أفضت نتائج انتخابات مجلس العموم البريطاني في الرابع من تموز الأخير، إلى فوز حزب العمّال بغالبية مقاعد البرلمان، ليعود إلى السلطة بعد أربعة عشر عاماً من حكم منافسه التاريخي حزب المحافظين. تعاملت الحكومة العمّاليّة الجديدة برئاسة كير ستارمر مع عدد من القضايا المتعلقة بحرب الإبادة الإسرائيليّة في غزّة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، وإن كانت الحكومة لا تسميها وتتعامل معها كحالة إبادة، فإن غزّة كانت قضيّة انتخابيّة بارزة في الانتخابات الأخيرة، ووضعت تحدّيات أمام حزب العمّال تجاه شعبيّته خصوصاً بين القواعد التاريخيّة من المسلمين واليسار، وما زالت، على الرغم من الخطوات المهمّة التي اتخذتها الحكومة الجديدة لصالح الفلسطينيين.
المحافظون... انحياز كامل لإسرائيل
وقفت الحكومة السابقة بقيادة حزب المحافظين إلى جانب إسرائيل منذ اليوم الأول للحرب، وأخذت عدداً من الخطوات على أكثر من صعيد لدعم إسرائيل في حربها. إن كان خارجياً على الصعيد الديبلوماسي في المحافل الدوليّة، مثل عدم التصويت على وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، ومعارضة التوجه لمحاكمة إسرائيل في المحاكم الدوليّة والدفاع عنها، وتقديم دعم عسكري استخباراتي مباشر لإسرائيل من خلال عمل القاعدة العسكريّة البريطانيّة في قبرص.
أمّا داخلياً، فنشطت الحكومة السابقة بقيادة ريشي سوناك، في التحريض على المظاهرات التاريخيّة التي خرجت في المملكة المتحدة ضد الحرب والتي شارك فيها مئات الآلاف في أكثر من أسبوع، واستخدم خطاب معاداة الساميّة لمحاربة الأصوات المناصرة للفلسطينيين، وجرت محاولات لمنع مظاهرات وقف الحرب لكنها فشلت، ولوحق عدد من الناشطين والأكاديميين ضمن قانون الإرهاب بسبب مواقف عبّروا عنها، إضافة إلى مساعي تجريم المقاطعة عبر سن قانون لم ينجح بسبب الانتخابات وخسارتهم فيها.
غزة قضية انتخابيّة
جاء الإعلان المفاجئ عن انتخابات مجلس العموم البريطاني في أيّار الماضي، فرصة أمام حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، لجعل قضيّة الإبادة في غزّة قضيّة انتخابيّة، في الوقت الذي أشارت فيه استطلاعات الرأي لغالبيّة مُعارِضة من البريطانيين في استمرار الحرب على غزّة ومع وقف إطلاق النار. نشطت حملات عديدة لدعم مرشحين مناصرين للقضيّة الفلسطينيّة، أو نواب سابقين كانت لديهم مواقف واضحة لوقف إطلاق النار.
رغم أن النتائج النهائيّة في النظام الانتخابي البريطاني المناطقي، أفضت إلى فوز تاريخي وتحقيق أغلبيّة داخل البرلمان لحزب العمّال، فإن نسبة المصوتين له تراجعت، بعد انزياح قواعد تاريخيّة من اليسار والمسلمين والعرب نحو مرشحين لأحزاب أخرى مثل حزب الخضر أو حزب الليبراليين الديمقراطيين، إضافة لمرشحين مستقلين وتشكيل كتلة من المستقلين المعروفين بدعمهم للقضيّة الفلسطينيّة. وكاد حزب العمّال أن يخسر مقاعد أخرى منها مهمّة، بفارق ضئيل بسبب قضيّة الموقف من غزّة. تجاهل حزب العمّال خلال الحملة الانتخابيّة الموضوع الفلسطيني والإسرائيلي قدر الإمكان واكتفى بتصريحات تدعو لضرورة التوصل لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانيّة لغزّة وتحرير الرهائن الإسرائيليين.
تغير في مواقف الحكومة الجديدة
اتّبعت الحكومة الجديدة للعمّال سياسة مختلفة عن المحافظين، خصوصاً بالخطاب الذي يدعو للتوصل لوقف إطلاق النار، واتخذت عدداً من القرارات اللافتة في بداية عملها تجاه فلسطين. كان أولها إعادة تمويل الأونروا بعد وقفها من قبل الحكومة السابقة بعد مزاعم مشاركة موظفين لها في غزّة في هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول على إسرائيل. وسحبت الطعن القانوني في المحكمة الجنائيّة الدوليّة ضد مذكرات الاعتقال بحق القادة الإسرائيليين (نتنياهو وغالانت) الذي قدّمته حكومة سوناك، وهو أمر أثار الحفيظة في إسرائيل. إلّا أن هذه الخطوات لم تلبِّ مطالب حركة الاحتجاج في الشارع.
السلاح لإسرائيل
تعتبر قضيّة وقف تزويد إسرائيل بالسلاح من قبل المملكة المتحدة، واحدة من أبرز المطالب التي تطرحها حركات الاحتجاج الشعبيّة ومؤسسات حقوقيّة عديدة، ورغم أن المملكة المتحدة ليست بمزود كبير لإسرائيل بالسلاح مقارنة مع الولايات المتحدة، فإن العديد من المعدات العسكريّة المهمّة تُصنّع في المملكة المتحدة وتذهب لآلة الحرب الإسرائيليّة، منها المسيّرات التي تُصنعها شركة "ألبيت سيستم" وتُستخدم في غزّة منذ سنوات عديدة.
وتبيع بريطانيا عبوات ناسفة وبنادق هجوميّة وطائرات عسكريّة لإسرائيل، لكنها مورد صغير نسبياً، وتشمل هذه الصادرات الطائرات والمروحيات والطائرات المسيرة، والمركبات المدرعة والدبابات، والقنابل والصواريخ. وشكلت الصادرات لإسرائيل حوالى 0.4% من إجمالي مبيعات الدفاع العالمية لبريطانيا في 2022، بمبلغ يصل إلى قرابة 57 مليون جنيه إسترليني. ولم تُصدر الحكومة البريطانيّة أية بيانات تتعلق بصادرات الأسلحة لإسرائيل بعد شهر حزيران 2023.
بدأت قضيّة وقف تزويد إسرائيل بالسلاح تأخذ حيزاً واسعاً في النقاش السياسي والإعلامي العام في المملكة المتحدة، بعد التقارير الحقوقيّة الدوليّة والأمميّة العديدة عن انتهاكات الجيش الإسرائيلي للقانون الدولي، وقبول دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدوليّة، وزيادة الضغط الشعبي. إضافة لذلك، كان استهداف إسرائيل للعاملين في منظمة المطبخ المركزي العالمي، وقتل عدد من أفراد المنظمة منهم مواطنون بريطانيون، سبباً محورياً في تحولات في الرأي العام، حتى لدى شرائح كانت تميل لمساندة إسرائيل. وخرجت عرائض وقّعت عليها شخصيّات اعتباريّة منهم قضاة سابقون تدعو لوقف تزويد إسرائيل بالسلاح.
كما بدأت تخوفات لدى موظفين عاملين في الدولة ووزارة الخارجيّة من إمكانيّة أن يكون عملهم في إصدار تراخيص السلاح مخالفاً للقانون. وعلى أثر تلك الضغوطات، قامت الحكومة السابقة عبر وزارة الخارجيّة بالإعلان عن إجراء استشارة وتحقيق قانوني، لبحث خرق إسرائيل للقانون الدولي في ممارستها العسكريّة في غزّة، وهي الاستشارة التي لم تُنشر نتائجها علناً حتى اليوم، واكتفى وزير الخارجيّة السابق ديفيد كاميرون بالقول بعد مساءلة له أن تزويد بريطانيا لإسرائيل بالسلاح لا يخرق القانون الدولي.
في المقابل، طالب حزب العمّال خلال وجوده بالمعارضة بنشر هذه الوثيقة، وقال وزير الخارجيّة الجديد عن حزب العمّال ديفيد لامي، في الأيام الأولى لتسم منصبه في شهر تموز، إنه سيراجع هذه الاستشارة وستكون القضيّة ضمن أولوياته. وفي أواسط شهر آب، استقال مسؤول بريطاني في وزارة الخارجيّة يدعى مارك سميث، كان يعمل في سفارة بريطانيا في دبلن، بسبب تواطؤ الحكومة البريطانية في جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على حد تعبيره.
وفي الثاني من أيلول، أعلن ديفيد لامي تعليق بلاده 30 رخصة، من بين 350 رخصة تصدير أسلحة إلى إسرائيل منحتها الحكومة لشركات في المملكة المتحدة، وذلك بسبب أخطار من احتمال استخدام مثل هذا العتاد في ارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي، ليكون هذا القرار سابقة في تاريخ المملكة المتحدة بالعلاقة مع إسرائيل، مع العلم أن التعليق يشمل أقل من 10% مما يُصدّر لإسرائيل.
واعتبر عدد من المؤسسات الحقوقيّة القرار بأنه مهم لكنه غير كاف، وأن تقليص السلاح لإسرائيل بسبب احتمالية استخدامه في جرائم ضد الفلسطينيين وانتهاك القانون الدولي الإنساني، يؤكد أن إسرائيل تقوم بذلك. وفي خطوة اعتبرت ضربة للوبي المناصر لإسرائيل، أيد العضو في البرلمان البريطاني اللورد كارلايل، قرار المملكة المتحدة تعليق تراخيص صادرات الأسلحة إلى إسرائيل واستقال من منصبه راعياً لجمعيّة المحامين البريطانيين من أجل إسرائيل (UKFLI). وكشف كارلايل في مقال كتبه لصحيفة "ذا إندبندنت"، أن المشورة القانونيّة نفسها التي استخدمها ستارمر ولامي لتبرير التعليق كانت معروفة لدى كبار الوزراء، بمن في ذلك وزير الخارجيّة البريطاني آنذاك، ديفيد كاميرون، الذي ورد أنه اختار عدم التصرف بناءً عليها.
تحدّيات قادمة
اختار كير ستارمر بعد توليه زعامة حزب العمّال خلفاً للنائب المناصر لفلسطين جيرمي كوربين، شعار التغيير، معلناً في أكثر من مناسبة أن هذا التغيير بدأ في حزبه، فعمل على تغيير صورة الحزب والتخلص من إرث كوربين اليساري، وأخذه نحو الوسط. لكن نتائج الانتخابات الأخيرة أظهرت ثمن ذلك بتراجع عدد مصوتي حزب العمّال بثلاثة ملايين صوت مقارنة بآخر انتخابات للحزب برئاسة كوربين. وهو مؤشر لتنامي قوة الحراك المناصر لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، في المملكة المتحدة. حتّى داخل حزب العمّال، هناك العديد من النواب المناصرين للقضيّة الفلسطينيّة. إضافة لوجود أحزاب أخرى داخل البرلمان، التي تحمل مواقف منحازة بشكل كبير للفلسطينيين مثل حزب الخضر الذي ازدادت قوته، وأيضاً لمجموعة من نواب حزب الليبراليين الديمقراطيين، وآخرين.
تتصاعد المطالبات الشعبيّة المطالبة بحظر السلاح لإسرائيل ومقاطعتها، ولعل القرار الأخير لمؤتمر النقابات العمّاليّة، وهو أكبر تجمع سنوي لقرابة 50 نقابة عماليّة، يمثلون خمسة مليون ونصف مليون منتسب لهذه النقابات في مختلف القطاعات، الذي صوّت لصالح قرار يدعو الحكومة البريطانية لإنهاء تجارة السلاح مع إسرائيل، والاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينيّة، وتعزيز استراتيجيّة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، يعتبر رسالة من قاعدة حزب العمّال الأوسع، وهي النقابات والتي دعمت العمّال في الانتخابات الأخيرة، واستضافت ستارمر نفسه متحدثاً في المؤتمر.
خلاصة
اتخذت الحكومة الجديدة عدداً من القرارات المهمّة لصالح الفلسطينيين، إلّا أنها لم تؤثر على العلاقات القويّة بين المملكة المتحدة وإسرائيل، على الرغم من انتقاد مسؤولين إسرائيليين علناً لهذه القرارات، وعدم استقبال رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو لوزير الخارجيّة البريطاني، ديفيد لامي، في أثناء زيارة الأخير لإسرائيل في آب الماضي.
لطالما وقفت المملكة المتحدة في سياساتها الخارجيّة جنباً إلى جنب مع حليفتها الولايات المتحدة، لذلك من غير المتوقع أن تتخذ الحكومة الجديدة قرارات راديكاليّة تجاه إسرائيل. تنسجم القرارات الأخيرة وتوجه الحكومة الحالي مع خطابها الداعي لوقف إطلاق النار في غزّة وإدخال المساعدات الإنسانيّة وتحرير الرهائن الإسرائيليين. أمّا على الأرض، فلم تتخذ الحكومة البريطانيّة إجراءات ملموسة ضاغطة على الاحتلال الإسرائيلي لوقف عدوانه في غزّة أو حتى الضفة الغربيّة، وتزويد إسرائيل بالسلاح ما زال مستمراً.
ويمكن تفسير قرار تقليص صادرات السلاح بأنه نتيجة للضغط الشعبي المتزايد في الشارع، والمحاكم الدوليّة، وأيضاً بسبب رفض إسرائيل السماح لوفد من الصليب الأحمر بزيارة المعتقلين الفلسطينيين المحتجزين في معتقل سديه تيمان، وهو مطلب للحكومة البريطانيّة لم يتحقق حتى اليوم.
لن تتأثر العلاقات الإسرائيليّة البريطانيّة بشكل كبير مع الحكومة الجديدة، خصوصاً لما يجمعهما من مصالح سياسيّة واقتصاديّة بُنيت على مدار عقود، لكن من المحتمل أن تتخذ الحكومة قرارات أخرى لصالح الفلسطينيين بفعل الضغط الشعبي المستمر لحركات التضامن، وابتعاداً عن إمكانيّة ملاحقات قانونيّة لبريطانيا (مسؤولين أو شركات) بسبب التواطؤ مع الإبادة الجماعيّة في غزّة.