فتحت الحرب الحالية ضد غزة الأبواب أمام التيار الديني القومي الأكثر تطرفا، أي التيار الحردلي، ليحتل مكانة أكثر بروزا داخل الجيش الإسرائيلي. فاستدعاء أكبر قدر من جنود الاحتياط، والدخول في حالة الحرب، وتجهيز أكثر من 600 "لجنة تأهب" مسلحة في مدن، وأحياء، وبلدات إسرائيل، بالإضافة إلى التجنيد الكامل للإعلام، ومؤسسات الدولة- كل ذلك رفع من مكانة الجيش الإسرائيلي في الحيز العام ليتحول إلى اللاعب الأبرز والموجود في كل مكان من الحياة اليومية في إسرائيل. ويمكن ملاحظة أن التيار الحردلي استفاد من حالة التجييش العامة وبدأ صوته، وثقافته، وأفكاره تظهر بشكل أكثر داخل فرق الجيش، وأحيانا بدون انتقادات.
التيار الحردلي، كما تطرقنا إلى ذلك مراراً في منشورات مركز مدار،[1] يجمع بين ثلاث صفات: سياسيا هو في أقصى اليمين ويعتبر قوميا متطرفا يتطلع إلى دولة على أرض إسرائيل الكاملة ويرفض قطعاً وجود سلطة أو دولة للغرباء (كالفلسطينيين). ودينيا هو متزمت وينظر إلى التوراة باعتبارها المرجع الوحيد لفهم الحياة الاجتماعية والسياسية. وثقافيا هو يعتبر سلفياً متشككاً بقيم الحداثة والليبرالية والديمقراطية على الرغم من أنه يمارس بعضها فقط كوسيلة للوصول إلى باقي المجتمع الإسرائيلي.
إحدى أهم المحطات لفهم علاقة التيار الحردلي بالجيش (والمقصود هنا فقط الجيش الإسرائيلي النظامي، لتمييزه عن باقي الأجهزة العسكرية)، هو الانسحاب من قطاع غزة العام 2005. فقد قام الجيش الإسرائيلي بالانصياع إلى أوامر القيادة السياسية (وهكذا تفعل الجيوش الحديثة)، وإخلاء مستوطنات قطاع غزة بالقوة، الأمر الذي دفع التيار الحردلي إلى اتهامه بارتكاب ما يشبه معصية دينية، والمشاركة في "نفي" شعب إسرائيل من جديد. السنوات التالية على هذا الحدث، كانت عبارة عن سياق طويل ومتعرج يسعى من خلاله التيار الحردلي إلى "احتلال" الجيش من الداخل، والدخول إلى فرق عسكرية نخبوية، والتدرج في الرتب العسكرية، والسيطرة على بعض مراكز مؤسسة الحاخامية العسكرية التابعة للجيش. والمقصود باحتلال الجيش من الداخل، هو أن التيار الحردلي يرى في الجيش الإسرائيلي مؤسسة حداثية عقلانية، بمعنى أن الجيش وبدلا من أن يكون ورعا دينيا، ويتعامل مع نفسه باعتباره جيش "شعب إسرائيل"، فإنه يتصرف كآلية عسكرية تابعة في قرارها إلى القيادة السياسية والاعتبارات الدولية والتي تتعارض في أحيان مع الرؤية التوراتية لمفهوم أرض إسرائيل الكاملة. ليس أدل على ذلك، حسب التيار الحردلي، من قيام "جيش اليهود" بإخلاء مستوطني قطاع غزة من أرضهم التي "حررها" العام 1967.
وبينما كان الخروج من غزة بمثابة محطة نظر التيار الحردلي بعدها إلى الجيش كمؤسسة تحتاج إلى تصويب، فإن الحرب الحالية على قطاع غزة وفرت مساحة للبدء بممارسة التوجهات الحردلية داخل الجيش، بشكل علني، وواسع النطاق. لم تستخدم الصحافة الحردلية فكرة أن معظم المشاركين في حركة الاحتجاج، ومن ضمنهم ضباط وجنود رفضوا الخدمة العسكرية، هم من العلمانيين الذين يرفضون التحول إلى دولة دينية توراتية ومحافظة، لكن بعض المحللين يرون أن الانقسام داخل الجيش بين علمانيين وحردليين (وما بينهما أطياف أخرى) يجب أن يكون في الخلفية عندما ننظر إلى ممارسات التيار الحردلي داخل الجيش خلال الحرب، والتي يمكن أن نراها على أربع جبهات:
- أولا، ليس معروفا كم هو عدد الجنود الذين يصنفون أنفسهم على أنهم من التيار الحردلي، لكن من الواضح أن هناك بروزاً واضحاً للخطاب الحردلي في الاحتفالات الدينية في أرض المعركة: الصلوات، التأبين، وحفلات توزيع النياشين في أثناء المعارك. في هذه المناسبات، يبرز خطاب التيار الحردلي الذي يعزز روحاً قتالية لا تمت بصلة إلى ثقافة الجيش والقيمة. مثلا، يحاول الحردليون أن يبثوا أيديولوجيا قومية متطرفة بشأن بطلان مفاهيم "ضبط النفس"، و"تجنب الأبرياء"، و"العنف العقلاني"، وهي كلها قيم تصدر عن المؤسسة الرسمية للجيش- بغض النظر عن تطبيقها. بيد أن الحردليين يستفيدون من حالة الجيشان العام، ويتصدرون خطاب العنف (وحث الجنود على عدم الخجل من استخدام المزيد من العنف). وقد كتب الباحث يغيل ليفي في صحيفة "هآرتس" بأن قيادة أركان الجيش على دراية بهذا الخطاب، لكنها تمتنع عن كبحه، بحيث أنه أصبح معيارا داخل الجيش وليس انحرافا مشحوناً بالكراهية المطلقة.
- في الضفة الغربية، تأخذ ممارسات التيار الحردلي داخل الجيش منحى مختلفاً. أفراد التيار الحردلي داخل الجيش المنتشر في الضفة الغربية (وهناك كتيبة كاملة عناصرها من التيار الحردلي والحريدي)، يحولون مقتل أي فلسطيني برصاص الجيش أو المستوطنين إلى مناسبة للاحتفال. بل إن الجيش الذي انصاع بشكل كامل لقرار الحكومة الإسرائيلية العام 2005 لإخلاء مستوطنات، أصبح جيشا يتصرف بدون الرجوع إلى المستويات الأعلى منه خصوصا في أثناء مهاجمته، بصحبة المستوطنين، لأراضي الفلسطينيين، وسرقة محصولهم من الزيتون، أو تهجير عائلات.
- في الفترة الأخيرة ينشط التيار الحردلي بشكل كبير في "لجان التأهب" المسلحة المنتشرة في أكثر من 600 مدينة وبلدة ومستوطنة إسرائيلية، ليس فقط في الضفة الغربية وانما في جميع أنحاء إسرائيل. في الواقع، هذه اللجان تأسست من داخل التيار الاستيطاني في أعقاب توقيع اتفاقيات أوسلو، بحيث أن المستوطنين، خصوصا جناحهم الحردلي، أقاموا لجاناً مسلحة لحماية مستوطنات الضفة من "قوات" السلطة الفلسطينية المسلحة. وظلت هذه اللجان عبارة عن مشروع مهم، لكنه لا يحظى باهتمام كبير في داخل السلطات المحلية والمدن والمستوطنات. اليوم، تعيد الدولة (وليس المستوطنين أو الحردليين) الاعتبار إلى هذه اللجان، ويلعب التيار الحردلي دورا في تأطيرها في العديد من البلدات.
- كانت هناك محاولة "غير موفقة" تهدف إلى إدخال الخطاب الحردلي فيما يخص تفسير هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. فقد رفض العقيد سودي نمير، وهو ضابط حردلي في الجيش وطبيب، الحفل الصاخب بالقرب من مستوطنة "رعيم"، وهو نفس الحفل الراقص الذي كان في قلب المشهد في الـ 7 من أكتوبر. وقد حاول أن يوصل رسالة ذات مضامين سلفية ومحافظة مفادها أن الهجوم ومقتل الشبان الإسرائيليين في هذا الحفل هو بمثابة رسالة من الله ردّاً على هذه المعاصي التي لا يجب أن تحصل في أرض إسرائيل. وقد لاقى هذا الخطاب انتقادات حادة أدت إلى عدم تكراره.[2]
[1] للمزيد حول الحردلية، أنظر/ي: وليد حباس، "الحردلية"، في كتاب "اليمين الجديد في إسرائيل: مشروع الهيمنة الشاملة" (تحرير: هنيدة غانم، رام الله: مركز مدار، 2023).
[2] أنظر/ي مثلا، حساب بن كسبيت على قناة التلغرام: https://t.me/Ben_Caspit/6374