد المسعفين بأيدي الضابط شلومي الذي صرخ: "لا يوجد هنا مسعفون، إنكحوهم جميعا".
شهادة المُسعف محمد أبو غربية
بين هؤلاء المسعفين كان محمد ابو غربية الذي وصل مع طاقم مؤلف من ستة مسعفين لتوفير المساعدة والعلاج الطبي للمصلين. وقام مع طاقمه بتوفير اسعاف بعد اطلاق الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية وقد هوجم وهو في وسط عملية الإسعاف حيث تم نزع سترته عنه. ويقول إنه سمع ذلك الضابط المدعو "شلومي" وهو يحث عناصر الشرطة على استخدام العنف مستعملا كلمات بذيئة. فبدأ عناصر الشرطة بضرب محمد حتى كاد يفقد الوعي. بعدها تم الحاق المسعف بالمصلين الواقفين في احدى زوايا المسجد، واعتدى عناصر الشرطة عليهم واحدا بعد الآخر وهم يقيدونهم.
ويقول محمد إن احدى الشرطيات أمسكته بيده بينما قام شرطي آخر بضربه بركبته في الصدر، مما أوقعه أرضا، وجاء شرطي آخر وداس عليه بينما هو يقيده بقوة بقيد بلاستيكي. وحين قال لأحد عناصر الشرطة إن "القيد قاس جدا وإنه في النهاية إنسان" شدّ الشرطي القيد إلى ان بدأت يداه تنزفان دماً. وبعد ذلك تم نقله إلى زاوية اخرى مع سائر المصلين المعتقلين المقيدين، فأمره شرطي بالركوع وإحناء ظهره. وفي كل مرة رفع رأسه ليستنشق بعض الهواء تعرض للضرب الشديد وأعيد إلى وضعية الانحناء. وقد قضى وقتا طويلا في هذه الوضعية إلى ان تم اعتقال جميع المصلين وتقسيمهم إلى مجموعات لنقلهم إلى المعتقل في المسكوبية.
ويروي محمد انه خلال نقل المعتقلين في شوارع المدينة حفاة القدمين كان احد عناصر الشرطة يمسك بعنقه وهو يدفعه إلى الاسفل. وحين كان يحاول الافلات كان يتعرض للضرب في صدره بالركبة التي كان الشرطي يغطيها ايضا بواقٍ قاسٍ ملفوف حولها. وفي النهاية بعد مسيرة النقل القاسية، كما وصفت أعلاه، حين وصل المعتقلون إلى المسكوبية ادخل عناصر الشرطة المعتقلين إلى غرفة الطعام. هناك تم إجلاس محمد أسوة مع آخرين على ارضية غرفة الطعام على الركبتين بانتظار التحقيق. وعلى الرغم من طلبه واسترحامه المتكرر لم يتم فك قيد المسعِف المعتقل الا بعد انتهاء التحقيق معه. وحين طلبوا منه توقيع وثائق التحقيق - والتي كانت مكتوبة باللغة العبرية التي لا يتقنها - لم يتمكن المسعف من الامساك بالقلم لشدة الألم.
شهادات عديدة تفصّل الوحشية ذاتها
الصورة القاسية نفسها ترتسم وتتقاطع مع سائر الشهادات عن هذه الليلة التي انفلتت فيها قوة الشرطة ببهيميّة بحق مصلين، ربما تأثرا بأجواء العنصرية و "الاحباط" بسبب التراجع الحكومي والبوليسي عن فرض وقائع جديدة في الاقصى. فتم افلات قوة بوليسية لتقترف ما يشبه أكثر شيء فعلا انتقاميا لم يدفعه مبرر أمني ولا جنائي ولا غيره. بل يعود سببه وينحصر في غرائز قومجية عنصرية مشتعلة. فالمسعف احمد عاصم كان ايضا يقوم بإسعاف أحد المصابين حين انقضت عليه العناصر البوليسية الشرسة المنفلتة، وتعرض للإجراء نفسه من خلع السترة المهنيّة ومصادرة البطاقة وسائر الاعتداءات التي وصفها زميله محمد. ومثله المسعف الثالث محمد ماهر الذي يضيف انه قال لضابط الشرطة "شلومي" بأنه يعمل مسعفا، فقام هذا الضابط بكسر بطاقته أمام عينيه، وهوجم بعدها بالقبضات والركلات البوليسية.
الشهادات الاخرى التي نقلها المصلون الذين اعتقلوا داخل المسجد القبلي تشبه إلى حد التماثل في أوصافها ما نقله المسعفون. فقد تحدثوا عن ركلات بالأرجل في جميع أنحاء الجسد، ضربات على الوجه، قيود بلاستيكية مشدودة ومؤلمة، وعيون مغطاة واقتياد مهين ومذل وتفتيش على مرأى من عيون المارة، وسائر الأضرار الجسدية والنفسية.
دعوى جماعيّة بانتظار انتهاء التحقيق
الدعوى التي تقدمت بها المحامية نوعا ليفي، من اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، جاءت باسم كل من: محمد ابو غربية، احمد عاصم دعنة، محمد ماهر قراقع، إيهاب شلبي، منصور ناصر، وليد ابو لبن، محمد خلف، طارق قدح، محمد أبو ريالة.
وفقا لوثيقة الدعوى، تعرضوا جميعا للاعتداء من قبل عناصر الشرطة في المسجد القبلي بتاريخ 27.7.2017. وتؤكد الرسالة أن الأزمة حول الأقصى كانت حدثا خطيرا وحساسا، مما يجعل السلوك اللائق من قبل أجهزة تطبيق القانون في هذا الإطار مسألة ذات أهمية حاسمة. ولذلك هناك خطورة خاصة في الانتهاكات القاسية لحقوق المصلين، كما تشير شهادات المدعين، وهي تشمل تفعيل القوة المباشرة ووسائل تفريق المظاهرات في داخل فضاء مسجد مغلق. فالصورة التي ترتسم من خلال الدعاوى المفصلة هي صورة قاسية جدا، وفي مثل هذه الفترات الحساسة - تقول اللجنة لمناهضة التعذيب: "كان يمكن أن نتوقع من عناصر القانون التصرّف بشكل أكثر حساسية بل بحساسية أعلى من المعتاد، ولكن يبدو وللأسف أن سلوك عناصر الشرطة كان عنيفا ومهينا وهناك شبهة لارتكاب مخالفات خطيرة كما يقول الشهود".
وتتلخص محطات التعذيب البوليسي في هذه الليلة القاتمة، كالتالي:
أولا: اقتحم عناصر الشرطة المسجد خلال الصلاة وأطفأوا الأضواء وأطلقوا القنابل الصوتية والرصاص الأسفنجي على المصلين.
ثانيا: قام عناصر الشرطة بتفريق المصلين الواحد بعد الآخر بعنف شديد ودون مقاومة من المعتقلين وكل هذا على مرأى من جمهور كبير في المكان.
ثالثا: أجبر عناصر الشرطة نحو 100 معتقل على السير وهم حفاة في شوارع القدس، أيديهم مقيدة خلف الظهر، وبرؤوس أو ظهور منحنية. وكان هناك بين المعتقلين من قبض عليه عناصر شرطة من العنق.
رابعا: قرر عناصر الشرطة إدخال المعتقلين إلى باص لا يكفي لعددهم واجلسوا المعتقلين مقيّدين الواحد فوق الآخر.
خامسا: تم إهانة وإذلال الطاقم الطبي وتعرض للاعتداء على الرغم من زيه الذي يعرّف هويته المهنية، وذلك من خلال إظهار احتقار لمكانة الطواقم الطبية التي تحظى بحماية من القانون الدولي الإنساني في العالم أجمع.
وجميع ادعاءات المشتكين تؤكدها وثائق طبية تثبت الأضرار التي تعرضوا لها، وكذلك الكثير من شهود العيان الذين يؤكدون أقوال المدعين.