منذ احتلال الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس الشرقية، في العام 1967، وحتى اليوم، لم يطرأ سوى تغيير طفيف جدا على العلاقات التبادلية بين اليهود والفلسطينيين في مجال التشغيل، إذ لا تزال تسود بنية هرمية واضحة بين اليهود والعرب في مختلف مجالات العمل، سواء من حيث مواقع العمل ودرجاته أو من حيث مستوى المداخيل، ولا يزال الفلسطينيون المقدسيون يقبعون في أدنى الهرم التشغيلي المحلي في مدينة القدس ولا تزال علاقات القوة على حالها، غير المتساوي إطلاقا. ومع ذلك، يُلاحظ خلال العقد الأخير منحى معتدل من ارتقاء عدد قليل من العمال الفلسطينيين في سلم التشغيل في فروع اقتصادية محددة واحتلالهم مواقع إدارية متوسطة وثانوية.
غير أن نسبة العمال الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية في عدد من الفروع الاقتصادية تجعل قوة عملهم مركّبا حاسما، من حيث الحجم والأهمية، في هيكلية اقتصاد مدينة القدس، عامة. فخلال العامين 2012 ـ 2013، على سبيل المثال، شكّل العمال الفلسطينيون نسبة 66% من مجمل العاملين في قطاع البناء، 52% من مجمل العاملين في قطاع المواصلات، 32% من مجمل العاملين في قطاع الصناعات و 20% من مجمل العاملين في قطاع الصحة والرفاه الاجتماعي. وفي المقابل، كان تمثيلهم متدنيا بشكل لافت في قطاعات اقتصادية متطورة، مثل القطاع العام (12% فقط) أو الخدمات المالية (5% فقط).
هذه هي بعض النتائج الأبرز التي توصل إليها بحث أجراه مارك شطيرن حول تشغيل الفلسطينيين سكان القدس الشرقية وصدر مؤخرا عن "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية"، ضمن وثيقة خاصة بعنوان "الدمج التشغيلي في واقع معرض للانفجار ـ سكان القدس الشرقية في سوق العمل البلدية المحلية".
ويركز البحث، بصورة خاصة، على دور العاملين الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية في سوق العمل البلدية وأنماط دمجهم في القطاعات الاقتصادية اليهودية المختلفة في المدينة.
ومارك شطيرن هو باحث في "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" يعدّ أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في قسم السياسة والإدارة في جامعة بن غوريون في النقب (بئر السبع) وتتركز أبحاثه، أساسا، في دراسة العلاقات بين اليهود والعرب في القدس.
وتؤكد نتائج البحث أن ثمة علاقة تبعية (اعتماد) متبادلة بين قوة العمل الفلسطينية في القدس الشرقية وبين فروع اقتصادية وصناعية مركزية في الجزء الغربي من المدينة ("القدس اليهودية") وأن للفلسطينيين سكان القدس الشرقية دورا مركزيا وحاسما في بنية اقتصاد المدينة عامة، سواء كانوا عمالا مهنيين أو غير مهنيين في قطاعات اقتصادية عديدة ومتنوعة. ومع ذلك، ثمة في أماكن العمل المختلفة في المدينة بنية هرميّة إثنية ـ قومية واضحة بين العمال اليهود، من جهة، والفلسطينيين المقدسيين من جهة أخرى، تخلق واقعا من الإحباط، تكرس وترسخ الآراء المسبقة وتحول دون إنشاء وتطوير علاقات اجتماعية جدية بين الجانبين.
وتشير نتائج البحث إلى ضرورة بلورة سياسة تشغيلية تساعد سكان القدس الشرقية على الاندماج والتقدم في أماكن العمل المختلفة القائمة في الوسط اليهودي، من خلال التأكيد على أن "إزالة "السقف الزجاجي" الذي يمنع تقدم العمال من القدس الشرقية وتعزيز الأطر المعدة للتوجيه التشغيلي المركز من شأنهما زيادة وتحسين الإمكانيات التشغيلية المتاحة أمامهم، تخفيف حدة التوترات القائمة اليوم بين العمال من الجانبين وخفض مستوى الإحباط المنتشر في القدس الشرقية".
وتشمل محتويات وثيقة البحث ثلاثة فصول هي، على التوالي: 1. الفصل الأول: الدمج الاقتصادي والتشغيلي لسكان القدس الشرقية خلال السنوات ما بين 1967 و 2015 موزعة على خمس فترات: الأولى ـ توحيد القدس (1967 ـ 1987)، الثانية ـ الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993)، الثالثة ـ مرحلة أوسلو (1993 ـ 2000)، الرابعة ـ الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2005) والخامسة ـ ما بعد الانتفاضة الثانية (2005 ـ 2015). 2. الفصل الثاني: تشغيل سكان القدس الشرقية ـ صورة الوضع القائم، المميزات والتوجهات، ويشمل الأبواب التالية: قوة العمل في القدس الشرقية، الفجوات بين الأجور، عدد العمال الأجيرين، الفروع الاقتصادية والمهنية وفوارق جندرية. الفصل الثالث: بين الشرق والغرب ـ مجالات تشغيل سكان القدس الشرقية، العمال العرب في جزئيّ المدينة ومجالات التشغيل المختلطة.
وإلى جانب الفصول الثلاثة المذكورة، تشمل وثيقة البحث أيضا: ملخص البحث، مقدمة، ثبتا بالمعطيات، قائمة بالمصطلحات وثبتا بالمصادر، إضافة إلى قائمة الرسوم البيانية والخرائط.
توترات وصعوبات كبيرة في أماكن العمل المختلطة في القدس
يشير البحث إلى حقيقة تعمق اعتماد الفلسطينيين المقدسيين على سوق العمل الإسرائيلية منذ الانتفاضة الثانية عامة، وبعد الانتهاء من بناء الجدار العازل في القدس بصورة خاصة. لكن هذا الاعتماد التشغيلي والاقتصادي ليس أحادي الاتجاه، إذ أن تركيز الفلسطينيين المقدسيين في فروع اقتصادية محددة، مثل السياحة، البناء، الصناعات والطب، يخلق اعتمادا إسرائيليا موازيا أيضا على قوة العمل الفلسطينية المقدسية الموظفة في هذه الفروع.
وتستند معطيات البحث الحالي، بصورة أساسية، على المعطيات الرسمية المتوفرة لدى سلطات حكومية مختلفة، مثل مكتب الإحصاء المركزي، مؤسسة التأمين القومي وغيرهما، فضلا عن مقابلات مع مشغـِّلين يهود، خبراء وواضعي سياسات في مجال التشغيل في مدينة القدس.
ويوضح معد البحث أن "هذه الوثيقة تستعرض وتحلل كنه العلاقات الاقتصادية التشغيلية بين اليهود والعرب سكان القدس وتقدم جملة من المعطيات والتحليلات التي تشكل قاعدة ارتكاز لبحث مستقبلي شامل حول قطاعات العمل المشتركة لليهود والعرب في القدس، سوف ينشر خلال العام القادم 2016".
وحيال موجة الاحتجاجات الفلسطينية الحالية (التي يسميها "موجة الإرهاب"!)، التي يجري جزء أساس منها في القدس بمشاركة سكان القدس الشرقية، والتي "تخلق توترات وصعوبات كبيرة في أماكن العمل المختلطة في المدينة"، يرى الباحث أن هذا الواقع "يؤكد الحاجة إلى جمع وتركيز المعلومات حول أنماط تشغيل الفلسطينيين سكان القدس الشرقية وكيفية دمجهم في حيز المدينة العام"، وهو ما استدعى إجراء هذا البحث الذي يهدف إلى "توفير قاعدة بيانات ومعطيات حقيقية حول سوق العمل المتاحة أمام سكان القدس الشرقية عموما، من خلال التركيز على كيفية توزيعهم ودمجهم في اقتصاد المدينة".
يذكّر البحث بأن 27 سائقا فلسطينيا من القدس الشرقية قدموا، في تشرين الثاني من العام 2014، استقالة جماعية من العمل في شركة "إيغد" للباصات، احتجاجا على موجة من الاعتداءات وأعمال العنف المتواترة التي تعرضوا لها من جانب مسافرين يهود في الجزء الغربي من المدينة. وفي الفترة ذاتها، اتخذ سائقو سيارات أجرة (تاكسي) من القدس الشرقية إجراءات احتجاجية على خلفية المساس الحاد بمصدر رزقهم من جراء رفض عدد كبير جدا من المواطنين اليهود السفر في سيارات يقودها سائقون عرب. ونظرا لأن السائقين الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية يشكلون نحو نصف العدد الكلي لسائقي سيارات الأجرة في المدينة، فقد كان لاحتجاجهم أثر واضح تجسد في انخفاض حاد في مدى توافر المواصلات الشعبية في المدينة، فضلا عن تشويش عمل هذه المواصلات المنتظم طوال بضعة أيام.
ويرى البحث أن مثل هذه الظواهر تعكس التناقض الدائم ما بين واقع اختلاط سكان القدس الشرقية في الجزء الغربي من المدينة، سواء في الحيز العام أو في مجالات العمل، وبين العلاقات المتوترة والمعقدة بين أبناء الشعبين في أعقاب اندلاع أحداث العنف في صيف العام 2014 بشكل خاص. ففي تموز ـ آب 2014، عمت موجة من العنف أحياء مختلفة من المدينة، على خلفية إثنية ـ قومية عنوانها التوتر المتصاعد جراء توافد مجموعات من اليهود إلى الحرم القدسي الشريف وقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير من شعفاط، مما أدى إلى موجة من المظاهرات وأحداث العنف، غير المسبوقة منذ أحداث تشرين الأول 2000.
ويؤكد الباحث أن موجة الاحتجاج التي أطلقها الشبان الفلسطينيون لم تنبع من أسباب قومية، إثنية أو دينية فحسب، بل جاءت أيضا على خلفية الاحباط المستمر والمتزايد حيال الإهمال والحرمان الشديدين اللذين تتعرض لهما الأحياء المختلفة في القدس الشرقية، منذ احتلالها في العام 1967 وحتى اليوم. وفي إطار حملة الاحتجاج هذه، التي أطلق عليها البعض اسم "الانتفاضة المقدسية"، قام الشبان الفلسطينيون من أحياء القدس الشرقية بخرق النظام العام، تنظيم "أعمال شغب" عند تجمعات سكانية يهودية في قلب الأحياء العربية والأحياء اليهودية الواقعة في القدس الشرقية، وتخللت ذلك مواجهات واسعة مع قوات الأمن الإسرائيلية المختلفة. ففي شهر تموز 2014 وحده سُجلت نحو 360 حادثة عنف قتل خلالها شابان فلسطينيان واعتُقل نحو 700 آخرون، معظمهم من القاصرين.
ولم تبق أحداث العنف هذه محصورة في القدس الشرقية وأحيائها المختلفة، بل انتقلت إلى الأحياء اليهودية في الجزء الغربي من المدينة أيضا، فوقعت ثلاث عمليات دهس نفذها شبان فلسطينيون وعملية قتل أخرى في كنيس يهودي في حي "هار نوف"، أسفرت هذه جميعها عن قتل 10 مواطنين يهود وإصابة عشرات آخرين. ومن الجهة المقابلة، وقعت في القدس الغربية، بوتيرة شبه يومية تقريبا، أعمال عنف كلامي وجسدي مختلفة ضد عمال وعابري سبيل عرب نفذها شبان يهود في مركز المدينة، في الأحياء الشمالية منها وفي محطات القطار الخفيف. وطبقا لمعلومات جمعتها جمعية "عير عاميم"، فقد وقعت خلال النصف الثاني من العام 2014 أكثر من 94 حادثة اعتداء من قبل يهود على فلسطينيين من سكان القدس الشرقية. وخلال تلك الأشهر، عادت القدس إلى الحالة التي وُصفت بـ"جغرافيا الخوف"، إذ أدت الأحداث والمخاوف من كلا الطرفين، سوية مع الإحجام المتعمد والواعي، إلى انزواء كل من الجانبين في مناطق منفصلة تماما وضمن حدود واضحة.
إهمال وإغلاق وجدار ـ ضرب الخيارات التشغيلية
لكن واقع المدينة البنيوي والاقتصادي ـ كما يؤكد البحث ـ لا يسمح بالانفصال والانعزالية ولا يستطيع التعايش معهما فترة طويلة. فلقد أدى تثبيت الحكم الإسرائيلي وتعزيزه في القدس الشرقية منذ العام 1967، في ظل ظروف من عدم المساواة المتفاقم، سواء في ما يتعلق بالشروط الحياتية أو بمنالية الموارد المختلفة، إلى خلق حالة من التبعية (الاعتماد)، الاقتصادية والتشغيلية، المتبادلة بين جزئي المدينة، تخللها تعمق الاختلاط واتساعه بين أبناء الشعبين في مراكز التشغيل وأماكن العمل المختلفة في الجزء الغربي من المدينة.
وقد تعززت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير بوجه خاص، على خلفية الهدوء الأمني "النسبي" الذي ساد مختلف أحياء المدينة منذ خبو الانتفاضة الثانية. فباستثناء أحداث متفرقة، شهدنا عقداً من الزمن دون عمليات كبيرة ودون مواجهات وصدامات على خلفية قومية أو دينية. وقد حظي سكان القدس الغربية خلال تلك الفترة بحالة من الهدوء الأمني رافقه اتساع ملحوظ في أعمال التطوير، في مجالات مختلفة. وفي المقابل، تعمقت في الفترة ذاتها سيرورات التآكل والإهمال والحرمان في أحياء القدس الشرقية، في مجالات الحياة كافة، من البنى التحتية إلى الاقتصاد إلى الحياة الجماهيرية العامة. وفي موازاة ذلك، عمدت السلطات الإسرائيلية إلى إغلاق المؤسسات الفلسطينية المختلفة التي بقيت في القدس الشرقية ("بيت الشرق" و "الغرفة التجارية الفلسطينية" وغيرهما)، مما أدى إلى انتقال مراكز القوة الاقتصادية الفلسطينية إلى مدينة رام الله، على حساب القدس الشرقية.
وإضافة إلى هذا، أدى بناء الجدار الفاصل في العام 2005، الذي جاء لتعزيز أمن السكان اليهود في القدس الغربية، إلى إحداث هزات أخرى عنيفة في نسيج حياة الفلسطينيين سكان القدس الشرقية، رافقها مسّ حاد جدا بحريتهم في الحركة، بحقهم في الملكية وبالبدائل الاقتصادية والتشغيلية المتاحة أمامهم.
وكان لبناء الجدار الفاصل، أيضا، أثر هام آخر تمثل في دفع مئات، بل أكثر ربما، من الفلسطينيين الذين بقوا خارجه (خارج الجدار) أو الذين كانوا قد غادروا القدس مؤقتا ـ دفعهم إلى العودة السريعة إلى داخل المدينة خوفا من فقدان حق الإقامة فيها.
ومن الجهة الأخرى، وفي أعقاب الانفصال الفعلي المتعمق عن الضفة الغربية وتقلص البدائل التشغيلية والاقتصادية في القدس الشرقية، تواصل وتعمق أيضا اعتماد السكان فيها على مصادر العمل في الوسط اليهودي.
ويشير البحث إلى تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة في العام 2013 وتضمن تحليلا لاقتصاد القدس الشرقية بالاستناد إلى معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
وقد عرض التقرير أبعاد الفقر والمشكلات الاقتصادية في القدس الشرقية في سياق السيطرة الإسرائيلية، مع التشديد على مكانة القدس الشرقية الاقتصادية في حيز الضفة الغربية. وتتيح هذه المعطيات، كما يؤكد البحث، فهما أفضل وأعمق لمدى ارتباط واعتماد كلا جزئي المدينة، اقتصاديا وتشغيليا، على بعضهما البعض وماهية تأثير هذه العلاقات التبادلية في صياغة شكل ومضمون العلاقات بين أبناء الشعبين في المدينة، فضلا عن طابعها الإثني ـ القومي خلال السنوات القادمة.
اعتماد متبادل اقتصاديا وتشغيليا
يقول البحث، في باب التلخيص، إن القدس "عاصمة إسرائيل" لم تتميز باقتصاد قوي ومستقر في يوم من الأيام، على الإطلاق. فمنذ قيام دولة إسرائيل وحتى اليوم، تحتاج المدينة باستمرار إلى معونات واستثمارات حكومية مختلفة وكبيرة من أجل تمتين اقتصادها ومواجهة مواطن ضعفه البنيوية. وعبر السنوات، تكرس اعتماد سوق العمل المحلية على القطاع العام وعلى التربية والتعليم، بوجه أساس. وفي المقابل، كانت خيارات وفرص العمل في قطاعات البنوك والأموال، التكنولوجيا المتقدمة والمهن الحرة مقلصة ومحصورة. وكما تبين معطيات مكتب الإحصاء المركزي ومؤسسة التأمين القومي، فقد تعمق اعتماد فلسطينيي القدس الشرقية على اقتصاد القدس الغربية، ابتداء من العام 1967 وحتى اليوم، وفي العقد الأخير بشكل خاص.
وفرص وخيارات العمل القليلة المتاحة للسكان اليهود في القدس تصبح أقل بكثير عند الحديث عن الفلسطينيين المقدسيين الذين لا ينخرطون في القطاع العام، الحكومي، وفي الصناعات الدقيقة والمتطورة وفي قطاع الأموال في القدس الغربية.
وتثبت المعطيات الواردة في هذا البحث أنه منذ احتلال إسرائيل القدس الشرقية في العام 1967 ترسخت وتعمقت، باستمرار، علاقات الاعتماد المتبادل، اقتصاديا وتشغيليا، بين سكان القدس الشرقية والاقتصاد في القدس الغربية.
فمن الجهة الأولى، يتضح أن نحو نصف قوة العمل الفلسطينية المقدسية موظفة في أعمال لدى الوسط اليهودي، في القدس الغربية، بينما يتضح، من الجهة الأخرى، أن عددا من الفروع الاقتصادية في المدينة تعتمد، بصورة كبيرة، على قوة العمل في القدس الشرقية.
وضمن هذه الصورة من علاقة الاعتماد القطبية، تقوم أيضا بنية هرمية واضحة بين اليهود والعرب في سوق العمل. فاليهود يحتلون، في الغالب، المراتب المتوسطة والعليا في هيكلية العمل ويعتاشون على فروع اقتصادية متطورة ويحصلون على مرتبات مرتفعة، بينما يقبع العرب في المراتب الدنيا أو في بعض المراتب المتوسطة ويعملون في فروع اقتصادية أساسية ويحصلون على أجور متدنية.
وعند التمعن في هذه المعطيات بمنظور الصراع القومي ـ الديني العنيف الذي يحدد مميزات الحياة في المدينة وشكل العلاقات بين أبناء الشعبين، تظهر صورة الدمج التشغيلي غير المتوازن في واقع سياسي معرض للانفجار دائما.
ومع ذلك، يمكن بحسب البحث ملاحظة وجهات جديدة ظهرت خلال العقد الأخير، وإذا ما استمرت في السنوات القادمة فسيكون فيها ما يؤشر إلى تغيير جدي. فخلال السنوات الخمس الأخيرة، مثلا، حصل ارتفاع طفيف في عدد سكان القدس الشرقية الحاصلين على شهادات أكاديمية، ورغم أن الجزء الأكبر منهم يعمل في القدس الشرقية أو في الضفة الغربية، إلا أن بعضهم القليل قد تم استيعابه في أماكن عمل في القدس الغربية أيضا. كما تتزايد الدلائل، أيضا، على انتقال ـ بطيء جدا لكنه دائم ومتواصل ـ لسكان من القدس الشرقية من أعمال ذات مستوى متدن (يشغلها الفلسطينيون من الضفة الغربية أو من المهاجرين طالبي العمل عادة) إلى العمل في فروع الخدمات، التجارة، الصحة وغيرها. ويلاحَظ، أيضا، ارتفاع في مراتب العمل في فروع الصناعة والبناء، علاوة على أن أصحاب المهن الحرة من القدس الشرقية، مثل المحامين ومراقبي الحسابات بشكل خاص، قد يشغلون الوظائف التي كان يشغلها في السابق، عادة، عرب من مواطني إسرائيل يقيمون في القدس ـ كخيط يربط بين السكان المحليين ومؤسسات السلطة الإسرائيلية. ويشير البحث إلى انه "إذا ما اتسعت وتعمقت هذه السيرورات، فستنشأ منظومات تؤدي إلى تقليص دائرة الفقر في القدس الشرقية".