رغم النجاحات الكبيرة التي حقّقتها إسرائيل في مجال التطوير الرقمي والتكنولوجي على مختلف أنواعه، ولا سيّما التكنولوجيا الفائقة، بشكلٍ منحها ميزة كبيرة في هذا المجال لاقت ترجمتها في مجمل القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية الداخلية وعلاقاتها الدولية ومكانتها كـ "وادي السيلكون" رقم (2) بعد الولايات المتحدة الأميركية؛ فإن الجدل حول قدرتها على الاستمرار في التطور بمنحنيات مرتفعة ومستقرّة كما كانت عليه الحال في السنوات الأخيرة باتت موضع تشكيك بالنظر، من بين أمور أخرى، إلى الاعتبارات الديمغرافية والنمو السكاني للمجموعات المتعدّدة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهذا ما تؤكّد عليه بعض الدراسات والأبحاث الصادرة عن مراكز ومعاهد أبحاث وجامعات ومتخصّصين في هذا المجال.
يُعدّ التعليم إحدى الركائز الأساسية لبناء المجتمعات الدول وتطورها وضمان استمراريتها كذلك، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا "الأمن القومي"، واليوم، يساهم بشكلٍ حاسم في القدرة على المنافسة في عالم تكنولوجي متسارع ومتطور. في إسرائيل، يبرز جدل كبير حول دور التعليم في المرحلة الأساسية (التعليم الابتدائي) في تحديد وجهة الدولة ومستقبلها، ليس فقط من ناحية تطوير الفرد؛ وإنما أيضاً من ناحية قدرتها على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية في ظلّ نمو فئات سكانية تعتمد أنظمة تعليمية غير متناسبة مع متطلّبات سوق العمل المحلّية الإسرائيلية والعالمية أيضاً. هذه المساهمة تُقدّم قراءة في تقرير إسرائيلي بعنوان "السلاح الأهم الذي تمتلكه دولة إسرائيل في خطر" للبروفسور دان بن دافيد، الباحث الاقتصادي في جامعة تل أبيب، ورئيس مؤسسة "شورش" للأبحاث الاقتصادية- الاجتماعية. إذ إن التقرير يُعد مثالاً على التوجهات التي تقارب التغيرات الديمغرافية والاجتماعية في إسرائيل من منظور تأثيرها على وجود الدولة في المدى البعيد. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأفكار والمصطلحات الواردة أدناه مصدرها التقرير نفسه ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن مركز مدار أو مُعدّ المساهمة، وذلك بسبب تضمّن التقرير لأفكار وملاحظات تستند إلى بُعد كولونيالي- استشراقي ديني واضح.
الاستثمار في التعليم
يبدأ بن دافيد بادّعاء أن الاعتداءات الأخيرة التي نفّذتها إسرائيل في لبنان خلال الأسبوع الماضي والتي قامت فيها بتفجير أجهزة البيجر والعديد من أنواع الأجهزة اللاسلكية، وكذلك عمليات التصدّي الدفاعي التي تقوم بها منظومة الدفاع الجوي متعدّدة الطبقات للتهديدات الصاروخية على مختلف أنواعها، لم تكن لتحصل لولا التطور التكنولوجي والتقنيات التي طورّتها إسرائيل من خلال الاستثمار في التعليم المواكب والمتناسب مع كل التطورات التي تشهدها الساحة التكنولوجية والرقمية حول العالم. في المقابل، يُشير بن دافيد إلى أن المعضلة الأساسية الخطيرة التي تواجهها إسرائيل تتمثّل في أن نصف الأطفال في إسرائيل يحصلون على تعليم مشابه للتعليم القائم في "دول العالم الثالث"، حيث أولئك الأطفال الذي ينتمون إلى الفئات السكانية التي تنمو بشكل أسرع، وهو الأمر الذي قد يترتّب عليه ليس تحوّل إسرائيل إلى دولة فاشلة في غضون بضعة عقود، بل إنها ببساطة ستواجه صعوبة في الوجود!
يُشير التقرير إلى أن قضية التعليم الأساس والمواد التي يتعلّمها الطلبة الحريديم هي أكبر بكثير من النقاش الدائر، بل إنها تُشكّل حجر الأساس في قضايا "الأمن القومي" في إسرائيل، وذلك انطلاقاً من خصوصية إسرائيل التي تعيش تهديداً من "أعداء" يحاولون تدميرها، ولذلك لا ينبغي التقليل من شأن المعرفة والتعليم كسلاح يُمكنه مساعدة إسرائيل في الحفاظ على وجودها، إذ إن هذه المعرفة هي التي تسمح اليوم لإسرائيل بالتصدّي للتهديدات الصاروخية على نطاق لم يسبق له مثيل في التاريخ، وهي نفسها التي مكّنت إسرائيل أيضاً من القيام بعملية تفجير الأجهزة اللاسلكية في لبنان بشكلٍ متزامن، وهي التي كان من المفترض أن تكون عصية على الاختراق بعكس الهواتف الذكية.
يستعرض الكاتب بالمعطيات التفصيلية نتائج لاختبار الـ PISAمنذ العام 2006 وحتى آخر اختبار، ويدّعي أن النتائج تُشير إلى تدنّي إنجاز الطلبة الإسرائيليين في مجالات أساسية كالرياضيات والعلوم خلال الفترة المذكورة مقارنةً ببقية الدول المتقدّمة، حيث لا يتلقّى الطلبة الحريديم أي مواد منها ولا يتقدّمون للامتحانات، وهو ما يجعل متوسط الطلاب الإسرائيليين أقل من هذه الدول. ووفقاً لمتوسط جميع النتائج في اختبارات PISA في السنوات 2006-2022، فإن الطلاب في النظام التعليمي "الرسمي- اليهودي" يتواجدون في مكانة أقل من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الـ OECD، أما الطلاب في النظام التعليمي "الرسمي الديني" فأقل من 80% من دول الـ OECD، أما الناطقون باللغة العربية (الفلسطينيون في الداخل) فهم في مكان أقل من العديد من دول "العالم الثالث".
يؤكّد بن دافيد أن العامل الحاسم الذي يعزّز هذه الظاهرة هو وضع التعليم في المجتمع الحريدي أو، بشكل أدق، القيادة الحريدية التي تمنع أبناء الطوائف الحريدية بواسطة نفوذها وقدرتها السياسية من أي معرفة أو تعليم ذي صلة بسوق العمل العالمية وبالديمقراطية الليبرالية، وتمنعهما من الوصول إلى أبنائهم، في المقابل، يُشكل معدل الخصوبة لدى السكان الحريديم أعلى بحوالى ثلاثة أضعاف من معدل الخصوبة لدى اليهود العلمانيين، اليهود التقليديين، العرب، المسيحيين، وكذلك الدروز، حيث يبلغ هذا المعدّل ضعفي معدل الخصوبة لدى المسلمين مثلاً، وأعلى بثلثين من معدل الخصوبة لدى اليهود المتدينين غير الحريديم. يؤكّد بن دافيد أنه يترتّب على هذه الفجوات، تضاعف نصيب السكان الحريديم في إجمالي سكان إسرائيل كل 25 عاماً، أي كل جيل. وبينما يشكّل الحريديم الذين تتراوح أعمارهم بين 50-54 عاماً اليوم 6% من عدد السكان؛ فإن أحفادهم الذين تتراوح أعمارهم بين 0-4 سنوات يُشكّلون ما نسبته 26% من إجمالي الأطفال في إسرائيل، وعليه، كلّما استمرّ تزايد نسبة الأولاد الحريديم الذين لا يتعلمون المواد الأساسية ولا يشاركون في الامتحانات بشكل أسرع، فإن متوسط الطلاب الإسرائيليين المشاركين في اختبارات PISA الذي هو بالفعل اليوم أقل من كل الدول المتقدمة، سيعكس أقل فأقل مستوى المعرفة الحقيقي لجميع الطلاب.
بحسب التقرير، فإن 22% من الأطفال الطلبة في الصف الأول هم في المسار العربي و22% في المسار الحريدي، يُضاف إليهم الأطفال اليهود في المحيط الجغرافي والاجتماعي الذين أيضاً لا يحصلون على تعليم نوعي، ما يعني أن نصف الأطفال في إسرائيل تقريباً يتلقّون تعليماً من "العالم الثالث"، وفي الوقت نفسه ينحدرون من المجموعات السكانية التي تنمو بأسرع وتيرة، لذلك، عندما يكبر هؤلاء، سيكونون قادرين بالطبع على دعم اقتصاد ودولة من "العالم الثالث" يتناسب مع مهاراتهم ومع متطلبات هذا الاقتصاد، لكن سوق "العالم الثالث" لا يمكنها تطوير أنظمة الصحة والرعاية الاجتماعية والأمن التي تتطلّبها دول "العالم الأول" مثل إسرائيل، بكلمات أخرى يُشير بن دافيد إلى أن إسرائيل لا يمكنها أن تتحول إلى دولة "عالم ثالث" في غضون بضعة عقود إذا ما حدث ذلك، بل إنها من الممكن أن تختفي عن الوجود نظراً إلى وجودها في أكثر المناطق عنفاً في على سطح الكرة الأرضية.
بناءً على ما عُرض أعلاه، يؤكّد التقرير أن الحكومة يجب أن تُغيّر الاتجاه. وعلى الرغم من أن الفرصة ما تزال قائمة؛ إلّا هناك نقطة لا عودة ديمغرافية- ديمقراطية، سيكون بعدها من المستحيل تمرير القوانين التي كان يصعب تمريرها منذ زمن طويل. لذلك، على دولة إسرائيل أن تدرك حجم الخطورة التي ينطوي عليها الوضع الحالي وفقاً للمعطيات المقدّمة، وكذلك سرعة التغيرات التي تطرأ. إن دولة إسرائيل، كما يقول بن دافيد، بحاجة إلى حكومة تستبدل التصورات والرؤى القطاعية والشخصية بالأولويات القومية، وأن تكون قادرة على التمييز بين القضايا السطحية وبين المشاكل الجذرية التي تتطلّب تدخلاً علاجياً فورياً؛ حكومة تتمتّع بالمسؤولية والشجاعة وتضع جانباً كل قضايا يمين- يسار، متدينين- علمانيين، عرب- يهود، وتعمل على التدخل لإنقاذ إسرائيل من الغرق، وهذا الأمر ما يزال ممكناً ويجب أن يكون "أمر الساعة" بالنسبة إلى جميع الإسرائيليين.
من خلال هذه القراءة، نستطيع أن نرى أن التعليم في إسرائيل يتجاوز كونه مجرد قضية داخلية تتعلق بتحصيل الطلاب أو تنمية الفرد. إنه، بحسب هذا الباحث، قضية وطنية ترتبط بوجود الدولة واستمراريتها. وبرأيه، تتطلب هذه الأزمة التعليمية "حلولاً جذرية ومبادرات شجاعة من قبل الحكومة، التي يجب أن تتبنى رؤية وطنية شاملة تتجاوز المصالح الفئوية وتعمل على تحسين مستوى التعليم لجميع الفئات السكانية. فبدون هذه الإصلاحات، قد تواجه إسرائيل تحديات غير مسبوقة قد تهدد ليس فقط وضعها كدولة متقدمة، بل حتى وجودها ذاته".
بطبيعة الحال، لا يُمكن تجاهل البُعد الاستشراقي الذي يعجّ به التقرير الذي استعرضنا أبرز ما جاء فيه أعلاه، ولكن في جوهر القضية المطروحة يبرز التحليل المُعمق لأزمة التعليم في إسرائيل وأن التحديات التعليمية ليست مجرد قضايا تربوية أو اقتصادية فحسب؛ بل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبل "وجود الدولة وأمنها القومي". فإن استمرار الفجوات التعليمية بين المجموعات المختلفة، وغياب المواد الأساسية عن قطاعات كبيرة من هذه المجموعات، سيضع مستقبل إسرائيل ووجودها على المحك، كما أكّد معدّ التقرير، حيث أن التغييرات الديمغرافية تُظهر بوضوح إسقاطاتها المستقبلية التي قد تؤدي إلى مخاطر وجودية تهدّد بقاء الدولة، ما لم يتم اتخاذ خطوات إصلاحية جذرية وعاجلة، وهو الأمر الذي عبّر عنه بن دافيد بضرورة "إيجاد حكومة إسرائيلية قادرة على تجاوز الانقسامات السياسية والمجتمعية لتبني استراتيجيات تعكس الأولويات القومية الكبرى لدولة إسرائيل وضمان مستقبلها ومواكبتها وتطورها في ظل تحديات أمنية واقتصادية آخذة في التسارع"...