في العام 1952، أقيمت شركة أوتوكارز (Autocars Ltd) الإسرائيلية، التي استفادت من تراكم خبرات صهيونية في مجال تركيب السيارات، وهي خبرات تعود إلى العام 1935 في فترة الييشوف. وابتداء من العام 1952 أنتجت أوتوكارز سيارات إسرائيلية من طراز "كرمل" و"سوسيتا"، إلى أن أفلست الشركة في العام 1971، وخرجت من السوق، وتبدد الحلم الصهيوني بالوصول إلى مكانة "مرموقة" بين الأمم العالمية صانعة السيارات.Keith Adams, “Around the World : Autocars of Israel,” ARonline, 2016, https://www.aronline.co.uk/cars/triumph/around-the-world-autocars-of-israel/. اليوم، تحاول إسرائيل أن تعود من جديد إلى عالم تصنيع السيارات من الباب الخلفي، وأن تحتل مكانة "مرموقة" من خلال التحول إلى رائدة عالمية في مجال تصنيع السيارات، لكن، وهنا المفارقة، بدون أن تصنع سيارات! هذه المقالة تلقي الضوء على الدور الذي تحتله إسرائيل في عالم تصنيع السيارات الحديثة، وكيف تعيد تنظيم تحالفاتها الاقتصادية بين القوى العظمى في هذا المجال.
في السابق، كانت صناعة السيارات تعتمد بالأساس على الميكانيكا. فالشركات الأنجح كانت تلك الشركات التي تتميز في صناعات المحركات، نظم القيادة، وسائل الأمان وغيرها. بيد أن هذا النوع من الصناعات بدأ منذ أكثر من عقد يترك الساحة إلى نوع جديد من صناعات السيارات يقوم على التقنيات العالية (Hi-tech)، واستبدال المحركات التي تعمل على الوقود بتلك التي تعمل على الكهرباء، وإضافة تقنيات ذكية لمجاراة الثورة الجديدة في عالم إنتاج السيارات، وهي سوق واعدة مستقبلا، وتعتبر ميداناً يشهد منافسة عالمية شرسة. ولأن إسرائيل تعتبر قوة عالمية في صناعة التقنية العالية، فإنها اليوم باتت لاعبا رئيسا في صناعات السيارات الحديثة. ثمة أكثر من 100 شركة تقنيات عالية إسرائيلية تتميز في تطوير تقنيات القيادة الذاتية (auto-driving)، نظم الحماية من الاختراق (cyber protection)، القيادة التشاركية (ride sharing) التي تتيح لمركبات مختلفة مشاركة مسار القيادة وتبادل معلومات، تطوير مجسات ورصد الأجسام المتحركة في الشارع، قراءة الشارع والمفترقات وخطوط المشاة وإشارات المرور والتفاعل معها تلقائيا، وتطوير بطاريات السيارات الكهربائية (electric cars) ونصف الكهربائية (hybrid cars).للاطلاع على قائمة شركات التطوير الإسرائيلي في هذا المجال، أنظر/ي الرابط التالي: https://startupill.com/101-best-israel-automotive-startups-the-future-of-transportation/ ولهذا السبب، فإن معظم شركات صناعة السيارات لديها فروع "بحث وتطوير" (R&D) في إسرائيل. وبحسب تقرير نشره معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي مؤخرا، فإن كل سيارات العالم الحديثة تحتوي على تقنيات أساسية، لا يمكن الاستغناء عنها، وتمت صناعتها داخل إسرائيل. هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، على ما يبدو، ستضع إسرائيل في واجهة صناعة السيارات خلال العقود القادمة، بسبب عولمة الصناعات الكبرى: توزيع التقنيات التي تقوم عليها السيارة على دول عدة بحيث أن كل دولة تختص بصناعة معينة وتحتكرها، على العكس من الماضي عندما كان كل خط الإنتاج بين يدي مصنع واحد. وعليه، قد لا يكون من المقبول مستقبلا الادعاء بأن هذه السيارة هي يابانية، أو ألمانية.. إلخ، وإنما هي صناعة عالمية تشارك فيها إسرائيل في موقع متقدم جدا. Ariel Sobelman, “The Race to Electric Vehicles: Technology, US-China Rivalry, and Big Money” (Tel Aviv: INSS, 2022), https://www.inss.org.il/publication/the-race-for-the-electric-car/.
إحدى أهم المنافسات العالمية في هذا المجال، هي صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وهي صناعة تعد حجر الأساس في ثورة السيارات الكهربائية. تعتمد ثورة السيارات الحديثة على استبدال محرك الوقود بمحرك كهربائي بشرط أن تتيح السيارة للسائق المقدرة على إعادة شحن بطارية سيارته بسهولة. في العام 2007، أسس الإسرائيلي شاي أغاسي شركة (Better Place) التي بدأت بوضع محطات شحن كهربائية في محطات الوقود التقليدية. بيد أن الشركة فشلت وأفلست في العام 2013، والسبب طول المدة الزمنية التي يحتاجها السائق لشحن بطارية سيارته الكهربائية والتي قد تصل إلى ساعات (في مقابل دقائق معدودة لملء خزان الوقود في السيارات التي تسير على البنزين أو السولار).Sobelman المشكلة الأساسية كانت في وقت الشحن، وبينما أن هناك تقنيات جديدة لشحن بطاريات السيارات بسرعة فائقة، فإن هذه التقنيات تقصر عمر بطارية السيارات الكهربائية وبالتالي فهي ليست عملية. وعليه، فإن التنافس العالمي الحالي يقوم على صناعة بطاريات لسيارات كهربائية بحيث يتم شحنها بسرعة فائقة بدون أن تتلف البطارية في مدة قصيرة وتكون تكلفتها قليلة نسبيا.
في الواقع، تحتل الصين اليوم موقعا متقدما جدا مقارنة بالغرب (أميركا تحديدا) في هذا المجال. وللتوضيح، فإن بطاريات السيارة الكهربائية تقوم حاليا على تقنية الليثيوم بحيث أن الجانب السلبي من البطارية يحتوي على أنودات (anodes) مصنوعة من عنصر الغرافيت (graphite) بينما أن الجانب الإيجابي يحتوي على معدن الليثيوم. الصين حولت هذه الصناعة إلى جزء من أمنها القومي قبل عشر سنوات، وتنفق عليها مبالغ طائلة وتدعمها من قبل الحكومة والبنوك الوطنية الصينية. ولكن مؤخرا، استطاعت شركات ريادية في إسرائيل تطوير بطاريات من طراز جديد، يقوم على استبدال مادة الغرافيت بمادة السيلكوم النانوميترية. وبهذا، لفتت هذه التقنية الإسرائيلية انتباه الصين التي تنظر إلى إسرائيل كشريك ومطوّر لا غنى عنه في هذا المجال. تحديدا، تهتم الصين بشركة سولار- إيدج (SolarEdge)، وهي شركة إسرائيلية لديها فروع في أهم مدن العالم الغربي، وتتعاون بشكل رسمي مع شركة تسلا الأميركية ابتداء من العام 2015. بالإضافة، هناك شركة أديونكس (Addionics 3D) التي لديها مقران في لندن وتل أبيب، وتأسست من خلال إسرائيليين، وشركة ستوردوت (StoreDot) ومقرها هرتسليا. كما أن الصين بدأت تستثمر في إسرائيل من خلال الشركة الصينية العملاقة (EVE Energy Co Ltd)، وفي مجالات البحث والتطوير والمشاريع الأكاديمية وتبادل المعلومات.
الهايتك الإسرائيلي لم يحسم بعد وجهته بين الصين والولايات المتحدة
للوقوف أمام تمدّد الصين وتفوقها الذي لا يمكن منافسته في الوقت الحالي، سنّت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قانونا جديدا لتطوير أداء الولايات المتحدة في هذا المجال. White House, “President Biden’s Bipartisan Infrastructure Law,” 2022, https://www.whitehouse.gov/bipartisan-infrastructure-law/. واليوم نحو 76% من إنتاج البطاريات في العالم مصدره الصين، ولا يمكن للولايات المتحدة جسر هذه الهوة في المستقبل القريب. حتى شركة تسلا الأميركية تعتمد على الصناعات الصينية في مجال البطاريات. غير أن هذه الهوة بين الصين والغرب تتأتى من صناعة البطاريات التي تقوم على مادة الغرافيت، التي استبدلتها التقنيات الإسرائيلية بمواد جديدة أكثر نجاعة. وعليه، تجد إسرائيل نفسها أمام مأزق: إما الاستفادة من المكانة المتفوقة للصناعات الصينية وتوجيه تقنياتها الجديدة نحو الصين لدرّ الأرباح الفورية، وإما البقاء استراتيجيا في معسكر الغرب وبالتالي التضحية في قطف الثمار الاقتصادية من تطويراتها (في حال بيعها للصين) في مقابل ترجيح العلاقات السياسية الإستراتيجية مع الولايات المتحدة.