أدى فشل "الإنذار" القاتل الذي سبق حرب 1973 إلى تغييرات جوهرية في ما يعرف باسم "مجتمع الاستخبارات" في إسرائيل والأدوار والتقييمات تركت آثاراً كبيرة على التصورات/ المفاهيم الأمنية حتى سنوات قريبة. وبشكل مماثل، وربما أكثر من ذلك، يضع فشل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إسرائيل أمام منعطف مصيري ويثير التساؤل عما إذا كانت ستتمكن من تقييم ومراجعة الفشل على نفس الشاكلة اللاحقة لحرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973، بالنظر إلى الوضع الإسرائيلي الداخلي ولا سيما المواجهة بين المستويين الأمني والعسكري، وحالة المنازعة العامة المستمرة بشكل رئيس، بالإضافة إلى مخرجات حرب الإبادة المستمرة بلا توقف.
يُشار إلى أنه في أعقاب صدمة 7 أكتوبر التي عصفت بإسرائيل على كافة المستويات، تناولت العديد من التقارير والأبحاث الاسرائيلية نقداً لـ "التصور/ المفهوم" السائد ما قبل الهجوم والتي انقسمت بدورها على خطوط المنازعة العامة نفسها حول العديد من القضايا ولا سيما الجهة التي تتحمل المسؤولية عن هذا الفشل. هذه المساهمة تقدّم قراءة سريعة لمقال بعنوان "من سيستفيد من دائرة الاستخبارات التي يسعى الائتلاف الحكومي لإقامتها؟" من إعداد ديفيد سيمانتوف وأوفيك ريمر لمجلة "تيلم" قبل عدة أيام. ويسلّط هذا المقال الضوء على الأبعاد والمخاطر المترتبة على محاولة "تسييس مجتمع الاستخبارات" في إسرائيل في أعقاب تمرير مشروع قانون بالقراءة الأولى يرمي إلى تشكيل جسم استخباري جديد يتبع إلى مكتب رئيس الحكومة بشكل مباشر، ويناقش الدروس المستخلصة من الإخفاقات الاستخبارية السابقة، محذّراً من التسرّع في إجراء إصلاحات من دون تحقيقات مستقلة، لما قد يحمله ذلك من مخاطر سياسية وتداعيات استراتيجية على مجتمع الاستخبارات. جدير بالذكر أن المصطلحات والأفكار الواردة أدناه مصدرها الدراسة المذكورة نفسها ولا تعبر عن كاتب المساهمة أو عن مركز مدار.
يشير الكاتبان في البداية إلى أن الهجمات المفاجئة والتحولات الجذرية غالباً ما تكون نقطة انطلاق لتحولات استراتيجية واسعة النطاق، إذ يظل هجوم بيرل هاربر في 7 كانون الأول 1941 مثالاً بارزاً على كيف يمكن للإخفاقات الاستخبارية أن تكشف عن نقاط ضعف هيكلية، مما يدفع إلى إعادة التفكير في السياسات والاستراتيجيات والمفاهيم القائمة. ومنذ ذلك الحين، باتت الدروس المستفادة من مثل هذه الإخفاقات مرجعاً أساسياً لمعالجة التحديات الأمنية في مجتمع الاستخبارات، بدءاً من إعادة تشكيل أجهزة الاستخبارات الأميركية عقب بيرل هاربر، وصولاً إلى إعادة تقييم النماذج الاستخبارية في أعقاب هجمات حديثة كما هي الحال في إسرائيل بعد هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
لقد كان فشل الهجوم الياباني الذي وضع الولايات المتحدة في حالة ذهول وصدمة نتاجاً للعمى الاستراتيجي الذي نظر إلى الإشارات الواضحة التي سبقت الهجوم على أنها أصوات لا معنى لها، لكن هذه الصدمة على وجه التحديد دفعت النظام الأميركي لفهم حدوده، وفي وقت لاحق اعتبر الحدث حافزاً لإصلاح النظام على نطاق واسع، بل يمكن القول إن الحادثة غيرت وجه المخابرات الأميركية بشكل كاملا لاحقاً (تم إنشاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS)الذي أصبح أول هيئة استخبارات مركزية لجمع وتحليل المعلومات الاستراتيجية وتطور لاحقاً إلى وكالة المخابرات المركزية CIA، التي طورت منهجية جديدة لتحليل المعلومات تدريجياً)، كما تمت صياغة مفهوم يشجع مؤسسياً التفكير في النظريات المنافسة/ البديلة للنهج السائد، وقد تطورت العلاقة بين قوات الأمن والأوساط الأكاديمية بشكل كبير، من أجل تطوير الخبرات في مجالات مثل التحليل الاستراتيجي واللغات الأجنبية والتكنولوجيا، بهدف المساهمة في ضمان الأمن القومي. توضح الحادثة بحسب سيمانتوف وريمر حقيقة مؤلمة: "إن الإخفاقات الهائلة بالضبط، التي لها ثمن قاتل، هي التي يمكن أن تؤدي إلى ظهور فروع المعرفة، وتغيير النماذج والبنى، وترقية التفكير والعمل الاستخباراتي. وكما هي الحال في الولايات المتحدة، في إسرائيل أدى فشل التحذير اللاذع الذي سبق حرب يوم الغفران إلى تغييرات جوهرية في مجتمع الاستخبارات، والآن، يضع فشل 7 أكتوبر 2023 إسرائيل في منعطف مماثل وتثير التساؤل عما إذا كانت ستتمكن من تعلم الدروس اللازمة؟".
على التوجه نفسه، يبدو أن مشروع القانون الجديد الذي بادر إليه عضو الكنيست عميت هليفي (من حزب الليكود) والذي تم تمريره بالقراءة الأولية في منتصف تشرين الثاني الماضي، يرمي إلى إنشاء "دائرة لصياغة نظرة استخباراتية بديلة عن أجهزة الاستخبارات"، وفقاً لمشروع القانون، فإن رئيس الوزراء سيعين رئيس الدائرة التي سيتم إنشاؤها في مكتب رئيس الوزراء، ويقدم تقاريره إليه مباشرة، وهذا سيسمح، وفقاً لمشروع القانون، بصياغة تقييم مستقل عن تقييم مجتمع الاستخبارات (الأجهزة الأمنية المعروفة). سيمانتوف وريمر يشيران إلى أن التحقيق المتعمق في إخفاقات الاستخبارات ليس ترفاً بل إنه ضروري ومهم ولا يمكن التنازل عنه، لكن مع ذلك، يبدو أن وراء اقتراح إنشاء إدارة استخبارات بديلة ليست اعتبارات عملية، بل دوافع سياسية بحتة، والدليل على ذلك، لم يسبق هذا التوجه تحقيق متعمق ومستقل في فشل الاستخبارات الاستراتيجية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو الشرط الضروري لإجراء تغييرات من هذا النوع. إذ بدلاً من ذلك، ولد مشروع القانون في الظلام، وتم تقديمه على عجل وبدون التشاور مع الأجهزة الأمنية، ويستند إلى افتراضات أساسية هشة، إن لم تكن مدمرة بشكل متعمّد.
مشروع القانون الجديد: دوافع سياسية أم حاجة عملية؟
يشير المقال إلى أن دوافع مشروع القانون الجديد الذي بادر إليه عضو الكنيست هليفي والهادف لإنشاء إدارة استخبارات بديلة تعمل بشكل مستقل عن الأجهزة الحالية، وتقدم تقاريرها مباشرة لرئيس الوزراء، تبدو سياسية بحتة، حيث لا تستند هذه الخطوة إلى تحقيقات مستقلة في الفشل الاستخباري الأخير، مما يضعف الثقة في جدوى الإصلاح المقترح. إن إنشاء جهاز استخباري جديد بدون دراسة متأنية يهدد بتكرار أخطاء الماضي، حيث يؤدي إلى ازدواجية غير ضرورية، وهدر للموارد، وإضعاف للكفاءة الاستخبارية. لذلك، يشدد سيمانتوف وريمر على ضرورة تشكيل لجنة تحقيق مستقلة- "لجنة تحقيق رسمية" تتمتع بصلاحيات واسعة لفحص الإخفاق والفشل بشكل شامل قبل المضي قدماً في أي إصلاحات هيكلية.
الحاجة إلى تحقيق مستقل وشامل
يشير سيمانتوف وريمر إلى أن التحقيق المستقل في الإخفاقات الاستخبارية يعد شرطاً أساسياً لإجراء إصلاحات فعالة، والاعتقاد السائد بأن جميع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تبنّت تقييمات خاطئة/ مضلّلة حول نوايا وتوجهات حركة حماس قبل 7 أكتوبر يحتاج إلى تدقيق، حيث قد يكشف التحقيق عن اختلافات أو تباينات في "تصورات" هذه الأجهزة، مما يوفر دروساً قيّمة للمستقبل، ورغم أهمية الصحافة الاستقصائية في تسليط الضوء على بعض جوانب الإخفاق، إلا أنها غير قادرة على الوصول الكامل إلى المواد والوثائق الاستخبارية الحساسة، لذلك، تبرز الحاجة إلى "لجنة تحقيق رسمية" تُدير عملية شفافة وشاملة لفحص الأداء الاستخباري "الأمني والعسكري" والمستوى السياسي المرتبط به.
على هذا النحو، يستشهد سيمانتوف وريمر بالإصلاحات الواسعة التي شهدها مجتمع الاستخبارات في إسرائيل بعد حرب 1973، والتي تضمنت تعزيز التعددية في التقييمات وتأسيس هيئات رقابية لضمان التنوع في وجهات النظر والتقييمات والتوصيات. ومع ذلك، يشير الكاتبان إلى أن هذه الإصلاحات لم تمنع وقوع إخفاقات لاحقة، مثل الهجوم المفاجئ لحماس في 2023. وعليه، فإن إنشاء جهاز استخباري جديد يتبع لرئيس الوزراء مباشرة، كما يقترح مشروع القانون الحالي، قد يفاقم التسييس ويخلق صراعات بين الأجهزة القائمة. يذكر الكاتبان مثالاً من الولايات المتحدة، حيث أنشأت وزارة الدفاع الأميركية وحدة استخبارية موازية لتبرير غزو العراق العام 2003، ما أدى إلى تقديم معلومات غير دقيقة وصياغة سياسات خاطئة أثرت سلباً على الأمن القومي الأميركي. من المخاطر الأخرى التي يثيرها مشروع القانون الجديد هو إمكانية استخدام الاستخبارات كأداة سياسية لدعم سياسات رئيس الوزراء، حتى لو كانت تنطوي على مخاطر استراتيجية. يذكر الكاتبان سيناريوهات محتملة قد تقدم فيها الإدارة الجديدة تقييمات تدعم استمرار الحرب في غزة أو تعارض صفقات تبادل الأسرى، بما يتماشى مع مواقف رئيس الوزراء وضد تقييمات الأجهزة الأمنية الاستخبارية القائمة والتي تمتلك خبرة ومعرفة كبيرتين غير قابلة للاستبدال.
الحاجة إلى رؤية استراتيجية شاملة
يرى سيمانتوف وريمر أن إصلاح مجتمع الاستخبارات يجب أن يكون جزءاً من رؤية استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار التجارب السابقة والحلول المعتمدة في الدول الغربية. فعلى سبيل المثال، أنشأت الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 مكتب مدير الاستخبارات الوطنية (ODNI) لتحسين التنسيق والإشراف على الأجهزة المختلفة. في المقابل، ظلت المحاولات الإسرائيلية لإنشاء هيئات مماثلة محدودة التأثير، نتيجة للمعيقات السياسية والتنظيمية، وإلى جانب الإصلاحات الهيكلية، يؤكد الكاتبان على أهمية التغيير في الثقافة التنظيمية لمجتمع الاستخبارات، بما يشمل تعزيز المهنية وتشجيع النقاش الداخلي والانفتاح على وجهات نظر متنوعة. إن الإصلاحات الهيكلية وحدها ليست كافية، بل يجب أن تترافق مع تغيير عميق في القيم التنظيمية ومنهجيات العمل والتحليل والتفكير.
اخيراً يؤكد سيمانتوف وريمر على أن الإخفاقات الكبرى، بالرغم من تكلفتها الباهظة، يمكن أن تكون حافزاً لإصلاحات جذرية تعزز من قدرة الدول على مواجهة التحديات المستقبلية. ومع ذلك، فإن النجاح في ذلك يعتمد على تحقيقات شفافة وتحليل نقدي عميق، بعيداً عن الاستجابات المتسرعة والدوافع السياسية. وإن الإصلاح الحقيقي لمجتمع الاستخبارات الإسرائيلي يتطلب رؤية مهنية واضحة، تركز على تعزيز الأمن القومي وتجنب التسييس الذي قد يُضعف الثقة في مؤسسات الدولة.