المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1527

نهج يخفق في ردع رجال الشرطة عن ممارسة العنف والاعتداء على المواطنين!

في المقابل، تواصل الشرطة (رغم سحب الصلاحية منها قانونيا!) و"النيابة العامة" نهج الـ "ضربة وقائية استباقية"- تقديم لوائح اتهام جنائية ضد المواطنين بتهمتي "الاعتداء على رجال الشرطة" و"عرقلة عمل الشرطة" ـ فتتصدى له بعض المحاكم بالنقد والشطب!

المظاهرات الصاخبة التي ينظمها اليهود المهاجرون من أثيوبيا في إسرائيل منذ أيام، على خلفية الاعتداء الجسدي العنيف الذي تعرض له جندي يهودي من أصل أثيوبي من جانب أحد رجال الشرطة، عند مدخل منزله في مدينة حولون في أواخر شهر نيسان الأخير، واحتجاجا على ما يصفه هؤلاء بـ"العنف المتواصل وغير المبرر" من جانب أفراد الشرطة الإسرائيلية على العديد من بينهم، ترفع إلى واجهة النقاش العام مسألة الممارسات البوليسية تجاه المواطنين عامة واستمرار هذه الاعتداءات الجسدية العنيفة، دون أي رادع.


وفي الحديث عن "الردع" في هذا السياق تتركز الأضواء، في طبيعة الحال، على النهج الذي تعتمده "وحدة التحقيقات مع رجال الشرطة" (والمعروفة، اختصارا، باسم "ماحَش") في معالجة ظاهرة، بل آفة، العنف البوليسي ضد المواطنين، والذي بلغ ويبلغ في كثير من الحالات درجات مذهلة من الوحشية، جعلت عضو الكنيست إيلان غيلئون (من حزب "ميرتس") يعلن أن "شرطة إسرائيل تكتسب، رويدا رويدا، مميزات شرطة في أميركا اللاتينية"!
وسوية مع النقد الحاد الذي يُوجّـَه إلى الشرطة، أفرادها وقادتها، على خلفية اعتداءاتها العنيفة المتكررة بوتيرة مرتفعة جدا، نسبيا، على المواطنين، تتعرض "ماحَش" إلى نقد مماثل، بل أشدّ وطأة وخطورة، لتقاعسها و/ أو عجزها عن محاربة هذه الظاهرة ووضع حد لها، أو ردعها وتقليصها على الأقل.


وإذا كان العرب الفلسطينيون مواطنو إسرائيل هم الضحية الأولى والأكبر لممارسات الشرطة العنيفة واعتداءاتها الجسدية الخطيرة، حد القتل بدم بارد في حالات عديدة، فقد أصبحت هذه (الممارسات والاعتداءات) من نصيب فئات أخرى بأكملها، وليس مجرد أفراد، من المواطنين اليهود الإسرائيليين أيضا هم، بوجه أساس، من يهود "الدرجات الأدنى" ـ عرقيا واجتماعيا!


وما كان بالإمكان اعتباره "حصرياً" للمواطنين الفلسطينيين سابقا في مجال إعفاء رجال الشرطة من أية مسؤولية عن اعتداءاتهم، بل جرائمهم، وإغلاق ملفات التحقيق بحقهم على خلفيتها، بل عدم فتحها أصلا في حالات كثيرة، فقد أصبح يشكل الآن "منهجاً" في معالجة العديد جدا من الاعتداءات التي يتعرض لها مواطنون يهود أصلا. وكان نهج "ماحش" هذا في معالجة عنف الشرطة ضد المواطنين العرب قد بلغ ذروته المرعبة بالقرار الذي أصدرته هذه الوحدة، يوم 18 أيلول من العام 2005، بإغلاق جميع ملفات التحقيق وعدم تقديم أية لائحة اتهام بحق أي من أفراد الشرطة الذين تورطوا بجريمة قتل 13 شابا فلسطينيا من مواطني إسرائيل في "هبة أكتوبر 2000"، فضلا عن اعتداءات جسدية وجرائم قتل عديدة ارتكبها رجال الشرطة، قبل "أكتوبر 2000" وبعده أيضا.


وإذا كانت الذريعة التي استخدمتها "ماحش" في تبرير قرارها ذاك قد شملت ادعاءين مركزيين (هما: "عدم توفر أدلة كافية" و "عدم القدرة على تحديد هوية رجال الشرطة المعنيين"!)، فقد أضافت إليهما مؤخرا ـ في حالات كثيرة ومتزايدة من اعتداءات البوليسية على مواطنين ـ ادعاء ثالثا آخر هو "انعدام المصلحة العامة" (في التحقيق مع رجال الشرطة والمتورطين منهم في الاعتداءات)، ناهيك عن الحالات الكثيرة جدا التي يجري فيها إغلاق مثل هذه الملفات دون أدنى فحص أو تحقيق.

"ماحَش" .... الخلفية والغاية

"وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة" (ماحَش) هي وحدة في النيابة العامة (تابعة لوزارة العدل) وهي، كما يدل اسمها، وحدة خاصة مهمتها التحقيق مع رجال الشرطة الإسرائيلية في شبهات تتعلق بارتكاب مخالفات جنائية، بما فيها استخدام العنف غير الضروري وغير المبرر تجاه مواطنين.
وقبل إنشاء هذه الوحدة، في العام 1992، كانت "وحدة التحقيقات الداخلية" في شرطة إسرائيل هي المخولة بمهمة وصلاحية إجراء هذه التحقيقات. ومع تراكم العديد من الانتقادات الواسعة والحادة بأن "الشرطة تحقق مع نفسها"، أجرى "مراقب الدولة" آنذاك، يعقوب مالتس، بحثا شاملا حول الموضوع أعدّ، في ختامه، تقريرا خاصا ضمّنه انتقادات عديدة حول الأمر فقرر وزيرا العدل والشرطة في حينه، دان مريدور وروني ميلو، تشكيل "لجنة توجيهية" أنيطت بها مهمة فحص مسألة "التحقيقات الداخلية في الشرطة". وأوصت هذه اللجنة بإقامة وحدة جديدة في وزارة العدل تكلّف بمهمة إجراء هذه التحقيقات وتتولى صلاحيات "وحدة التحقيقات الداخلية" على أن يكون أعضاؤها (محققوها) من رجال الشرطة الذين تتم "إعارتهم" للوحدة وأن تتولى النيابة العامة إدارتها.


وفي آذار من العام 2005، تقرر استبدال محققي الوحدة من رجال الشرطة بمحققين "مدنيين" لا علاقة لهم بالشرطة وأذرعها المختلفة، وهو ما بدأ في العام 2008 ولا يزال مستمرا، إذ تم حتى الآن ـ كما تقول وزارة العدل ـ استبدال ما يعادل 76% من طواقم المحققين في الوحدة، جميعهم من "الأكاديميين حاملي اللقب الأكاديمي الأول، على الأقل، والذين تم تأهيلهم في مساقات خاصة".


وتحقق "ماحش"، إجمالا، في الشبهات المتعلقة بارتكاب أفراد الشرطة (بمن فيهم أفراد "حرس الحدود"، أيضا) مخالفات جنائية تزيد عقوبتها ـ طبقا لقانون العقوبات ـ عن السجن الفعلي لمدة سنة واحدة. وتتركز هذه التحقيقات، أساسا، في مخالفات تتعلق بـ"سلامة المعايير" واستخدام رجال الشرطة القوة والعنف غير المبرر وبصورة غير قانونية تجاه المواطنين.


ويتولى رئاسة هذه الوحدة محام من أعضاء النيابة العامة للدولة لديه صلاحيات توازي صلاحيات "نائب لواء"، بما فيها تقديم لوائح اتهام جنائية ضد رجال شرطة أو تقديمهم إلى محاكمات تأديبية، في كل ما يتعلق باستخدام القوة بصورة غير قانونية.

خلافاً للأوامر والتعليمات!

هذا النهج المشار إليه أعلاه، بشأن جنوح "ماحش" إلى إغلاق العديد من ملفات الشكاوى ضد رجال الشرطة على خلفية ممارستهم العنف غير القانوني بحق المواطنين، بل عدم إجراء أي فحص أو تحقيق، أصلا، في العديد غيرها، مقابل ملاحقة كثيرين من المواطنين بمحاكمات جنائية بحجة "الاعتداء على أفراد الشرطة" أو "عرقلة عملهم" ـ هذا النهج يلقى، في الآونة الأخيرة بشكل خاص، موجة من النقد الحاد، ليس من جانب ضحايا هذه الممارسات والاعتداءات، ولا من جانب سياسيين، بل من جانب قضاة في محاكم مختلفة يشيرون إلى عدم معقولية هذا النهج ويؤكدون عدم قانونيته، ثم خطورته. ولهذا، فهو نقد على غاية من الأهمية يـُفترض أن يدفع "ماحش" والقيمين عليها، في النيابة العامة وفي وزارة العدل، إلى مراجعة نهجهم هذا والمسارعة إلى تغييره.


ويتمثل هذا النقد، في أحد أوجهه، بقيام محاكم إسرائيلية مختلفة، خلال السنوات الأخيرة، بشطب وإلغاء العديد من لوائح الاتهام الجنائية التي تم تقديمها بحق مواطنين بحجة "الاعتداء على أفراد الشرطة" أو "إعاقة عملهم"، سوية مع إشارة القضاة في تلك المحاكم، في قراراتهم تلك، إلى "التمييز المرفوض بين المواطن ورجل الشرطة"! وآخر هذه القرارات، أصدرته قاضية محكمة الصلح في مدينة الخضيرة، طال تدمور ـ زمير، الشهر الماضي، وألغت فيه لائحة اتهام قـُدّمت ضد مواطن من بلدة "أور عقيبا" بتهمة "عرقلة عمل شرطي"، بينما تبين أن الشكوى التي قدمها المواطن ضد رجل الشرطة الذي اعتدى عليه جسديا، قبل ثلاث سنوات، تم شطبها ولم يجر أي فحص لها أو تحقيق فيها. فقد تبين للقاضية أن "ماحش" كانت قد أغلقت ملف شكوى المواطن إياه في اليوم ذاته الذي قدمها فيها، دون أي فحص أو تحقيق مع أي من المعنيين!


وكتبت القاضية تدمور ـ زمير في قرارها: "التحقيق في حادثة طـُرحت بشأنها ادعاءات متبادلة باستخدام العنف من غير فحص ادعاءات أحد الطرفين هو تحقيق أحادي الاتجاه، منقوص وأشكّ في ما إذا كان بالإمكان وصفه بالتحقيق، أصلا. هذا ليس نقصا إجرائيا أو عيبا تقنيا، بل يحمل في طياته احتمال المسّ الحقيقي والجدي في إمكانية دفاع المتهم (المواطن) عن نفسه"! ورداَ على زعم "ماحش" بأنه "لم يكن من الممكن إجراء تحقيق مع الشرطي نظرا للمدة الزمنية الطويلة التي مرّت منذ وقوع الحادثة"، تساءلت القاضية: "كيف يحول انقضاء هذه المدة، نفسها، دون فحص شكوى المواطن ضد الشرطي، بينما لا تؤثر قطّ في التحقيق مع المواطن وتقديم لائحة اتهام جنائية ضده؟"! وأضافت: "من الصعب التخلص من الشعور القاسي الذي يعيشه مواطن يتعرض للمحاكمة من جانب سلطة حكومية تبنت رواية الشرطي من دون فحص ادعاءاته (المواطن) ضده، إطلاقا، بحيث يكون تقديم لائحة الاتهام في هذه الحالة منافيا، بصورة جوهرية، لمبادئ الإنصاف والأمانة القضائيين".


والمعروف أن "ماحش" ملزمة بأن تعتمد، في حالات الشكاوى المتبادلة بين مواطنين ورجال شرطة على خلفية استخدام العنف، إجراء يدعى "إجراء إقرار المقاضاة"، وهو أمر صادر عن النائب العام للدولة يُلزم الشرطة و"ماحش" بتأجيل أي نظر أو تحقيق في شكوى / ملف ضد المواطن إلى حين الانتهاء من استيضاح الشكوى ضد رجل الشرطة، أولا. وهو إجراء يأخذ في الحسبان ما تمتلكه الشرطة من قوة وصلاحيات واسعة جدا بالمقارنة مع المواطن العادي والخشية، بالتالي، من إساءة استخدام هذه القوة والصلاحيات.


غير أن "ماحش" تعتمد، في الممارسة، نهجا مخالفا لهذا الأمر وللإجراء الذي يحدده (ويشترطه)، إذ تفضل، كما يؤكد خبراء قانونيون معنيون، معالجة الشكاوى المتعلقة بسلوكيات جنائية في داخل سلك الشرطة ـ وهي السلوكيات التي تثير، في العادة، اهتماما إعلامياً! ـ بينما تـُقلل، في الغالب، من معالجة عنف رجال الشرطة في خضم أنشطتها العملياتية. وحيال تزايد الحالات التي تقوم فيها المحاكم بإلغاء وشطب لوائح اتهام ضد مواطنين، على خلفية وبسبب الإخفاقات، النواقص والقصورات في تحقيقات "ماحش"، يبدو أن "تنظيف" رجال الشرطة من الشبهات يتجسد في إجراء تقني يتمثل في إغلاق ملفات التحقيق المتعلقة بما يمارسه هؤلاء من عنف واعتداءات جسدية بحق المواطنين، وهو ما يشكل رسالة واضحة وصريحة لرجال الشرطة العنيفين والمعتدين مفادها أن الأجهزة الرسمية ("ماحش"، تحديدا) لن تتردد في تبني رواياتهم، حتى لو كانت كاذبة!

لوائح اتهام "استباقية" ضد المواطنين!

على الرغم من التعديل القانوني الذي أقرّ في العام 2010 وقضى بسحب صلاحية إعداد وتقديم لوائح اتهام بحق مواطنين بتهمة "الاعتداء على رجال الشرطة" من أيدي "دائرة الادعاء" التابعة للشرطة ونقلها إلى النيابة العامة، في محاولة لمنع "تعارض المصالح"، إلا أن تقريرا نشرته صحيفة "هآرتس" في أوائل آذار الأخير كشف عن أن الشرطة تواصل تقديم مئات لوائح الاتهام هذه سنويا! وتبيّن، من المعطيات التي حصلت عليها "هآرتس" أن الشرطة قدمت، في العام الأخير 2014 وحده، 1402 لوائح اتهام كهذه، مقابل 126 لائحة اتهام قدمتها النيابة العامة، بالتهمة ذاتها. وبيّنت المعطيات أن ارتفاعا متواصلا قد حصل في عدد لوائح الاتهام هذه: من 890 لائحة اتهام في العام 2011، إلى 896 في العام 2012، ثم 973 لائحة اتهام في العام 2013، بينما هبط العدد في العام 2014 إلى 126 لائحة اتهام فقط.


ويبدو أن الشرطة تعتمد تقديم لوائح الاتهام هذه بوصفها "ضربة استباقية"، إذ يعزو بعض المحامين ورجال القانون هذا الارتفاع إلى محاولة رجال الشرطة المتورطين في استخدام العنف ضد المواطنين والاعتداء عليهم إلى "تبرئة" أنفسهم من هذه التهمة الجنائية، مسبقا، من خلال الادعاء بأنهم "اضطروا إلى استخدام العنف رداً على تعرضهم هم للاعتداء وللعنف من قبل المواطنين، أولاً"!


وأشارت المعطيات، في المقابل، إلى زيادة مستمرة في عدد الشكاوى المقدمة من جانب مواطنين ضد رجال الشرطة على خلفية استخدام العنف غير المبرر وغير القانوني، فيما تواصل "ماحش" نهجها في المسارعة إلى إغلاق ملفات هذه الشكاوى، سواء بذرائع "انعدام المصلحة العامة"، "عدم توفر أدلة كافية" و"عدم القدرة على تحديد هوية رجال الشرطة المعنيين"، أو من دون فحص هذه الشكاوى أو التحقيق فيها، إطلاقا.

وتدلّ معطيات التقارير السنوية التي تصدرها "ماحش" لتلخيص عملها أن ارتفاعا كبيرا، نسبيا، قد حصل في عدد الشكاوى "المتبادلة" التي قدمت إليها من مواطنين ومن رجال شرطة خلال العام الأخير 2014، إذ بلغ مجموعها 4500 شكوى، مقابل نحو 3750 شكوى، في المعدل، خلال كل واحدة من السنوات الثلاث السابقة: 2011 حتى 2013.

وتبين أن أكثر من 65% من الشكاوى التي قدمها مواطنون ضد رجال الشرطة في العام 2014 (نحو الثلثين!) لم تحظ بأي فحص أو تحقيق، بينما تمت معالجة الثلث الآخر منها (1500 شكوى)، سواء بالفحص أو بالتحقيق، ووصلت 200 شكوى من هذه إلى مرحلة تقديم رجال الشرطة إلى محاكمات (116 محاكمة جنائية و 104 محاكمات تأديبية). ومن بين الشكاوى التي قدمت فيها لوائح اتهام جنائية، انتهت 24 منها إما بتبرئة رجال الشرطة المتهمين، أو بـ"صفقة ادعاء" أو بتأجيل الإجراءات ضد المتهمين، بينما انتهت 92 منها (أي 2% فقط!) بإدانة رجال الشرطة المتهمين، جنائيا.

أما في الأعوام الثلاثة السابقة (2011 ـ 2013)، والتي بلغ مجموع الشكاوى التي تقدم بها مواطنون ضد رجال الشرطة 11282 شكوى تتعلق بالاعتداء واستخدام العنف غير المبرر وغير القانوني، فقد قررت "ماحش" إغلاق ما يزيد عن 93% منها دون إجراء أي فحص أو تحقيق ودون اتخاذ أية إجراءات بحق رجال الشرطة المشتبه بهم! أما الشكاوى التي انتهت بتقديم لوائح اتهام جنائية ضد رجال الشرطة فقد بلغ عددها 306 شكاوى فقط (أي بمعدل 102 شكوى فقط في السنة الواحدة!) تعادل 7ر2% فقط، بينما انتهت 373 شكوى أخرى (تعادل 3ر3% فقط) بتقديم رجال الشرطة إلى محاكمات تأديبية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات