المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
فوق دبابة إسرائيلية محترقة على الحدود مع غزة يوم 7 أوكتوبر. (صحف)

بعد مضي أكثر من ستة أشهر على مفاجأة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول والصدمة "القومية" التي هزّت أركان الدولة الإسرائيلية وجميع مؤسساتها ومكوّناتها، السياسية والأمنية والعسكرية والجماهيرية، ثم ما تلاها من حرب إبادة جماعية شاملة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة توازيها، بتزامن مضبوط الإيقاع تماماً، حرب تهجير جماعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وحرب ترهيبية شاملة ضد الفلسطينيين المواطنين في دولة إسرائيل ـ بعد ستة أشهر وقد أخذت آثار الصدمة تتلاشى تدريجياً، بفعل عوامل عديدة ومختلفة يضيق المجال عن الخوض فيها هنا، يبدو أن "مياه الحياة" قد بدأت تعود إلى "مجراها الطبيعي"، بما في ذلك الآراء والمواقف التي من الواضح أنها بدأت تعود إلى "مواطنها الأصلية"، لكن بصورة أكثر تعصباً وتشبثاً.

ويعيدنا هذا التشخيص بشأن التطورات الأخيرة على ساحة المواقف في إسرائيل، سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي، إلى ما كانت أكدته دراسات أكاديمية إسرائيلية من قبل، وفي مقدمتها دراسة أجرتها المؤرخة الإسرائيلية المعروفة، البروفسور أنيتا شابيرا ونشرت في تسعينيات القرن الماضي أوصلت في إحدى خلاصاتها إلى أن الأحداث الكبيرة، الصادمة، التي تحصل في حياة الشعوب وتُحدث هزّات كبير فيها لا تجعل الأشخاص الأفراد، عموماً، يغيّرون من قناعاتهم وأفكارهم، بل العكس تماماً ـ تدفعهم إلى التشبث أكثر فأكثر بالآراء والمواقف التي كانوا يحملونها من قبل. 

هذا ما تدلنا عليه أبرز النتائج التي توصل إليها استطلاع "مؤشر الصوت الإسرائيلي" الأخير، لشهر شباط الأخير ونُشرت يوم 10 آذار الجاري. وهذا الاستطلاع هو الذي يجريه "مركز فيطربي" (في إطار "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية") للرأي العام والسياسات في إسرائيل مرة كل شهر، ابتداء من نيسان 2019. وقد شمل استطلاع المؤشر لشهر شباط عينة من المستطلَعين قوامها 750 شخصاً من الذكور والإناث (600 منهم من اليهود و150 من العرب، في سن 18 سنة وما فوق) تم استطلاع آرائهم في الفترة بين 28 شباط الماضي و4 آذار الجاري. وقد تناول هذا الاستطلاع، الأخير، مجموعة من القضايا والأسئلة المتداولة في الإعلام والمطروحة على جدول الأعمال الإسرائيلي، وأبرزها: ما يسمى "المزاج الوطني العام" بين الإسرائيليين؛ "النشاط العسكري" الإجرامي في مدينة رفح في قطاع غزة؛ مكانة إسرائيل في الساحة الدولية؛ الالتزام الأميركي تجاه إسرائيل؛ تقييد وصول العرب مواطني إسرائيل إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك؛ "قانون التجنيد الجديد" ـ هل يجب إلغاء إعفاء طلاب المدارس الدينية الحريديم والشبان العرب من واجب تأدية الخدمة العسكرية في الجيش؛ مستقبل حزب "المعسكر الرسمي" في الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنامين نتنياهو بعد انسلاخ الوزير جدعون ساعر وكتلته عنه و"فرص الترميم وإعادة التأهيل" في المستقبل. 

أغلبية متشائمة حيال مستقبل الوضع الأمني

أبرز النتائج التي قصدناها في مدلولاتها التي تحيل إلى ما ذكرناه في المقدمة أعلاه هي تلك التي تشير إلى هبوط في نسبة اليهود والعرب، على حد سواء، الذين يشعرون بالانتماء إلى الدولة وقضاياها ومشكلاتها، بما يعيد هذه النسبة إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر وقبل الحرب ضد قطاع غزة. 

فعلى نحو غير مفاجئ، إطلاقاً، أظهرت الاستطلاعات التي تلت السابع من أكتوبر مباشرة ومع اندلاع حرب الإبادة الشاملة ضد قطاع غزة، ارتفاعاً كبيراً في معدلات الشعور بالانتماء إلى دولة إسرائيل وقضاياها، وهي ما يطلق عليها في العادة "ظاهرة الالتفاف حول العلَم" في المشكلات العامة ذات الطابع القومي ـ الوطني والاستثنائي. فقد أظهرت استطلاعات ما بعد أكتوبر مباشرة ارتفاعاً حاداً بين المواطنين اليهود، حتى مقارنة بالمعدلات المرتفعة التي كانت تظهر في استطلاعات الرأي عادة والتي بيّنت دائماً أن شعورهم بالانتماء إلى دولة إسرائيل، على امتداد السنوات كلها، كان مرتفعاً جداً باستمرار. لكن الأمر الجديد في استطلاعات ما بعد أكتوبر الأخير هو النتائج التي أظهرت ارتفاعاً كبيراً، نسبياً، في شعورهم بالانتماء إلى دولة إسرائيل ومشاكلها، خلافاً لما كانت تبينه نتائج الاستطلاعات السابقة كلها ـ شعور متدنٍّ بالانتماء إلى دولة إسرائيل. بل إن الارتفاع الذي سجلته الاستطلاعات الأخيرة في هذا المجال كان أعلى حتى من الارتفاع بين المواطنين اليهود. وهو ما عزاه البعض إلى خشية المشاركين العرب في الاستطلاعات من التعبير عن "عدم انتماء إلى الدولة" جراء الأجواء العنصرية الهستيرية التي سادت البلاد آنذاك، إضافة إلى السياسات القمعية التي لجأت إليها مؤسسات الدولة وأذرعها المختصة بإنفاذ القانون بشكل خاص فور أحداث السابع من أكتوبر، سواء على صعيد الاعتقالات البوليسية العشوائية أو تقديم لوائح اتهام تعسفية، ناهيك عما تعرضت له من تضييقات وعقوبات فئات مختلفة من العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل في الجامعات والمستشفيات وأماكن العمل وغيرها. 

في استطلاع الرأي العام الأخير، ظهر تراجع واضح بين كلا الجمهورين، اليهودي والعربي، في مدى الشعور بالانتماء، وعودة إلى مستواه في فترة ما قبل الحرب، وهو ما قد يشي بأن الجمهور في إسرائيل قد "عاد إلى روتين حياته اليومية"، أو في طريقه لأن يعود.

في مسألة "المزاج الوطني العام"، المكون أساساً من الشعور حيال الوضع الأمني العام في المستقبل المنظور والشعور حيال مستقبل النظام الديمقراطي في المستقبل المنظور، أظهرت نتائج استطلاع شباط الأخير نوعاً من الاستقرار قياساً بنتائج استطلاع شهر كانون الثاني الذي سبقه في ما يتعلق بالشعور المتفائل حيال مستقبل النظام الديمقراطي، مقابل انخفاض طفيف في نسبة الشعور المتفائل حيال مستقبل الأمن القومي: 41.2 بالمائة من مجمل المشاركين في الاستطلاع و44.7 بالمائة من المشاركين اليهود و24.6 بالمائة فقط من المشاركين العرب في الاستطلاع ـ عبروا عن شعور متفائل/ متفائل جداً حيال النظام الديمقراطي في المستقبل المنظور، مقابل 53.7 بالمائة من مجمل المشاركين في الاستطلاع و49.7 بالمائة من المشاركين اليهود و73.7 بالمائة من المشاركين العرب ـ عبروا عن شعور متشائم/ متشائم جداً حيال مستقبل النظام الديمقراطي في دولة إسرائيل. 

أما سؤال الشعور حيال الوضع الأمني في إسرائيل في المستقبل المنظور، فجاءت عليه الإجابات كما يلي: 37.5 بالمائة من مجمل المشاركين في الاستطلاع عبروا عن شعور متفائل/ متفائل جداً، وكذلك أيضاً: 41.1 بالمائة من المشاركين اليهود و20.2 بالمائة من المشاركين اليهود. في المقابل، عبّر 57.1 بالمائة من مجمل المشاركين عن شعور متشائم/ متشائم جداً حيال الوضع الأمني في لمستقبل المنظور، وكذلك أيضاً: 54.2 بالمائة من المشاركين اليهود و76.9 بالمائة من المشاركين العرب. 

اجتياح رفح وتقييدات الوصول إلى المسجد الأقصى وتجنيد العرب

على خلفية الخلافات الداخلية في إسرائيل بشأن اجتياح مدينة رفح في قطاع غزة ضمن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني هناك، وهي الخلافات الناجمة بشكل أساس عن الضغوط الدولية والمداولات في محكمة العدل الدولية، سُئل المشاركون في الاستطلاع عن رأيهم في الموضوع: هل ينبغي على إسرائيل الامتناع عن توسيع "عملياتها العسكرية" إلى مدينة رفح، لتجنب تعريض علاقاتها الثنائية مع مصر للخطر ولتجنب إفشال المساعي لعقد صفقة تبادل أسرى، أم يتعين عليها توسيع هذه العمليات بغية "تشديد الضغط على حركة حماس والتوصل إلى صفقة أفضل لتحرير المخطوفين الإسرائيليين"؟. 

لم تكن النتائج مفاجئة هنا، إطلاقاًـ نحو ثلاثة أرباع المشاركين اليهود في الاستطلاع قالوا إنهم يؤيدون "توسيع العمليات العسكرية إلى رفح"، بينما قال ثُلثا المشاركين العرب في الاستطلاع إنهم يعارضون ذلك. كما أن توزيعة النتائج بحسب المعسكرات السياسية ـ الحزبية لم تكن مفاجئة، هي أيضاً: النسبة الأعلى من معارضي اجتياح رفح هي من بين مصوتي "اليسار" (لكنهم ليسوا أغلبية مصوتي هذا "اليسار"!)، بينما الأغلبية الساحقة من مصوتي أحزاب "الوسط" و"اليمين" تؤيد "توسيع العمليات العسكرية واجتياح مدينة رفح".

سُئل المشاركون عن رأيهم في التقييدات التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية على المسلمين من العرب مواطني إسرائيل في الوصول إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، وعلى ذلك جاءت الإجابات: نسبة كبيرة من المشاركين اليهود في الاستطلاع (لكن ليس الأغلبية من بينهم ـ 45 بالمائة) مقابل أغلبية كبيرة من المشاركين العرب في الاستطلاع (69 بالمائة) قالوا إن هذه التقييدات من شأنها زيادة احتمالات "العنف والعمليات" خلال شهر رمضان، مقابل 23 بالمائة من المشاركين اليهود و9 بالمائة من المشاركين العرب قالوا إن هذه التقييدات "ستؤدي إلى تقليص احتمالات العنف والعمليات". 

في سياق الحديث عن تعديل قانون الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي بحيث تشمل طلاب المدارس الدينية لدى اليهود الحريديم، تضمن استطلاع هذا الشهر سؤالاً حول "الإعفاء الممنوح للعرب مواطني دولة إسرائيل من الخدمة العسكرية في الجيش ـ هل يتعين تغيير ذلك أم لا؟". ورداً على ذلك، قال 40.5 بالمائة من مجمل المشاركين في الاستطلاع إنه "نعم/ نعم بالتأكيد" يجب تغيير ذلك؛ وهو ما قاله أيضاً 42.4 بالمائة من المشاركين اليهود و27.6 بالمائة من المشاركين العرب في الاستطلاع. في المقابل، قال 43.1 بالمائة من مجمل المشاركين في الاستطلاع إنه "كلا/ كلا بالتأكيد" ـ لا ينبغي تغيير ذلك. وهذا ما قاله أيضاً 41.1 بالمائة من المشاركين اليهود و53.3 بالمائة من المشاركين العرب في الاستطلاع. 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات