منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، اتسمت العلاقة بين إسرائيل وحزب الله بجولات من المواجهة العسكرية، والردع التكتيكي المتبادل، وديناميكيات من القوة والدبلوماسية المرتبطة بالصراع بين إسرائيل ومحور الدول المعتدلة من جهة، وإيران ومحور الممانعة من جهة أخرى. تمثل الحرب الحالية على غزة، التي انضم إليها حزب الله مباشرة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مرحلة حرجة أخرى في تاريخ علاقات إسرائيل- حزب الله. تقدم هذه المقالة موجزا لهذا التاريخ وتطوره وصولا إلى الوضع الراهن.
الأصول في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين: صعود حزب الله
بعد ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية عن الأردن في العام 1970، تحولت لبنان إلى ساحة رئيسة لنشاط الفلسطينيين العسكري ضد إسرائيل، حيث كانت منظمة التحرير دشّنت العديد من القواعد لشن هجمات على شمال إسرائيل. ردت إسرائيل بتوغلات وحملات عسكرية وغارات جوية بلغت ذروتها في حرب لبنان العام 1982، والتي بموجبها تم إجلاء منظمة التحرير من لبنان إلى تونس. خلال هذه الحرب احتل الجيش الإسرائيلي أجزاء من جنوب لبنان، مما أدى إلى إنشاء "منطقة أمنية" حيث استمرت إسرائيل في احتلال الجنوب اللبناني حتى العام 2000؛ وهو احتلال لم يترافق مع بناء مستوطنات على العكس من النداءات التي ظهرت خلال الحرب الحالية حيث تؤكد دوائر استيطانية ودينية إسرائيلية على أهمية ارفاق الاحتلال في حال وقع خلال هذه الحرب بأنوية استيطانية جاهزة للانتقال للسكن هناك.
ومهما يكن من أمر، ترافقت فترة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان ببروز نفوذ الثورة الإسلامية الإيرانية (التي غيرت نظام الحكم في إيران العام 1979) والتي شكلت راعياً لصعود حزب الله في لبنان، وتمويله، وتسليحه وتدريبه، حيث سعى حزب الله إلى مقاومة الاحتلال والنفوذ الإسرائيليين في لبنان. بدأ حزب الله كميليشيا شيعية في العام 1982، إلا أنه أعلن عن تأسيسه كحزب في العام 1985، معلنا عزمه على طرد القوات الإسرائيلية من لبنان وتحدي وجود دولة إسرائيل من أصله. صحيح أن حزب الله ارتبط بعلاقة "حبل سري" مع إيران، إلا إنه قام بتطوير قاعدة اجتماعية، اقتصادية، إعلامية، وسياسية له داخل لبنان، وأصبح معروفا ضمنياً أنه يوازي في قوته الجيش اللبناني أو يتفوق عليها، ويشكل جزءاً أساسياً من علاقات القوة داخل دولة لبنان المنقسمة أصلا بناء على خطوط مذهبية وشبكات مصالح إقليمية- دولية.
في تسعينيات القرن العشرين، توسع دور حزب الله في لبنان سياسيا وعسكريا. وأشرف الحزب على هجمات من طراز حرب العصابات ضد الجيش الإسرائيلي وحلفائه اللبنانيين، جيش لبنان الجنوبي، داخل المنطقة التي تحتلها إسرائيل في لبنان (الشريط الأمني العازل). وبحلول أواخر العام 1990، أدى الضغط الذي مارسه حزب الله، إلى جانب الخسائر الإسرائيلية، إلى نقاش متزايد في إسرائيل حول تكلفة الحفاظ على المنطقة الأمنية. وفي أيار 2000، اتخذت إسرائيل، بقيادة رئيس الوزراء إيهود باراك، قرارا استراتيجيا بسحب قواتها من جنوب لبنان، منهية بذلك الاحتلال الذي دام 18 عاما.
حرب لبنان 2006: لحظة محورية
على الرغم من أن العلاقة بين حزب الله وإسرائيل تخللها العديد من المحطات مثل رشقات صاروخية متبادلة، وعمليات تبادل أسرى، وغيرها، فإن التصعيد القتالي الأهم حصل في العام 2006. وفي 12 تموز 2006، شن حزب الله هجوما على الجنود الإسرائيليين على طول الحدود اللبنانية، مما أسفر عن مقتل عدة جنود واختطاف اثنين. وردت إسرائيل بعملية حربية واسعة النطاق، مما أدى إلى حرب استمرت 34 يوما. استخدم حزب الله قدراته الصاروخية، فأطلق آلاف الصواريخ على شمال إسرائيل، مما تسبب في خسائر وأضرار كبيرة في صفوف الإسرائيليين. وشن الجيش الإسرائيلي بدوره غارات جوية واسعة النطاق وغزوا بريا بهدف إضعاف البنية التحتية العسكرية لحزب الله.
وعلى الرغم من القوة الساحقة التي استخدمتها إسرائيل، والتي دمرت خلالها البنى التحتية المدنية في لبنان، وخلفت دماراً ستظل ذكراه ملازمة لمستقبل العلاقة بين إسرائيل وحزب الله، انتهت الحرب بوقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة (القرار 1701) بدون انتصار واضح لأي من الجانبين. رأى حزب الله أنه انتصر في هذه الحرب بعد أن صمد أمام الهجوم الإسرائيلي وحافظ على قدرته على إطلاق الصواريخ طوال فترة الحرب، بينما أن لجان التحقيق التي تشكلت في إسرائيل، أوحت بأن إسرائيل تتعامل مع نتائج الحرب باعتبارها نوعا من أنواع الفشل (أو على الأقل عدم القدرة على تحقيق النصر). وقد غيرت هذه الحرب بشكل كبير ميزان الردع بين الجانبين وأسست سنوات من الهدوء المعزز بالردع المتبادل كان حزب الله خلالها يرفع من مخزونه من الصواريخ. وفي المقابل، قامت إسرائيل بعشرات العمليات لتعطيل إمدادات الأسلحة لحزب الله في سورية، والعراق، ولبنان، وغالبا ما استهدفت شحنات الأسلحة وقادة ميدانيين لبنانيين، وإيرانيين وسوريين. كانت أهم العمليات الإسرائيلية اغتيال عماد مغنية (العام 2008). في العام 2016، قدرت إسرائيل أن لحزب الله 45000 مقاتل (21000 منهم في ما هو بمثابة جيش نظامي)، 130 ألف صاروخ قادرة على أن تغطي في مداها كل مساحة إسرائيل. خلال فترة الحرب والانقسامات الداخلية السورية (2011 إلى الوقت الحاضر)، انخرط حزب الله في المشهد السوري بعمق، وقاتل إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد. وتدعي إسرائيل أن هذه المشاركة في المشهد السوري قد كلفت حزب الله آلاف المقاتلين، لكنها وفرت أيضا خبرة ميدانية وعززت التحالف الاستراتيجي للحزب مع إيران وسورية.
الحرب الحالية في غزة: مرحلة جديدة لحزب الله وإسرائيل؟
أدخلت الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة العلاقة بين إسرائيل وحزب الله مرحلةً جديدة وحساسة للغاية. ومنذ 8 تشرين الأول تأسست المواجهة التي بادر إليها حزب الله ضد إسرائيل بناء على قواعد اشتباك معينة. بالنسبة لحزب الله، فإنه أعلن أن هجماته تشكل "جبهة إسناد" لحماس وليس جبهة حرب قائمة بحد ذاتها مما يشير إلى وجود سقف للاشتباكات التي يقوم بها الحزب. يرى حزب الله بأن هذا النوع من الاشتباك، الذي يريد له الحزب أن يستمر حتى إعلان إسرائيل نهايةَ الحرب على غزة، يمكن أن يؤدي إلى هزيمة إسرائيل من خلال إجبارها على الدخول في صراع متعدد الجبهات يشتت قدراتها العسكرية. ويفترض حزب الله بأنه قادر، بناء على تكتيكاته المدروسة، على الحفاظ على مواجهة محسوبة وطويلة الأمد من دون إشعال حرب شاملة على لبنان.
بالنسبة لإسرائيل، فإنها تعاملت مع "جبهة الشمال" من منطلق أنها قادرة على إدارة التصعيد ومنع تأثير حزب الله على سياسات إسرائيل المتعلقة بقطاع غزة، أو على أهدافها، أو على زخم نشاطها العسكري هناك. لكن هناك أيضا فرصة لإسرائيل لتوسيع حربها "الوجودية" وإنهاء تهديد حزب الله الطويل الأمد على طول الحدود الشمالية، حيث تنظر القيادة الإسرائيلية إلى الحرب الحالية على أنها لحظة يمكن فيها إضعاف هيمنة حزب الله بشكل كبير أو ادخال تعديلات جوهرية على مستقبل حدودها الشمالية. ويرى محللون إسرائيليون أن هذا هو بالضبط ما يعنيه بنيامين نتنياهو عندما أضاف، بعد أكثر من 11 شهراً، هدفاً رابعاً للحرب الحاليّة وهو إعادة سكان إسرائيل إلى بلدات الشمال؛ مما يشير إلى ليس فقط إنهاء الاشتباك مع حزب الله وإنما إلى تغيير واقع الحدود الشمالية لإسرائيل وهو أمر لا يزال على شاكلة أسئلة مفتوحة ومرهونة بعوامل عديدة.
كانت للحرب الحالية آثار عميقة على المجتمع الإسرائيلي لسببين: أولا، تم إجلاء عشرات الآلاف من الإسرائيليين عن بلداتهم في شمال إسرائيل (في فترة من الفترات وصل العدد إلى حوالى 80 ألفاً)، وتعطلت الحياة المدنية بشدة، وتسببت بخسائر اقتصادية، وحرائق كبرى، وقتلى وصل عددهم حتى أيلول 2024 إلى حوالى 21 جنديا و23 مدنيا. ثانياً، هذه هي المرة الأولى في تاريخ المواجهة بين حزب الله وإسرائيل التي تستمر فيها الاشتباكات تارة على نار "هادئة" وتارة بشكل مكثف، من دون أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من إنهاء الاشتباكات؛ بغض النظر عن الوسيلة.
أيلول 2024: إسرائيل تسعى إلى حسم الجبهة الشمالية؟
خلال شهر أيلول 2024، تصاعدت الاشتباكات بين إسرائيل وحزب الله بشكل كبير. وبحلول منتصف أيلول غادر آلاف اللبنانيين منطقة الجنوب اعتقاداً بأن العمليات الإسرائيلية قد تتوسع بشكل غير مسبوق. وفي 17 أيلول، تم توجيه ضربة كبيرة لشبكة الاتصالات التابعة لحزب الله حيث تسبب الانفجار بإصابة حوالى 4000 عضو في حزب الله، استشهد منهم حوالى 40. وفي اليوم التالي، انفجرت أجهزة اتصال أخرى فأصابت حوالى 400 آخرين منهم حوالى 20 شهيداً. وأقر نصر الله بالضرر وألمح بالأثر الكبير على الحزب، خصوصا وأن هذا يمثل اختراقاً أمنياً غير مسبوق ويشير إلى وجود "سلة" من القدرات الإسرائيلية المتفوقة، بالإضافة إلى نية عسكرية بتصعيد المواجهة مع حزب الله من أجل حسمها. وفي 20 أيلول، هاجمت إسرائيل مبنى سكنياً في الضاحية الجنوبية لبيروت واغتالت إبراهيم عقيل، رئيس عمليات حزب الله، إلى جانب كبار أعضاء قيادة قوة الرضوان، الأمر الذي يعنى أن على حزب الله أن يستكمل الحرب بدون طاقم القادة الكبار أصحاب التجربة (رئيس أركان قوة الرضوان، ورؤساء وحدة التدريب، وقادة مناطق الهجوم ورئيس عمليات قوة الرضوان)، وبدون شبكة اتصالات فعالة. ومع ذلك، ابتداء من 21 أيلول، وسع حزب الله عملياته وقصف منطقة حيفا، وذلك لأول مرة منذ اندلاع الحرب.