المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1122

إذا كان بنيامين نتنياهو قد نجح في إقصاء كل مَن يمكن أن ينافسه على رئاسة الليكود، وفي أن يقلص حجم التأييد له في الحزب، فإن نتنياهو "ينعم" بغياب البديل له في الساحة السياسية، وخيار البديل التقليدي الوحيد تاريخيا لحزب الليكود هو حزب "العمل"، رغم أن هذا الخيار سقط من خانة "الاحتمالات الواقعية"، منذ 15 عاما. وساهم في هذا خطاب حزب "العمل" وقادته على مر السنين. وبعد تراجعات متوالية لقوة هذا الحزب في الانتخابات البرلمانية، جاء إسحاق هيرتسوغ ليستعيد قسطا ليس قليلا نسبيا من قوة حزبه، ولكن بدلا من أن يستغل الأمر كرافعة للحزب كله وطرحه كبديل، عاد إلى مربّع سابقيه، وشرع في منافسة خطاب اليمين، ظنّاُ منه أن هذا يعزز احتمالات وصوله إلى رئاسة الوزراء. بيد أن تجارب الماضي وواقع الحلبة السياسية، يؤكدان أن هذا الاحتمال أقرب إلى الصفر، وهذه نتيجة ساهم في تثبيتها حديثا هيرتسوغ ذاته.

بدأت أزمة القيادة الحالية في حزب "العمل"، في اللحظة الأولى لاغتيال إسحاق رابين، وعودة شمعون بيريس إلى رئاسة الحزب، ومن خلالها رئاسة الوزراء واتجاهه إلى انتخابات مبكرة في ربيع العام 1996، وما رافق ذلك من تطورات عسكرية وأمنية، بادرت لها إسرائيل أساسا، والعودة إلى خطاب متلعثم، تراجع كثيرا عن الخطاب الذي قاد إلى اتفاقيات أوسلو. وتأجج الخطاب المتلعثم المتجه أكثر نحو اليمين، في فترة رئاسة إيهود باراك، ابتداء من العام 1997، ثم في رئاسته للوزراء من ربيع العام 1999، ولمدة 20 شهرا انتهت في شتاء 2001.

ومنذ تلك الفترة، لم يطرح حزب "العمل" ذاته كحزب بديل، بل شارك في حكومات الليكود، وحكومة الحزب المنشق عن الليكود، "كديما"، وكان شريكا لأشد أحزاب اليمين تطرفا في حكومة نتنياهو قبل السابقة من العام 2009 إلى العام 2011، إلى أن وقع الانشقاق بقيادة رئيس الحزب إيهود باراك في حينه. وحتى حينما وقع الانشقاق، على خلفية إرادة غالبية نواب الحزب ووزرائه بعدم البقاء في حكومة نتنياهو، فإن الحزب بقي ملتصقا في الخانة ذاتها: خانة الخطاب المتلعثم.

في نهاية العام 2012، عشية الانتخابات البرلمانية في مطلع العام 2013، أعلنت رئيسة حزب "العمل" في حينه، شيلي يحيموفيتش، أن وجهة حزبها هي القضايا الاقتصادية أولا، "لأن إسرائيل قوية اقتصاديا قادرة على فرض حل للصراع"، حسب تعبيرها. يومها أثار ذلك التصريح ضجة كبيرة في الحزب، واتخذ عمير بيرتس ذلك التصريح ذريعة كي يخرج من صفوف الحزب مجددا، ويقبل بإغراء تسيبي ليفني لينضم اليها ثانيا في حزب "الحركة"، الذي أنشأته في حينه منشقة عن حزبها "كديما"، كي تخوض الانتخابات البرلمانية. ولكن من أبرز المنتقدين يومها ليحيموفيتش كان هيرتسوغ. واضطرت يحيموفيتش إلى التراجع عن تصريحها جزئيا قبل بضعة أيام من تلك الانتخابات.

وانتخب هيرتسوغ لرئاسة حزبه في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني من العام 2013، ويومها ألقى خطابا سياسيا أفضل من سابقيه نسبيا، ما خلق توقعات أخرى منه. وفي عدد "المشهد الإسرائيلي" الصادر يوم 3 كانون الأول 2013، جاء ما يلي في استعراض لكاتب هذا المقال على أثر الانتخاب، "إن هيرتسوغ، الذي لم يُعَد في أي يوم من الأيام من قادة الصف الأول في حزبه، قد يكون بإمكانه استعادة بعض مكانة الحزب السابقة، وخاصة على ضوء سلسلة من المؤشرات التي تدل على خيبة أمل واسعة لدى مصوتي الحزب الجديد يوجد مستقبل من هذا الحزب ورئيسه وزير المالية يائير لبيد، إذ أن هذا الحزب كان قد اقتنص كمية لا بأس بها من الأصوات، التي كان من المفترض أن تتجه إلى حزب العمل في الانتخابات البرلمانية، ليحل يوجد مستقبل ثانيا، بعد حزب الليكود".

وتحقق هذا السيناريو في انتخابات ربيع العام الماضي 2015، إذ أثمر التحالف مع حزب "الحركة" بزعامة تسيبي ليفني، عن قفزة في التمثيل البرلماني، وبات لحزب "العمل" 19 نائبا، بدلا من 15 في انتخابات 2013، و13 نائبا في العام 2009. إلا أن هيرتسوغ لم يستغل هذه القفزة ورئاسته لكتلة برلمانية تضم 24 نائبا، لطرح الخطاب البديل البعيد عن مرتكزات خطاب اليمين. وفي مراجعة لتصريحات وخطابات هيرتسوغ في الأشهر الثلاثة الأخيرة، نجده كمن ينافس على مكانة "القائد العسكري"، حتى وإن أرفق تصريحاته بضرورة التوجه إلى حل الصراع: "يجب أن ننفصل عن الفلسطينيين"، وهذه عبارة يكررها هيرتسوغ بوتيرة عالية، وبالإمكان تفسيرها، كمن يريد اقناع الإسرائيليين بأن خيار حل الصراع هو "خيار اللامفر"، وليس عن قناعة مبدئية، بضرورة الاقرار بحقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال.

خطاب هيرتسوغ

قال هيرتسوغ في تصريحات عديدة منذ اندلاع الهبّة الفلسطينية وحتى الأيام الأخيرة: "هذه ليست موجة ارهاب، هذه انتفاضة ثالثة، حذرت منها منذ أشهر. تنفلت في الشوارع انتفاضة ثالثة، و"سيد الأمن السابق" (نتنياهو) فقد السيطرة، فكل بضع ساعات يوجد إنذار. إنه يخاف من اليمين المتطرف، ويبقينا عالقين بالفلسطينيين. نحن وهم عالقون، بدلا من القيام بمبادرة للانفصال عنهم. نحن نلج إلى واقع نكون نحن في داخلهم وهم في داخلنا. لا يوجد فصل من دون أمن، والشعب يشعر بهذا" (11 كانون الثاني 2016).

ويقول، على خلفية عملية تل أبيب التي وقعت في اليوم الأول من الشهر الجاري: "إن الجهات الفلسطينية الحقيرة التي أقامت خيام عزاء لذكرى مرتكب العملية (نشأت ملحم)، هم أعداء إسرائيل، وعليهم أن يعرفوا أننا لن نتوقف إلا حين ندمر ونقضي على خلايا الكراهية والتحريض الذي ينتجونه. هم يشجعون موجات الارهاب ضد الأبرياء. إن كل من يقدّس الموت، وقتل الإسرائيليين، عليه أن يشعر بكل ضخامة قوة دولة إسرائيل، التي ستؤلمه وتضربه، كما لو كان هو نفسه الإرهابي (نشأت) ملحم. إن على السلطة الفلسطينية أن تقضي في داخلها على أولئك المجرمين الحقيرين، وأن تزيل فورا اسم القاتل من موقع وزارة الصحة الفلسطينية، على شبكة الانترنت" (9 كانون الثاني 2016).

وفي خطاب له يوم 4 كانون الثاني 2016، كان هيرتسوغ قد ذكر مرتكزات الخطاب ذاته، في رده على خطاب بنيامين نتنياهو الذي ألقاه في البار في تل أبيب الذي وقعت فيه العملية التي نفذها نشأت ملحم. وكان هيرتسوغ قد انتقد تحريض نتنياهو على المواطنين العرب، إلا أنه قال أيضا: "إن إسرائيل بحاجة إلى خطة جديدة لمكافحة هذا الارهاب. فلو كان لإسرائيل رئيس وزراء، لكان قد أصدر الأوامر لأذرع الأمن لتغير اتجاهاتها. لو كان لإسرائيل رئيس وزراء، لكان قد جنّد لهذا الصراع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والدول العربية التي تعاديها أيضا داعش".

وعن الإعدامات الميدانية، قال هيرتسوغ في لقائه مع وزير الخارجية الأميركية جون كيري، يوم 24 تشرين الثاني 2015، "إن لإسرائيل الحق في ضرب الإرهاب بقوة، وضرب القتلة والكارهين (لإسرائيل) والمحرضين. ولكن نحن لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فقط، بل علينا أيضا الانفصال عن الفلسطينيين، وأن نُخرج المناطق (الضفة) من إسرائيل، وأن نقطع عناق الموت هذا بيننا".

وكان هيرتسوغ من أبرز المهاجمين لحركة المقاطعة العالمية للمستوطنات، ولقرار الاتحاد الأوروبي، وأيضا لوزيرة الخارجية السويدية مارغوت وولستروم، ففي يوم 12 كانون الثاني 2016 قال: "إن تصريحات وزيرة الخارجية السويدية تدعم الإرهاب بقوة، وكل تصريح كهذا يُبعد المنطقة كلها خطوة واحدة إضافية عن الانفصال بيننا وبين الفلسطينيين، ويساعد القتلة، الذين يفعلون كل شيء من أجل تدمير الاحتمال للوصول إلى هذا الانفصال. من المثير أن السويد لم ترد بتصريح مشابه، حينما قتل عناصر شرطة باريس الإرهابيين، بموجب ما كان عليهم أن يفعلوا. ومثير كيف سترد السويد حينما ينفذ إرهابيون عمليات مخيفة على أراضيها. فهل ستطلب أيضا ملاطفتهم بسبب أنه كانت لهم طفولة قاسية؟".

وقال هيرتسوغ، ردا على قرار مفوضية الاتحاد الأوروبي وسم منتجات الاستيطان، يوم 11 تشرين الثاني 2015: "إن قرار الاتحاد الأوروبي خطير وسيء لإسرائيل، ويضرب بشكل مباشر جهود العملية السياسية. إنني أومن بكل قواي بأنه يجب الانفصال عن الفلسطينيين، والسعي إلى سلام، أيضا في ذروة موجة طعن السكاكين والارهاب. ولكن هذا القرار سيضر بالإسرائيليين والفلسطينيين معا، وبآلاف العائلات التي يرتبط مصدر رزقها بهذه الصناعة (في المستوطنات). أحيانا يخيل لي أنه لا يوجد ما قد يتغير، فهذه النغمة ذاتها، والقرارات ذاتها. لقد اعتدنا على المقارنات، واعتدنا على تشويه صورتنا، واعتدنا على أن يضعوا علينا علامة".

وفي رده على نشاط حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل والمستوطنات "بي. دي. إس"، يقول هيرتسوغ: "أيضا اليوم في أنحاء العالم يوجد من يريد القضاء علينا، وعلى المشروع الرائع جدا الذي بنيناه، وتدمير الصهيونية. في حينه قبل أربعين عاما لم يطلقوا على ذاك الحراك اسم BDS، ولكن كان بالضبط ما هو قائم اليوم: متلونون، وخطاب مزدوج في دول ومنظمات. وأيضا اليوم، نحن ندفع ثمنا دمويا باهظا، مثلما كان منذ إحياء الوطن، حينما كنا ندفن أبناءنا وبناتنا في الحرب على وجودنا. أيضا اليوم يحاول أعداؤنا التشكيك بعدالة وجودنا، وضرب حقنا الطبيعي والتاريخي في تقرير المصير. ويفعل طالبو السوء لنا هذا في حلبات كثيرة، وبأشكال متنوعة، لكن هدفهم واحد وهو اضعافنا والقضاء على الأرضية الأخلاقية التي نقف عليها" (5 كانون الثاني 2016).

يتمسك جوهريا بخيار القوة

صحيح أن هيرتسوغ يبقى رئيسا لحزب "العمل" المؤسس لإسرائيل، والذي قاد كل الحروب الاستراتيجية، التي رسمت جغرافية البلاد سياسيا. وصحيح أنه ليس متوقعا منه أن ينسلخ عن عقليته الصهيونية بكل تفاصيلها. إلا أن ادعاءه بأنه يسعى إلى حل الصراع، لا يعكسه بشكل واضح في خطابه السياسي، خاصة في الأشهر الأخيرة. فكما سبق هنا وذكر، فإن تكرار صيغة "الانفصال عن الفلسطينيين"، وبتغييب كامل لذكر مبدأ الدولتين، فيه بث رسالة إلى الإسرائيليين مفادها: أن حل الصراع هو خيار اللامفر، وأن حاجة إسرائيل لهذا الخيار هو فقط من أجل أن تنقذ ذاتها كـ "دولة يهودية".

وهذه أسس خطاب تتقاطع بقدر كبير مع خطاب بنيامين نتنياهو، رغم الاختلاف في الصياغات. وقد نقول أيضا، رغم الاختلاف في تصورات الحل التي يطرحها كل واحد من الاثنين. وهذا التقاطع في أسس الخطاب يترافق مع تمسك هيرتسوغ بمبدأ القوة والضرب، ما يعطي الإسرائيلي صورة عدم الاختلاف الجوهري بين الاثنين، كرئيسين للحزبين. وبالتالي فإن الناخب الإسرائيلي، سيختار "النسخة الأصلية" لجوهر هذا الخطاب، وفي هذه الحالة، سيكون نتنياهو وحزبه.

أما جمهور الناخبين الذين يتوقع بديلا حقيقيا لحكم اليمين المتطرف، فقد يُصاب بالإحباط، نظرا لغياب البديل، ويقرر البقاء في البيت، في يوم قرار الناخب- الانتخابات، وهذا ما شهدناه بقوة في كل جولات الانتخابات البرلمانية، على امتداد سنوات الألفين. ولربما أن انتخابات 2015 شهدت تغيرا ما في نسب التصويت في معاقل ما يسمى بـ "الوسط- يسار"، في أعقاب تشكيل تحالف "المعسكر الصهيوني"، إلا أن ثبات هذا التغير، بمعنى ارتفاع نسبة المشاركة في التصويت، خاضع بدرجة كبيرة لامتحان التطبيق، الذي لا ينجح فيه حتى الآن "المعسكر الصهيوني". وهذا استنتاج وجد ما يدعمه: نتائج استطلاع للرأي العام، في مطلع الشهر الجاري، إذ أشار إلى تراجع حاد في قوة "المعسكر الصهيوني"، من 24 مقعدا إلى 18 مقعدا في الاستطلاع، وهو مؤشر بطبيعة الحال.

وكي تبقى الأمور في نصابها، فإن الأوضاع الناشئة في الشارع الإسرائيلي، وتوزيع موازين القوى، وحالة التشرذم السياسي في معاقل العلمانيين، وقوى "الوسط- يسار"، لا تساعد على عودة حزب "العمل" إلى الحكم، لأنه بحاجة إلى شركاء، حتى لو حقق نتيجة الكتلة البرلمانية الأكبر. ولذا فإن تغيير الواقع الإسرائيلي يجب أن تشارك فيه سلسلة من العوامل، الداخلية والخارجية. ولكن من نقطة الحلبة الحزبية، فإن تعاظم قوة حزب "العمل"، ولو على مراحل، سيكون فيه ما يحاصر قوة اليمين المتطرف ويجعله خيارا بديلا، لكن هذا يحتاج إلى تغيير اتجاهات في الحزب.

ومنعا لأي تفسير آخر لما سبق، مثل الاعتقاد بأن حزب "العمل" هو خشبة الخلاص، أقول إن هذه قراءة ترتكز على العوامل الإسرائيلية الداخلية، وكيف يراها الإسرائيلي الذي لا يقبل باليمين المتطرف.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات