المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أعلنت منظمة "بتسيلم"، يوم الأربعاء (25 أيار الجاري) أنّها قررت التوقف عن توجيه الشكاوى إلى "جهاز تطبيق القانون العسكريّ".

وشرحت المنظمة خلفيات وأسباب قرارها هذا في تقرير جديد نشرته في اليوم نفسه بعُنوان "ورقة التوت التي تغطي عورة الاحتلال: جهاز تطبيق القانون العسكري كمنظومة لطمس الحقائق"، يفصّل الاستنتاجات التي تستند إلى معلومات تراكمت عبر مئات الشكاوى التي قدّمتها المنظمة إلى "جهاز تطبيق القانون العسكريّ" والعشرات من ملفّات شرطة التحقيقات العسكريّة ولقاءات كثيرة عقدها ممثلوها مع مسؤولين رسميّين.

وأكدت "بتسيلم" أنها "ستواصل توثيق الانتهاكات والتبليغ عنها، لكنّنا لن نساعد بعد اليوم الجهاز الّذي يعمل كمنظومة لِطَمس الحقائق والذي يعفي مسبقًا القيادة العسكريّة المسؤولة والقيادة السياسيّة من المسؤوليّة عن السياسة التي أقرّوها". وتؤكد "بتسيلم" أنها "أدركت، على ضوء التجربة المتراكمة طوال 25 سنة، أن لا أمل في تعزيز العدل وحماية حقوق الإنسان عبر نظام يقاس أداؤه الحقيقيّ في قدرته على مواصلة تغطية انتهاكات القانون وحماية مسبّبي الضرر، بنجاح"!

ويشير تقرير "بتسيلم"، بداية، إلى أن دور جهاز تطبيق القانون العسكري قد "تم تعريفه منذ البداية بشكل محدود"ـ إذ أنّه "يحقّق فقط في حوادث محدّدة يُشتبه فيها بأن الجنود تصرفوا بشكل مخالف لأوامر أو تعليمات أعطيت لهم". لكن هذا الجهاز لا يحقق، بتاتا، في الأوامر نفسها وفي مسؤولية واضعي السياسات ومُصْدري التعليمات، ما يعني أن هذا الجهاز "موجّه فقط ضد الجنود الصغار، بينما يُمنح إعفاء مسبق لجميع أصحاب المناصب الرفيعة على الصعيدين السياسيّ والعسكريّ، بمن فيهم النائب العسكري الرئيسيّ ـ من أية مسؤولية أو مساءلة". ولذلك، فحتى لو قام هذا الجهاز بالمهمة الملقاة على عاتقه، تظلّ فائدته في تطبيق القانون محدودة. لكنّ فحص أداء هذا الجهاز يشير إلى أنه "لا يسعى حتى إلى تنفيذ هذه المهمة المحدودة"!

تعاون متواصل منذ 25 عاماً

منذ تأسيسها قبل أكثر من 25 عامًا، توجهت منظمة "بتسيلم" إلى النيابة العسكرية مطالبةً بالتحقيق في مئات الأحداث التي ألحق فيها جنود الأذى بالفلسطينيين. ونتيجة بعض هذه التوجهات، فُتح تحقيق جنائيّ. وفي كثير من الحالات، ساعدت منظمة "بتسيلم" المحققين في عملية جمع شهادات الضحايا والشهود الفلسطينيين والحصول على الأوراق الطبية أو غيرها من الوثائق ذات الصلة. وبعد الانتهاء من التحقيقات، واصلت "بتسيلم" التوجه إلى النيابة العسكرية للحصول على معلومات بشأن نتائج القضية. وقد قدمت في بعض الحالات طعونًا للنيابة العسكرية على قرارات بإغلاق ملفات، كما توجهت في حالات أخرى إلى "محكمة العدل العليا" ضد قرارات كهذه أو جراء المماطلة غير المعقولة في معالجة بعض الملفات.

منذ بداية الانتفاضة الثانية، في أواخر العام 2000، توجهت "بتسيلم" إلى النيابة العسكرية مطالبة بالتحقيق في 739 حالة قُتل فيها فلسطينيون أو أُصيبوا أو ضُربوا على أيدي جنود أو تضررت ممتلكاتهم أو استخدمهم الجنود كدروع بشرية. ومن تحليل الإجابات التي حصلت عليها المنظمة بشأن معالجة "جهاز تطبيق القانون العسكري" لهذه الحالات، تبين أنّه في رُبع الحالات (182 حالة) لم يجر أي تحقيق على الإطلاق، بينما تم إغلاق الملفات في نصف هذه الحالات تقريبا (343 حالة)، وفقط في حالات نادرة (25 حالة) تم تقديم لوائح اتهام ضدّ الجنود المتورطين. وفي المقابل، تم تحويل 13 ملفًا إلى المحاكم التأديبية ولا تزال 132 حالة قيد العلاج في مراحل مختلفة، بينما لم تستطع النيابة العسكرية تحديد وضعية المعالجة بشأن 44 حالة أخرى.

أما الـ 739 شكوى المذكورة التي قدمت خلال الفترة بين العام 2000 والعام 2015، فتوزعت على النحو التالي:

أ. قتل ـ 208 حالات، لم يتم تقديم لوائح اتهام إلا في 8 حالات منها، فقط، بينما لم يجر أي تحقيق إطلاقا في 91 حالة منها. أما الحالات التي تم إجراء تحقيق فيها، فقد انتهت 45 منها بإغلاق الملفات وتم تحويل الملف إلى إجراء تأديبي في حالة واحدة و"لم يتم العثور على الطلب" في 9 حالات و"لا يزال التحقيق جاريا" في 16 حالة و"الملف قيد معالجة النيابة" في 31 حالة و"لم يتخذ قرار بفتح تحقيق، حتى الآن" في 7 حالات.

ب. إصابات ـ 122 حالة، تم تقديم لوائح اتهام في 4 حالات فقط، بينما تم إغلاق الملف في 38 حالة.

ت. ضرب ـ 300 حالة، لم يتم تقديم لوائح اتهام سوى في 11 حالة بينما تم إغلاق الملف في 199 حالة.

ث. المس وإضرار بالممتلكات ـ 78 حالة، تم تقديم لائحتي اتهام في حالتين منها فقط، بينما تم إغلاق الملف في 46 حالة.
ج . استخدام مواطنين "دروعا بشرية" ـ 31 حالة، لم يتم تقديم أية لائحة اتهام في أي منها، وتم إغلاق الملف في 15 حالة.

وفي الإجمال، انتهت الشكاوى الـ 739 على النحو التالي:
لم يتخذ قرار بفتح تحقيق حتى الآن ـ 24 حالة; لم يجر أي تحقيق ـ 182 حالة; لا تزال قيد التحقيق ـ 69 حالة; تم إغلاق الملف ـ 343 حالة; قيد معالجة النيابة ـ 39 حالة; تم تقديم لوائح اتهام ـ 25 حالة; تم تحويل الملف إلى إجراء تأديبي ـ 13 حالة; لم يتم العثور على الطلب ـ 44 حالة.

كيف يعمل "جهاز تطبيق القانون العسكريّ"؟

اكتسبت "بتسيلم"، خلال سنوات تجربتها الطويلة، معرفة تنظيمية واسعة ومفصلة حول طريقة عمل هذا الجهاز واعتباراته، والتي يمكن الإشارة على أساسها إلى الإخفاقات الهيكليّة الكامنة في عمله بشأن معالجة عدد كبير من الملفات، إذ أغلق معظمها دون التوصل إلى أية نتيجة.

تُجرى تحقيقات "شرطة التحقيقات العسكريّة" بطريقة تنطوي على إهمال لا يسمح للمحققين بالوصول إلى الحقيقة. في إطار التحقيق، لا يتم بذل أي جهد تقريبا للحصول على أدلة خارجيّة، و"يتكل" الجهاز مرارا وتكرارا على وجود صعوبات معروفة منذ سنوات طويلة، ويتذرع بها دون محاولة إيجاد حلّ لها. وبدلا من الأدلة، ترتكز التحقيقات، بشكل حصريّ تقريبا، على إفادات الجنود والمواطنين الفلسطينيين المعنيين. وعلى الرغم من ذلك، يتبين من ملفات التحقيق أن محقّقي "شرطة التحقيقات العسكرية" يجدون صعوبة في جمعها وفي حالات كثيرة يتم جمعها فقط بعد مرور أشهر طويلة من وقوع الحدث. وخلال جمع الشهادات، يعمل المحققون أساسا كناسخين لا يسعون للبحث عن الحقيقة، حتى عندما تظهر تناقضات في أقوال الجنود أنفسهم أو بين أقوالهم وأقوال مقدِّمي الشكاوى.

بعد هذا التحقيق، ينتقل الملف إلى "نيابة الشؤون الميدانيّة" التي يحدد نظامُ اعتباراتها، بشكل مسبق تقريبًا، إغلاقَ الملف دون نتيجة. فملفات كثيرة تُغلق بدعوى "انعدام التهمة" ـ لأنّ النيابة تقبل، في الغالب، روايات الجنود المشتبه بهم في ارتكاب المخالفة. وبالإضافة، لم تفعل النيابة ـ التي ترافق التحقيقات منذ البداية وتشرف عليها ـ أي شيء لتحسين عملها وتطوير أدائها، بل تكتفي فقط بالتحقيقات السطحية التي تجريها "شرطة التحقيقات العسكرية" لاتخاذ قرار في القضية. وفي هذه الظروف، يتم إغلاق ملفات كثيرة "لعدم وجود أدلة"، وهو أمر متوقع حيال عدم بذل أية جهود أو محاولات جادّة لجمعها، مما يصعّب جدا، بل يحول دون إعداد ملف جنائيّ بدونها.

في حالات كثيرة، تقرّر "نيابة الشؤون الميدانيّة" عدم فتح تحقيق جنائيّ على الإطلاق. وتفسّر قرارها هذا، أحيانا، بادّعاء "انعدام التهمة". وهذا ما يحصل، غالبا، بالاستناد إلى روايات الجنود فقط. أما في الحالات التي يُقتل فيها فلسطينيّون، فيكون الادعاء، عادة، أن الحديث يدور عن "عمليات قتالية" ـ الأمر الذي يعفي الجنود من التحقيقات الجنائيّة، تماما، أكثر بكثير مما يجيزه القانون الدولي.

يستمدّ "جهاز تطبيق القانون العسكري" شرعيّته، أيضًا، من الوجود الظاهري لآليات مراقبة في الجهاز المدني، والمتجسدة أساساً في المستشار القانوني للحكومة والمحكمة العليا، والتي من المفروض أن تراقب عمل النائب العسكري الرئيسيّ ـ صاحب الصلاحيّات الواسعة ـ بوجه خاصّ، وعمل النيابة العسكريّة بوجه عام. لكن المستشار القانوني يختار، عادة، منح معظم صلاحياته للنائب العسكري الرئيسيّ ويمتنع عن التدخّل في قراراته. أما المحكمة العليا، فليس من المفترض بها أن تعمل كآلية مراقبة منذ البداية، وهي عادة ما فضّلت وتفضّل عدم التدخل، في الحالات القليلة التي طُلب ويُطلب منها ذلك.

يتميز "جهاز تطبيق القانون العسكري" أيضا بجملة من المشاكل في نهجه اليوميّ: النظام ليس متاحًا على الإطلاق للمشتكين الفلسطينيين، والذين لا يمكنهم أن يقدموا بأنفسهم شكاوى في "شرطة التحقيقات العسكريّة"، بل متعلّقون بمنظمات حقوق الإنسان أو بمحامين يقومون بتقديم الشكاوى عنهم. وتستمر معالجة كلّ شكوى شهورا طويلة حتى سنوات. وفي العديد من الحالات، يكون الجنود المتورطون قد أنهوا خدمتهم العسكرية فلا يعود قانون المحاكمة العسكرية ساريًا عليهم. وعلاوة على هذا، لا تتمتع شرطة التحقيقات العسكريّة والنيابة، على حد سواء، بالشفافية اللازمة وكثيراً ما يتطلب الحصول على معلومات منهما بشأن الشكاوى المقدمة إليهما توجهات متكررة ومتواصلة.

تطبيق صوري للقانون

هذا هو الجهاز الذي تعرضه مصادر رسميّة في جميع أنحاء العالم وفي إسرائيل لإثبات ادعاءها بأن الجيش يفعل كل ما في وسعه للتحقيق في الشكاوى المقدّمة ضد الجنود المسؤولين عن إلحاق الأذى بالفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة. ويتباهى المسؤولون بنجاعة هذا الجهاز وقيمه ويرفضون أي انتقاد جوهري. هذا على الرغم من أنّ المسؤولين في الجيش وخارجه يعرفون، حق المعرفة، مستوى أداء الجهاز ونتائج عمله.

بين تقرير وآخر وبين لجنة وأخرى، ينشأ حراك يسعى في الظاهر إلى إحداث تغييرات في عمل الجهاز وتحسين أدائه. وهذا الحراك الوهمي يتيح المجال لعناصر من داخل الجاهز وخارجه للتحدث عن أهمية الهدف المعلن من تطبيق القانون على الجنود، بينما تبقى الإخفاقات والقصورات الجوهرية على حالها.

ويسمح هذا الحراك الظاهري، أيضا وبين جملة أمور أخرى، بادعاء المسؤولين الرسميين بأن إسرائيل تطبق القانون على الجنود الذين يلحقون الأذى بالفلسطينيين، كما يساهم في إضفاء الشرعية ـ في إسرائيل وفي العالَم ـ على استمرار الاحتلال. وهكذا، تنجح الدولة في الحفاظ ليس فقط على مفهوم "سلامة وأخلاقيّة جهاز تطبيق القانون"، وإنما أيضا على "الصورة الأخلاقيّة" للجيش الذي يكافح هذه الأفعال (التي يتم تصويرها بأنها "استثنائيّة").

المصطلحات المستخدمة:

بتسيلم, المستشار القانوني للحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات