في الثالث عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قبل انقضاء أسبوع على السابع من الشهر، خرج عدد من منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل بورقة موقف مشتركة من الحدث عبرت فيه عن صدمتها بالقول: "نحن، عضوات وأعضاء المنظّمات الموقّعة أدناه، عضوات وأعضاء مجتمع حقوق الإنسان في إسرائيل، نقف في هذه الأيّام الرهيبة مصدومين". وأضافت أن "الجرائم البشعة التي ارتكبتها حماس على مدار الأيام الماضية ضد المواطنين الأبرياء، وبضمنهم أطفال، ونساء، وشيوخ، تهزنا جميعا، ونحن جميعا نواجه صعوبة في الاستيقاظ من المشاهد التي رأيناها، والأصوات التي سمعناها. بعضنا كان في غلاف غزّة جسديا، ولكثير منّا عائلات، وأصدقاء، وشركاء، كانوا ولا يزالون في رعب، وجميعنا نعرف أشخاصا قتلوا، جرحوا، أو خطفوا هناك. سيستغرقنا وقت لإدراك معاني وآثار الهجمة الإجرامية التي نفذتها حماس، التي ليس لها أي مبرر".
وعلى الرغم من الابتعاد عن تحليل الحدث بمفاهيم السياسة وما فيها من سيرورات سببيّة وغيرها وسياقات للجاري في نطاقها، وهو ربما أمر قابل للفهم تحت وطأة الصدمة، فقد أكدت هذه المنظمات على أنه "الآن أيضاً، وبالذات، علينا أن نتمسك بالموقف الأخلاقي والإنساني، وألا ننزلق إلى اليأس والرغبة في الانتقام. إن الإيمان بروح الإنسان، بالخير الكامن فيه، قد بات ضروريا أكثر من ذي قبل. هنالك أمر واحد جلي لنا الآن: نحن لن نتخلى عن الإيمان بروح الإنسانية، والإيمان بالإنسان، حتى في هذه الأيام التي بات الأمر فيها أصعب من ذي قبل". حتى في هذا الزمن الفظيع، نرغب بأن نطلق صوتا عاليا وواضحا ضد المساس بالأبرياء، في كل من إسرائيل وغزة.
"الأمر الأكثر إنسانية وعملية الذي يمكن القيام به الآن"
في نطاق الحدث الراهن حينذاك، دعت المنظمات، بعد المطالبة بـ"إطلاق سراح المخطوفين بشكل فوري"، إلى "وقف القصف على السكان المدنيين فورا، في كل من إسرائيل وغزة"، و "عدم قطع المساعدات الإنسانية عن السكان المدنيين، وعدم المساس بالمرافق الطبية والملاجئ، وعدم قطع الموارد الضرورية للبقاء كالمياه والكهرباء". وأكدت أن "قتل المزيد من المدنيين لن يكفل عودة من فقدناهم. والخراب العشوائي، والحصار الذي يمس بالأبرياء، لن يؤدي إلى التهدئة، أو العدالة، أو الهدوء. نحن، كمن نعمل من أجل حقوق الإنسان، ونقدّس الحياة، ندعو الآن إلى التوقف عن أي اعتداء عشوائي على الأبرياء والبنى التحتية المدنية؛ نحن ندعو إلى الدخول إلى مفاوضات، والعمل بجميع الوسائل الممكنة من أجل إطلاق سراح المخطوفين، وعلى رأسهم المواطنون الذين تحتجزهم حماس. هذا هو الأمر الأكثر إنسانية وعملية الذي يمكن القيام به، الآن".
البيان وقعته منظمات حقوق إنسان رائدة ومنها: بتسيلم، چيشاه – مسلك، جمعية حقوق المواطن، اللجنة العامة لمناهضة التعذيب، منظمة العفو الدولية في إسرائيل، بمكوم - مخططون من أجل حقوق التخطيط، مركز الدفاع عن الفرد، هناك حد، ييش دين، محسوم ووتش، معهد عكيفوت، نساء يصنعن السلام، عير عميم، حاخامون من أجل حقوق الانسان، أطباء لحقوق الإنسان، لنكسر الصمت وغيرها.
هذا الموقف، وخصوصاً الجانب المتعلق فيه بالمستقبل، علماً بأنه لم يقارب الماضي، برز من خلال نشاط منظمات حقوق إنسان إسرائيلية استعادت أنفاسها وواصلت عملها. هذه مسألة تزداد أهمية في مقابل الانفلات السلطوي عديم الكوابح والمعايير والمسؤولية، وحتى المخالف للقانون الإسرائيلي المكتوب نفسه، انطلاقاً من عقلية انتقام بدائية من كل من هو عربي وفلسطيني. ففي أواخر الشهر نفسه أعلنت منظمة "هموكيد - مركز الدفاع عن الفرد"، على سبيل المثال، أنه "على خلفية التقارير التي تتحدث عن سياسة جديدة تتبعها الشرطة الاسرائيلية، وتتمثل بالتهديد بسحب الهويات من مقدسيين بسبب تفاعلهم على وسائل التواصل الاجتماعي، من المهم توضيح ما يلي: ليست للشرطة أية صلاحية لسحب الهويات من المقدسيين. وحتى إن تم اعتقالهم أو إدانتهم بتهمة التحريض، أو أية جناية أخرى، فإن هذه الإجراءات القضائية لا تؤثر بصورة تلقائية على مكانتهم القانونية في القدس".
مثال آخر، أعلنت جمعية حقوق المواطن في أواخر أكتوبر أنها تعمل بشكل مكثف للاستجابة لتوجهات الفلسطينيين. توجهت الى المستشار القانوني للضفة الغربية بطلب تمديد تصاريح الرعاية الاجتماعية للفلسطينيين الذين يقيمون في إسرائيل في أثناء توقف الإدارة المدنية عن العمل. وقدمت التماساً للمحكمة العليا مع منظمات أخرى، ضد سياسة الطوارئ أو "سياسة الإغلاق" غير المنظمة وغير القانونية التي تتبعها سلطة السجون ضد السجناء الأمنيين منذ اندلاع الحرب. وتشمل السياسة قطع المياه والكهرباء بشكل دوري، والحبس في الزنازين طوال ساعات اليوم بدون إمكانية التنقل في الأجنحة، والحد من إمكانية الحصول على الغذاء والرعاية الطبية، ومصادرة المعدات الشخصية والعديد من حالات منع اللقاء مع المحامين للمحكومين.
"تربة خصبة للحكومة لتطبيق تعاليمها العنصرية والقومجية"
منظمة "بتسيلم" كانت أول من ربط السابع من أكتوبر بالسياسات والممارسات الحكومية. وقالت في موقف لها في الأيام التالية للأحداث: "نفّذت منظمة حماس جريمة صادمة لا تزال أبعادها المرعبة تتضح تِباعاً. مئات المسلحين الفلسطينيين دخلوا إلى الأراضي الإسرائيلية، أطلقوا النيران في كل اتجاه، قتلوا مئات المواطنين بدون أي تمييز وأصابوا الآلاف بجراح، أحرقوا منازل على سكانها واختطفوا أكثر من مئة إنسان ـ بينهم أطفال، نساء ومسنون ـ سوف يستخدمونهم أوراق مساومة. كثيرون لا يزالون مفقودين ومصيرهم مجهولاً. منذ ذلك الحين، تتوارد المزيد والمزيد من الصور والشهادات من سكان حوصروا لساعات في منازلهم، يتملكهم الرعب والقلق، بينما يتجول مسلحون بين المنازل وفي داخلها ويطلقون النار؛ من أشخاص اُخِذوا رهائن؛ من متنزهين كانوا يحتفلون وفروا هاربين في كل الاتجاهات بينما يطلق مسلحون النار عليهم ويقتلون المئات منهم؛ من أبناء عائلات ما زالوا لا يعلمون شيئاً عن مصير أحبائهم الذين تم أسرهم واقتيادهم إلى قطاع غزة".
ومن هذه القراءة انتقلت إلى مسؤولية السلطات الإسرائيلية، مؤكدة أنه "لا يمكن لإسرائيل، بالتأكيد، غسل يديها والتنصل من المسؤولية عمّا حصل: وزراء في الحكومة يدعون الآن إلى القتل، التدمير، القصف، التحطيم، بل وحتى التجويع بحق سكان قطاع غزة وينسون أن هذه هي السياسة الإسرائيلية منذ سنوات. في هذه اللحظات، إسرائيل تشن الغارات على قطاع غزة، بينما من الواضح أن كثيرين من الضحايا هذه المرة أيضاً هم من المدنيين ـ بينهم النساء، الأطفال والمسنون".
ثم عادت وأكدت موقفها من الحدث نفسه، رابطة إياه بموقع الفلسطيني الذي يعيش تحت القمع الإسرائيلي الرسمي، وقالت إن "المس بالمواطنين بصورة متعمدة هو أمر مرفوض وممنوع، دائماً. لا يمكن أن يكون هنالك أي مبرر لمثل هذه الجرائم، ليس عندما تُرتَكَب في إطار النضال من أجل الحرية والتخلص من القمع وليس عند محاولة تبريرها بوصفها وكأنها مكافحة للإرهاب. كل من يتخلى عن المبدأ الأخلاقي الأساس بأن جميع بني البشر قد خُلقوا على صورة الله ـ فقدَ إنسانيته".
وفي تقرير للمنظمة نفسها صدر في آب 2024 بعنوان "أهلا بكم في جهنم – تحوّل السجون الإسرائيلية إلى شبكة من معسكرات التعذيب"، أوردت معلومات وشهادات واسعة جداً عن الممارسات القمعية الوحشية ضد الفلسطينيين في السجون والمعتقلات، وأشارت إلى استخدام الحكومة للمشاعر القاسية بعد السابع من أكتوبر لتشديد قبضة سياساتها، وقد جاء في التقرير: "إن الهجوم الإجرامي الذي قامت به حركة حماس ومنظمات فلسطينية مسلحة أخرى في 7 أكتوبر وإلحاق الأذى المتعمد وواسع النطاق بالمدنيين – بما في ذلك قتل نحو 1,200 إسرائيلي ضمنهم قرابة 800 مدني، واختطاف نحو 250 شخصا بعضهم ما زالوا محتجزين كرهائن حتى اليوم – أصاب المجتمع الإسرائيلي بأسره بصدمة نفسية شديدة وأثار مخاوف عميقة وولد رغبة في الانتقام لدى أوساط واسعة منه. هذه المشاعر كانت بمثابة تربة خصبة للحكومة والوزير المسؤول وفرصة سانحة لتطبيق تعاليمهم العنصرية والقومجية على نحو أشد بواسطة أجهزة القمع العاملة تحت أيديهم. بسرعة قياسية أصبحت مصلحة السجون الإسرائيلية هيئة على صورة الوزير المسؤول عنها وتعمل بروحه".
"تلك هي قصة العام 1948... نكبة ونكبة أخرى"
أما من وضع الحدث على خط تاريخي ممتدّ على عقود، فقد كانت منظمة "أطباء لحقوق الإنسان" التي كتبت في ورقة موقف واصفة الوضع الراهن في قطاع غزة بالمقارنة مع محطات تاريخية عدة: "مجازر وترحيل وسجن جماعي في المعسكرات وتدمير للبنى التحتية المدنية. تلك هي قصة العام 1948، وهي أيضاً قصة الـ 76عاماً من النكبة المستمرة بأبعاد لم نشهدها من ذلك الحين". وأضافت "إن عواقب تلك النكبة نراها كل يوم من خلال عملنا – في العنف المباشر الذي يتعرض له الفلسطينيون، وفي التمييز والعنصرية في نظام الرعاية الصحية وفي الظروف المحددة للصحة التي تنتجها السياسة التمييزية".
وتشديداً على ربط الحاصل اليوم بمجمل تاريخ القضبة الفلسطينية وبالنكبة تحديداً، وبتسميتها باسمها الصريح، تقول المنظمة: "قبل 76 عاماً، تم تهجير أكثر من 80 بالمائة من سكان البلاد الفلسطينيين، ورافق ذلك ما لا يقل عن 70مجزرة، وتم سجن الآلاف في معسكرات لأسرى الحرب. ومع انتهاء المعارك كانت إسرائيل قد دمرت مئات القرى والبلدات، ومنعت سكانها من العودة إلى منازلهم، وبالتالي فقد حكمت عليهم أن يحيوا حياة لجوءٍ وحرمان وألم. وفي الأشهر الماضية الأخيرة، قتلت إسرائيل أكثر من 35 ألف رجل وامرأة، وتسببت بإصابة أكثر من 70 ألفاً آخرين – بينما دمرت نظام الرعاية الصحية المحدود في الأصل، وغير القادر على توفير العلاج لهم. تقوم إسرائيل بتجويع أكثر من مليون من سكان غزة، وتفاقم من أزمة الصحة العامة، بينما 75 بالمائة من سكان القطاع قد أصبحوا نازحين ويعيشون في تجمعات مكتظة بدون بنى تحتية صحية".
وهي تختتم موقفها بلغة بعيدة للغاية عن التقريرية فتقول: "نكبة ونكبة أخرى. كارثة وكارثة أخرى. ألمٌ يجتاحنا جميعاً، نحن الذين نعيش من النهر إلى الأردن، ويؤدي إلى دوامة من العنف والانتقام. إننا غير قادرين على استيعاب كارثة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وفي كل لحظة نشعر أن قلوبنا ممزقة مع المختطفين في غزة. هناك خط ممتد على محور يصل بين نقاط تاريخ الكارثة المستمرة وحاضرها، لكن يجب ألا ننخدع بهذه التسلسل التاريخي. في كل نقطة على هذا الخط كان من الممكن التوقف. والآن لا يزال بالإمكان أيضاً التوقف. بالإمكان المناهضة. الصراخ. الاعتراض. التذكر والتذكير بأن العمل المشترك كمجتمع، بالتطوع والدعم المتبادل، هو ما يمنحنا القدرة والقوة على التوقف".
المصطلحات المستخدمة:
بمكوم - مخططون من أجل حقوق التخطيط, مصلحة السجون, بتسيلم, الإدارة المدنية