"لن يعود مخيم جنين كما كان عليه"- بهذه العبارة وصف وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في 2 شباط 2025، طبيعة العملية العسكرية التي تستهدف المخيمات الفلسطينية وخصوصاً في شمال الضفة الغربية، وتشمل جنين، طولكرم، نور الشمس، الفارعة وغيرها، تحت مسمى "السور الحديدي[1]" وأكد أن العملية ستستمر عدة أسابيع.[2]
ينطلق المقال من مجادلة مفادها أن عملية "السور الحديدي" تختلف عن العمليات العسكرية السابقة في الضفة الغربية بثلاثة أبعاد رئيسة: أولاً، تتجاوز هدف محاربة الفصائل المسلحة إلى تصفية البنية التنظيمية للمقاومة بشكل أوسع. ثانياً، تستهدف تدمير المخيمات وتهجير سكانها كما حدث في جباليا. ثالثاً، تعكس تحولاً في الرؤية الإسرائيلية، حيث تسعى إلى حسم الصراع عبر التهجير القسري، في تطور يتجاوز سياسة إدارة الصراع نحو محاولة إنهائه جذرياً.
استهداف المخيمات: ذرائع متكررة
تتبنى هذه العملية هدفاً عاماً ومتكرراً تطرحه إسرائيل في كل اجتياح عسكري، يتمثل في محاربة ما تسميه "الإرهاب" الفلسطيني، إلى جانب تقويض ما تعتبره نفوذاً إيرانياً متزايداً في شمال الضفة الغربية. تستند إسرائيل إلى فرضية مفادها أن المخيمات الفلسطينية، خصوصاً في شمال الضفة، أصبحت حاضنة للمقاومة المسلحة، حيث شهدت هذه المناطق تصاعداً ملحوظاً في المواجهات العسكرية، خاصة بعد العام 2021.
بحسب بيانات الجيش الإسرائيلي، فقد نفذ 110 غارات جوية على الضفة الغربية منذ بدء الحرب على غزة. [3] كما يزعم الجيش أنه، منذ انطلاق عملية "السور الحديدي" في شمال الضفة الغربية، تم اغتيال عشرات الفلسطينيين، واعتقال مئات آخرين، إضافة إلى مصادرة نحو 70 قطعة سلاح.[4]
ورغم ذلك، يشير البعض - بدون تقديم أدلة- إلى أن هذه العملية لا تختلف عن سابقاتها. إذ يرى الصحافي شاي ليفي أنها تماثل العمليات العسكرية السابقة من حيث الشكل، لكنه يشدد في الوقت ذاته على أهميتها الاستراتيجية. [5]
تصعيد متواصل: أبرز العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية
شهدت الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة سلسلة من العمليات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت مدنها ومخيماتها، حيث نفّذ الجيش الإسرائيلي عدة اجتياحات واسعة، من أبرزها:
(*) "كاسر الأمواج": بدأت في 31 آذار 2022 واستمرت ثمانية أشهر في الضفة الغربية، حيث أسفرت عن اعتقال نحو 2,500 فلسطيني، وضبط 250 قطعة سلاح، فضلاً عن مصادرة قرابة 3 ملايين شيكل. ووفقاً لتقديرات الجيش الإسرائيلي، تم إحباط ما يقارب 500 عملية خلال هذه الفترة، بحسب زعمه.[6]
(*) "بيت وحديقة": في الفترة الممتدة بين 3 و5 تموز 2023، نفذت إسرائيل عملية عسكرية واسعة في مدينة جنين ومخيمها، أسفرت عن استشهاد ما لا يقل عن 18 فلسطينياً خلال الاشتباكات. كما جرى التحقيق مع أكثر من 300 فلسطيني ممن وُصفوا بالمطلوبين منذ بدء العملية.[7]
(*) "المخيمات الصيفية": في 24 آب 2024، شنّ الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية في جنين ومخيمات شمال الضفة، أطلق عليها اسم "المخيمات الصيفية". وبعد عشرة أيام، أعلن الجيش عن نتائج العملية، التي تضمنت مقتل 36 فلسطينياً ممن وصفهم بالمسلحين، واعتقال 46 آخرين، فضلاً عن مصادرة 24 قطعة سلاح.[8]
ما الذي تسعى إليه إسرائيل من وراء هذه العمليات التي تصفها بـ"غزة المصغرة"؟
تمثل العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وخصوصاً في مخيم جنين، مخيم الفارعة في طوباس، ومخيم نور شمس في طولكرم، جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية وأمنية بعيدة المدى، ومن أبرزها:
أولاً، محاربة المخيم واللاجئ وفكرة "العودة": تعتمد إسرائيل في عملياتها العسكرية داخل المخيمات الفلسطينية على سياسة الهدم واسع النطاق، التي تهدف إلى منع السكان من العودة إلى منازلهم فترات طويلة، ما يضطرهم للبحث عن مأوى بديل، وقد يُفضي ذلك إلى تهجير دائم.
في 26 كانون الثاني 2025، نفذ الجيش الإسرائيلي تفجيراً جماعياً لـ20 منزلاً دفعة واحدة، في سابقة غير مألوفة في الضفة الغربية. وتشير الإحصائيات الفلسطينية إلى أن 85% من سكان مخيم طولكرم أجبرهم الجيش الإسرائيلي على النزوح[9]، بينما شهد مخيم جنين تهجير نحو 15 ألف شخص، أي ما يعادل 3,500 أسرة. [10] كما تعرض مخيم الفارعة لنزوح 200 عائلة.[11]
يتقاطع هذا النهج مع ما أشار إليه عوديد شالوم في مقال له بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، حيث يرى أن الجولة الأخيرة في مخيم جنين تثير تساؤلات حول الهدف الاستراتيجي لحكومة اليمين الإسرائيلي في الضفة الغربية. وأن من ينفذ هذا الدمار الواسع يدرك تماماً عواقبه. وكما هي الحال في شمال قطاع غزة، في مناطق جباليا، بيت حانون، وبيت لاهيا. بالتالي، فإن من كان يعيش في مخيم جنين لن يكون قادراً على العيش هناك مجدداً، على الأقل في المستقبل القريب.[12] بالتالي، فإن ذلك يندرج في إطار استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الديمغرافي للمخيمات الفلسطينية.
تُشكل الحرب الإسرائيلية على المخيمات الفلسطينية جزءاً من الحملة الأوسع ضد الأونروا، حيث تستهدف بنيتها التحتية وخدماتها بهدف تقويض دورها وتقليص تأثيرها. وعبر تكثيف العمليات العسكرية، تسعى إسرائيل إلى فرض واقع جديد يُنهي دور الأونروا في تقديم الخدمات الأساسية، في إطار محاولاتها لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين بشكل كامل.
وكانت إسرائيل قد اعلنت إنهاء علاقاتها مع الأونروا وإلزامها بمغادرة القدس بحلول 30 كانون الثاني 2025، بموجب قانون أقره الكنيست يمنع الوكالة من العمل داخل إسرائيل، متذرعة بتورط بعض موظفيها في هجوم 7 أكتوبر. يفرض القانون حظراً كاملاً على أنشطتها، مما يؤدي إلى إنهاء خدماتها ونقل صلاحياتها إلى إسرائيل. في المقابل، تُجري إسرائيل محادثات مع الأمم المتحدة للبحث عن بدائل، بما في ذلك احتمال دمج بعض موظفي الأونروا في وكالات أممية أخرى. هذا وجد ترحيباً من الولايات المتحدة بالقرار.[13]
ثانياً، نهج جديد في إعادة تشكيل الضفة الغربية سياسياً وجغرافياً: تتقاطع الكثير من التحليلات لسلوك الجيش الإسرائيلي اليوم بشأن أن إسرائيل تنتهج سياسة جديدة أكثر عنفاً تهدف إلى تغيير معالم الضفة الغربية، وهو ما أشار إليه تقرير نشر يوم 3 شباط 2025 في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، حيث جاء فيه "يبدو أن هذه العمليات تمثل نهجاً أكثر عدوانية قد يعيد تشكيل الضفة الغربية مادياً وسياسياً، وفقاً لمحللين إسرائيليين وفلسطينيين. وهذا قد يؤدي إلى نتائج مشابهة لما حدث في غزة: تدمير مناطق حضرية مكتظة، نزوح أعداد كبيرة من المدنيين، وتصاعد حالة الفوضى السياسية."[14]
وهذا يتناغم مع فرض قيود صارمة على حركة الفلسطينيين، حيث يعمد الجيش الإسرائيلي إلى نصب قرابة 898 حاجزاً عسكرياً وبوابة حديدية،[15] مما يعزل المدن الفلسطينية عن بعضها البعض، ويخلق واقعاً شبيهاً بـ"الكنتونات" المعزولة، يسهل السيطرة عليها أمنياً.
تظهر هذه المعطيات أن إسرائيل لا تكتفي بإضعاف البنية التحتية للمقاومة، بل تسعى أيضاً إلى إعادة رسم الخريطة السكانية للضفة الغربية وجعلها بيئة طاردة تدفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية، في محاولة لفرض واقع جديد يخدم مشاريعها الاستعمارية.
اليمين الاستيطاني: ضرورة "حسم" الضفة الغربية
في أعقاب عملية حاجز تياسير بالقرب من منطقة الأغوار في يوم 6 شباط 2025، تصاعدت الدعوات من جانب الأوساط اليمينية الإستيطانية لتشديد القبضة الأمنية والعسكرية على الضفة الغربية. وضمن هذا السياق، نشر شاي ألون، رئيس مجلس مستوطنة بيت إيل، مقالاً على موقع "واللا" في 4 شباط 2025، شدد فيه على ضرورة تحقيق "الحسم" في الضفة الغربية، داعياً إلى سلسلة من الإجراءات التصعيدية التي تعكس توجهات اليمين الاستيطاني المتطرف تجاه المنطقة.[16]
وفقاً لرؤيته، يتطلب فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية تطويق المدن الفلسطينية خلال فترة زمنية قصيرة، ونشر قوات عسكرية كبيرة لتنفيذ عمليات نزع السلاح والقضاء على المسلحين، إلى جانب ترحيلهم مع عائلاتهم وتدمير منازلهم كإجراء عقابي رادع. كما طالب بتفكيك السلطة الفلسطينية بالكامل، واصفاً إياها بـ"الكيان الإرهابي"، بالإضافة إلى إزالة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وتنفيذ خطة "إخلاء وإعادة بناء" تضمن إعادة تشكيل البنية الديمغرافية للمنطقة وفقاً للرؤية الإسرائيلية.
ولم تتوقف دعوات ألون عند ذلك، إذ أوصى بتشجيع الهجرة الطوعية للفلسطينيين غير الراغبين في البقاء في الضفة، إلى جانب إحداث تغيير جذري في نظام التعليم الفلسطيني لمنع ما وصفه بـ"تربية أجيال جديدة تتبنى الفكر المتطرف". وأكد في ختام مقاله على أن إسرائيل يجب أن تفرض سيادتها الكاملة على الضفة الغربية بدون أي قيود سياسية أو قانونية، في خطوة تهدف إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية المطلقة وإنهاء أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني مستقل.
[1] لا يوجد تفسير واضح لاختيار اسم "السور الحديدي" لهذه العملية، لكن اللافت أنه يشبه التسمية الإسرائيلية للحرب على غزة، "السيوف الحديدية". قد يكون ذلك محاولة للإيحاء بأن الحرب، التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم تنتهِ فعلياً رغم وقف إطلاق النار في كل من قطاع غزة ولبنان. وهذا يتوافق مع اعتبار المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "تعزيز الأمن" في الضفة الغربية أحد أهداف الحرب.
[2] إليشع بن كيمون. "العملية في شمال الضفة الغربية سوف تتوسع"، يديعوت أحرونوت، 6 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.ynet.co.il/news/article/rykg11jmf1x
[3] الجيش الاسرائيلي، قيادة المنطقة الوسطى." أكثر من 100 هجوم نفذ من الجو في الضفة الغربية"، للمزيد أنظر/ي: https://2u.pw/QF40UFrK
[4] آفي أشكنازي. "الجيش الإسرائيلي: اغتيال عشرات الفلسطينيين واعتقال المئات في عملية ’السور الحديدي’ بالضفة"، معاريف، 10 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.maariv.co.il/news/military/article-1171714
[5] شاي ليفي. " السور الحديدي هو عملية مهمة، لكنها ليست كما يتم تصويرها"، موقع ماكو، 29 كانون الثاني 2025، للمزيد أنظر/ي: https://archive.ph/naW7e#selection-1835.0-1835.52
[6] إليشع بن كيمون. "كاسر الأمواج: ضابطات العمليات اللاتي يقفن خلف الحرب على "الإرهاب" في الضفة الغربية"، يديعوت أحرونوت، 10 كانون الثاني 2023، للمزيد أنظر/ي: https://www.ynet.co.il/news/article/syht00hu9i
[7] يديعوت أحرونوت. "بيت وحديقة"، للمزيد أنظر/ي: https://www.ynet.co.il/blogs/baitandgan
[8] آفي أشكنازي. "الجيش الإسرائيلي أنهى عملياته في جنين - لكن العملية لم تنته بعد"، معاريف، 6 أيلول 2024، للمزيد أنظر/ي: https://www.maariv.co.il/news/military/article-1130444
[9] وكالة الأنباء الفلسطينية. "مخيم طولكرم تحت الحصار". 6 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://wafa.ps/Pages/Details/113515
[10] وكالة الأنباء الفلسطينية. "استمرار العدوان على مدينة جنين ومخيمها". 9 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.wafa.ps/pages/details/113661
[11] وكالة الأنباء الفلسطينية. "الاحتلال يجبر 200 عائلة على النزوح في مخيم الفارعة". 10 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://wafa.ps/Pages/Details/113789
[12] عوديد شالوم. "بين المباني في جنين، مدينة العبوات: 'هذا ليس دماراً لمجرد الدمار"، يديعوت أحرونوت، 9 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.ynet.co.il/news/article/yokra14249762
[13] إيتمار إيخنر. "إسرائيل ستوقف علاقاتها مع الأونروا خلال يومين، محادثات مع الأمم المتحدة حول "اليوم التالي"، يديعوت أحرونوت، 28 كانون الثاني 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.ynet.co.il/news/article/r1ubyul00je
[14] ماركوس ووكر. "الهدم في جنين يشير إلى نهج إسرائيل الجديد في الضفة الغربية"، وول ستريت جورنال، 3 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.wsj.com/world/middle-east/demolitions-in-jenin-signal-israels-new-approach-in-the-west-bank-07ecc1c6
[15] وكالة وفا للأنباء. "مقاومة الجدار": 898 حاجزا عسكريا وبوابة تحاصر المواطنين في الضفة"، 22 كانون الثاني 2025، للمزيد أنظر/ي: https://www.wafa.ps/pages/details/112361
[16] شاي ألون. "انتهت اللعبة: عملية "السور الحديدي" يجب أن تتحول إلى عملية حسم شامل"، موقع واللا، 4 شباط 2025، للمزيد أنظر/ي: https://news.walla.co.il/item/3724560