"هذا ليس نقاشاً بين اليمين مقابل اليسار، الحريديم مقابل العلمانيين، لكنّه نقاش يتمحور حول مجرد وجود دولة إسرائيل"- هكذا يقول بصورة جازمة عالِم الاقتصاد الإسرائيلي دان بن دافيد وهو يتحدث عن النقاش الواسع الذي يجري اليوم بين أوساط أكاديمية ـ ثقافية ـ فكرية مختلفة في دولة إسرائيل وفي مركزه "الأزمة الهوياتية والاجتماعية التي تعتبر من الأشد خطراً التي تمرّ بها تاريخها"، وخصوصاً على خلفية المعطيات التي يجري تداولها بشأن عدد الإسرائيليين الذين يهاجرون من البلاد (ضمن ما يسمى، إجمالاً، بظاهرة "النزول" ـ المعاكسة لـظاهرة "الصعود"، أي "الهجرة اليهودية إلى دولة إسرائيل")، والتي رغم كونها معطيات غير رسمية وغير دقيقة تماماً، فإنها تؤشر بصورة واضحة جداً إلى أن ظاهرة "النزول" قد شهدت ـ ولا تزال ـ ارتفاعاً ملحوظاً في وتيرتها واتساعاً لافتاً في نطاقها خلال السنة الأخيرة بالذات، والأشهر الأخيرة منها على وجه التحديد.
ورغم أن هذا السجال قد تحول، مثل أشياء أخرى عديدة في إسرائيل، إلى حلبة تجاذبات سياسية ـ حزبية داخلية تحرّكها وتؤججها الآراء والانتماءات السياسية ـ الحزبية المتضادة، فإن بن دافيد يجزم بأنه "لا يجوز التعامل مع هذا الموضوع باستهتار وبتبخيس الآثار المترتبة على ظاهرة "النزول" وعلى "النازلين" أنفسهم، مثلما تفعل أوساط سياسية مركزية وما يدور في فلكها من أوساط أكاديمية وثقافية وفكرية، بل الأجدر بنا جميعاً التوقف والبحث في الأمر ملياً لأنه يمثل سيرورة قد تؤشر إلى نهاية هذه الدولة". وحين يطرح البروفسور دان بن دافيد مثل هذا التقييم، يتوقف الصحافي الذي يسجّل أقواله هذه، ضمن مقابلة موسعة نشرها موقع "زمن إسرائيل" ("زمان يسرائيل") الأسبوع الماضي، ليذكّر بأنّ الشخص الذي يقول هذا الكلام هو "عالم الاقتصاد المنكبّ منذ العام 1999 على دراسة التأثيرات بعيدة المدى للسياسات الحكومية الإسرائيلية على حياة الأجيال القادمة"، مضيفاً أن تجاربه البحثية المتراكمة عبر السنوات العديدة (أكثر من 25 سنة متواصلة) تقود بن دافيد الآن إلى "التحذير من الأخطار الوجودية النابعة من التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها الدولة"، وموضحاً أن "الناس، إجمالاً، لا يفهمون مدى الخطورة. نحن معرَّضون، بدرجة كبيرة، إلى الدخول في ما يمكن وصفه بأنه "لولب انهيار"، وهو ما يعني بالنسبة لنا في هذه الدولة خطراً وجودياً حقيقياً وجدياً".
30 سنة من إطفاء الحرائق!
هذه ليست المرة الأولى التي يطلق فيها بن دافيد صافرات الإنذار والتحذير محاولاً إشعال كل الأضواء الحمراء، من خلال منصبه رئيساً لمركز "شورِش (جذر) للدراسات الاقتصادية والاجتماعية"، مؤكداً على الدوام على حقيقة أن "إسرائيل تلهّت، خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، بالحلول المؤقتة التي لا تزيد عن كونها محاولات إطفاء حرائق، لكنها وصلت الآن إلى نقطة حاسمة ولم يعد بإمكانها التهرب والاختباء خلف الحلول المؤقتة: ثمة في المجال الاقتصادي ـ الاجتماعي قضايا على غاية من الأهمية، لكنها ليست وجودية بالضرورة. وصلنا الآن إلى الوضع الذي لم يتبق فيه أمامنا الكثير من الوقت. خلال السنة ونصف السنة الأخيرتين، الأشدّ فظاعة في تاريخ الدولة، بدأ الناس يفهمون، ولو على مستوى العنوان على الأقل، عدداً من المشكلات الأساسية الوجودية. لكن المهم في الموضوع هنا هو أنه إذا لم نعالج هذه المشكلات الآن وطالما كان الأمر مُتاحاً فعلاً، فستتحول إلى مشاكل وجودية لدولة إسرائيل".
في النمذجة على هذه "المشكلات الأساسية" التي ينبغي الإسراع في معالجتها، بصورة فورية، يورد بن دافيد ما يصفه بأنه "مثال بسيط جداً" ـ الأطفال في المناطق الطرفيّة من البلاد، من الناحيتين الجغرافية والديمغرافية، يشكلون نحو النصف من مجموع الأطفال في إسرائيل بأسرها، "الذين يتلقّون تعليماً في المواضيع الأساسية، في المواضيع الجوهرية، بمستوى لا يزيد عن مستوى العالم الثالث". ويضيف فيقول إن المشكلة الأكبر هنا هي أن "المجموعة التي تتلقى تعليماً بمستوى العالم الثالث تنتمي إلى المجموعات السكانية التي تتكاثر، طبيعياً، بأعلى وأسرع المعدّلات". ويشرح بن دافيد ما يعنيه ذلك فيقول إن هؤلاء الأطفال سوف يكبرون وسوف يشكلون الأغلبية السكانية في يوم من الأيام. "وعندئذ، لن يكون في مقدورهم الإمساك بمقاليد السيطرة على الاقتصاد وإدارته، علماً بأن الاقتصاد الإسرائيلي هو اقتصاد عالَم أول"، كما يوضح ويضيف: "من دون اقتصاد عالم أول لن يكون هنا جهاز صحي ولا نظام خدمات رفاه بمستوى عالم أول، ولا حتى جيش بمستوى عالم أول. لن يكون هنا أشخاص يمتلكون المعرفة والقدرة على مواجهة ومعالجة التحديات التي نحن نواجهها اليوم".
من بين التحديات التي يقصدها بن دافيد، يذكر على سبيل المثال قطاع "الهايتك" (التكنولوجيا المتطورة) الإسرائيلي الذي تزيد إنتاجية العمل فيه بنسبة 25 بالمائة عن معدل إنتاجيته في دول "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD)، لكنّ قوة العمل فيه لا تعادل سوى 10 بالمائة من قوة العمل الإجمالية في إسرائيل؛ بينما كل ما تبقى من قوة العمل الإسرائيلية، 90 بالمائة منها، لا تزيد إنتاجيّته عن 40 بالمائة، بالمعدل، من إنتاجية قوة العمل في دول المنظمة المذكورة (OECD)، التي تتمتع إسرائيل بعضويتها. "معنى هذا"، يقول بن دافيد، "أن مجموعة صغيرة جداً من قوة العمل الإسرائيلية هي التي تحافظ على أنف الدولة فوق سطح المياه فتحميها من الغرق". ويضيف، محذراً: "في الواقع، هذه المجموعة من العاملين هي التي تحافظ على وجودنا ضمن العالَم المتطور، لكن الحقيقة أن لا شيء يُلزمهم بالبقاء هنا... وهذا مكمن خطر جدي جداً"!
في الأرقام، يقول بن دافيد إن المعطيات تدل على أن أقل من 300 ألف شخص يشغلون مناصب ووظائف مركزية في مجالات أساسية مثل "الهايتك"، الطب والأكاديميا. ويضيف أن "نزول"/ هجرة بضع عشرات الآلاف من هؤلاء من البلاد "قد تُغرق إسرائيل في أزمة خطيرة جداً، تؤدي بالضرورة إلى ظهور مشاكل جدية جداً في المنظومات الأكثر حيوية في الدولة". ويذهب بن دافيد إلى تشبيه قطاع الهايتك الإسرائيلي بأنه "القبة الحديدية" الاقتصادية بالنسبة لدولة إسرائيل، لكن ليس فقط، بل هو أيضاً بمثابة "القبة الحديدية" الأمنية، كما ظهر في الحرب الحالية.
"لولب الانهيار"ـ هبوط حاد جداً في مستوى المعيشة
يرى بن دافيد أنه "يمكنني أن أشيد بإنجاز واحد نجحت هذه الحكومة في تحقيقه وهو ـ توحيد جميع علماء الاقتصاد من مختلف الاتجاهات السياسية ـ الحزبية، حتى بين أوساط علماء الاقتصاد الذين سادت بينهم من قبل حالة من اللامبالاة تجسدت في القول إن ’الأمر سيكون على ما يرام’، لكنهم استدركوا وأيقنوا في النهاية أن هذا غير صحيح". وقد كان هذا "الإنجاز" فاتحة لرسالة وقع عليها 130 عالم اقتصاد من الصف الأول في إسرائيل وهي "الرسالة الأكثر حدّة التي قرأتها في حياتي كلها. أي، أننا نصف فيها ما يسمى "لولب الانهيار"، وهي سيرورة تحدث في الدول". ويشرح بن دافيد هذه السيرورة فيقول إنها "ما حدث في لبنان وفي فنزويلا، وهي ما يحدث في روسيا وفي تركيا. يبدأ هذا اللولب بطيئاً حين تختار مجموعات النُّخَب ـ أطباء، مهندسون، عاملون في الهايتك، علماء ـ الهروب من الدولة، فيزداد العبء الواقع على المجموعات السكانية المُنتِجة؛ وهو ما يشجع بدورة مجموعات أخرى على النهوض والمغادرة، الأمر الذي يزيد العبء على ما تبقى من المجموعات المُنتجة، فيزداد الدافع للهجرة بينها وهكذا... حتى يقع العبء بأكمله على من لا يستطيع المغادرة والهجرة وهو الذي يتكبد الجزء الأكبر من الضرر. وهذا الوضع يقود بالضرورة إلى حصول هبوط حاد جداً في مستوى المعيشة في الدولة، وهو ما لم يعد بعيداً عنّا، مطلقاً".
في الرسالة المذكورة، يشير الموقعون عليها إلى مدينة القدس كنموذج أولي لاحتمال الانهيار: السيرورات الديمغرافية والاقتصادية التي تمر بها المدينة خلال العقود الأخيرة ـ وما ينجم عنها من تدهور سريع وحاد في جميع المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية وهجرة فئات واسعة من السكان العلمانيين من المدينة ـ تجسد ظاهرة لولب الانهيار والمخاطر المتوقعة لدولة إسرائيل بأسرها. وتختتم الرسالة بالتحذير القاطع التالي: "القدس لديها إسرائيل، لكن ليس لدى إسرائيل سوى نفسها".
ورداً على السؤال عمّا إذا كانت دولة إسرائيل قد وقعت في مصيدة "لولب الانهيار" فعلياً، أم أنها لا تزال خارجه، قال بن دافيد إن "هذه السيرورات تتطور هنا منذ زمن طويل، لكن بصورة مُطَّرِدَة، ما يعني أن وتيرتها في تصاعد دائم ومتواصل. بدأ المستوى المهني في المصرف المركزي (بنك إسرائيل) ووزارة المالية يفهمون هذا الأمر منذ بضع سنوات، لكن المستوى السياسي، وكذلك الجمهور الواسع بالتأكيد، لم يبدأ بفهم هذا الأمر إلا خلال السنة الأخيرة فقط ـ كثيرون جداً أصبحوا يدركون الآن أننا في وضع صعب وخطير، ولكنهم لا يقدرون درجة الخطورة بصورة صحيحة ولا سرعة التدهور".
كم من الوقت تبقى أمام دولة إسرائيل لإجراء التغيير المطلوب قبل أن يصبح متأخراً جداً؟ باختصار، يقول بن دافيد إن "الوقت المتاح فعلياً هو في غضون السنتين، السنوات الثلاث أو الأربع القريبة، على أبعد تقدير... بالإمكان استغلال الأزمة الكبيرة جدَا التي تعيشها الدولة اليوم من أجل المبادرة إلى إجراء التغييرات التي ينبغي أن تُنفَّذ".