المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يشكل البحث المتعجّل في ميزانية دولة اسرائيل للعام 2019 فرصة للخوض في السؤال: هل يمكن مواصلة التمسك بالسياسة التي وجهت حكومات اسرائيل منذ 2004- تقليص المصروفات الحكومية وبالأساس تقليص المصروفات الاجتماعية، قياساً بقدرة الدولة الاقتصادية (أي قياسا بارتفاع الناتج المحلي الخام)؟

تتجلى هذه السياسة من خلال قواعد الميزانية المتغيرة من حين الى آخر، والتي يوحدها مع ذلك هدف واحد: تقليص العجز وتقييد حجم الصرف من الميزانية. إن العجز المنخفض يمكّن من تقليص الدين الحكومي، والدين المنخفض يُنظر اليه في الأسواق المالية العالمية كمؤشر للاستقرار المالي للدولة. في الحالة الإسرائيلية، تصبح الحاجة ماسّة لهذا الاستقرار بإزاء انعدام الاستقرار السياسي- الأمني، وأبرز تجلياته- وأكثرها قابلية للانفجار وفقا للغة الجيش الاسرائيلي- هو المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاسرائيلي المتواصل. إن انعدام الاستقرار السياسي- الأمني هو ما يجبر الدولة على اعتماد سياسة مالية حذرة.

لكن يمكن صياغة ذلك على نحو مختلف: إسرائيل مستعدة لمواصلة الاحتلال أيضاً بثمن الصرف المدني الأكثر انخفاضاً.
هل الاستنتاج هو أن السبيل الوحيد لزيادة حجم المصروفات الاجتماعية هو تعميق العجز وزيادة حجم الدين؟ بالطبع لا. إن إحدى الوسائل هي رفع الضرائب المباشرة، التي تم خفضها الى حد كبير عام 2003-2004، وبما عاد بالفائدة خصوصاً على أصحاب المداخيل المرتفعة. ومثلما سنبيّن فيما يلي، هناك علاقة أيضاً لخفض الميزانيات هذا بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.
وثمة سبيل ثانٍ هو السعي الى تسوية متفق عليها مع الفلسطينيين، تمكّن من التوصل بالتدريج الى استقرار سياسي واقتصادي.

ليس النيوليبرالية فقط!

المصروفات المدنية بما يعادل نسبة الناتج المحلي الخام تضعنا في أسفل تدريج الـ -OECD إيرلندا وحدها تقع تحتنا. ومن هذا يُشتق وجود اسرائيل في أسفل تدريج الـ OECD كذلك في نسبة الصرف على الضمان الإجتماعي والاستثمار العام في الاقتصاد. وفقاً لبنك إسرائيل، تدل هذه المعطيات على استصعاب الحكومة "توجيه موارد لصالح خطوات سياسية تعزز من نمو الاقتصاد على المدى البعيد". بكلمات أخرى، إن الصرف المدني المنخفض يضر بقدرة الدولة على تطوير مستدام لجميع أجزاء المجتمع الإسرائيلي.

ما هو تفسير الصرف المدني المنخفض؟ إن أكثر الاجابات شيوعاً هو أن التفسير يكمن في الإيديولوجيا النيوليبرالية لدى الحكومة ورئيسها، بنيامين نتنياهو، الذي شغل أيضاً منصب وزير المالية في الفترة المشار إليها. فعلا، إن النيوليبرالية تلعب هنا دوراً، وبالتأكيد في الخطاب المرافق لاعتماد الصرف المدني المنخفض. لكن هذا ليس تفسيرا كافيا. فالمشكلة المالية الأساسية للاقتصاد الاسرائيلي تكمن في انعدام الاستقرار.

تعيش الدول "الطبيعية" حالات مد وجزر "طبيعية" في الدورات الاقتصادية. أما الدول "غير الطبيعية" فتعاني بالإضافة الى ذلك من هزات أمنية وسياسية. وتشكل إسرائيل مثالا ملائما لذلك: صحيح أن عصر الحروب "الكبرى" قد انتهى مع توقيع اتفاقية السلام مع مصر، لكن احتلت مكانها "جولات" من المواجهات العنيفة مع الفلسطينيين – انتفاضتان، أربع- خمس مواجهات واسعة النطاق في قطاع غزة وما لا يحصى من الحوادث الإضافية. كل جولة كهذه يرافقها ضرر اقتصادي: الانتفاضة الثانية، مثلا، الى جانب أزمة الهايتك العالمية عام 2001، أدت الى سنتين من تضاؤل الناتج المحلي الخام وثلاث سنوات من تقليص الناتج المحلي الخام للفرد. كل واحدة من الجولات القتالية التالية – "الجرف الصامد" وما يشبهه – أدت الى أضرار اقتصادية إضافية. الحلبة الفلسطينية ما انفكت تشكل أكثر الحلبات "انفجاراً" كما تنص الوثيقة الاستراتيجية للجيش الاسرائيلي عام 2016، حتى لو كان التهديد الأول اليوم هو المحور الشيعي بزعامة إيران.

مضادات للصدمات

يؤثر انعدام الاستقرار بدوره على سلم الاعتماد لدى إسرائيل، وهو تدريج يتأثر الى حد كبير بحجم دين الدولة، والذي يُعرف بـ"علاقة الدين بالإنتاج": كلما كانت علاقة الدين والإنتاج أقوى، فإن تدريج الإعتماد منخفض أكثر. انعدام الاستقرار الأمني- السياسي يخفض الاعتماد أكثر فأكثر، لأنه يشكل تهديداً واضحاً على الوقوف في التزامات سداد الدين. تدريج الاعتماد المنخفض يرفع بدوره الثمن (الفائدة) التي يتوجب على الدول التي في ضائقة دفعه مقابل القرض الذي تطلبه.

إن "دكتاتورية تدريج الاعتماد" تدفع دولا كثيرة الى القيام بكل ما في مقدورها لتحسين سلم الاعتماد لديها. الوسيلة الأساسية لتحقيق ذلك هي تقليص العجز – وهي الوسيلة الأساسية لتقليص الدين. في حالة اسرائيل، "تقليص العجز" و"تحديد الصرف العام" يأتيان مترادفين.

وفقا لما أشارت اليه وزارة المالية، خلال مناقشة قانون تقليص العجز وتحديد الصرف العام، فإن إسرائيل معرضة لهزات اقتصادية مصدرها وضعها الجيوسياسي، ولغرض مواجهة مثل هذه الهزات الاقتصادية تزداد الحاجة الى تحقيق علاقة دين- ناتج منخفضة قدر الإمكان.

الترابط بين علاقة الدين- الناتج وسلم الاعتماد وبين انعدام الاستقرار الأمني- السياسي جليّ جداً للموظفين المؤتمنين على إدارة الدين. منذ العام 2004، حين انخفض الدين للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات من التضخم بسبب الانتفاضة الثانية، أشارت وحدة إدارة الدين الحكومي في وزارة المالية الى أن شركات تدريج الاعتماد خرجت بانطباع إيجابي من تحسّن الوضع الجيوسياسي "في إثر وفاة ياسر عرفات، انتخاب أبو مازن رئيساً للسلطة الفلسطينية في انتخابات ديمقراطية، الأمل الذي رسخته قمة شرم، وخطة فك الارتباط".

لكن وحدة إدارة الدين ذكرت أيضاً عاملا إضافياً في تحسين تدريج الإعتماد: "الأجندة الإقتصادية التي وجهت سياسة الحكومة". الوحدة توقفت هنا دون أن تفصّل أكثر، لكن يمكن الافتراض أن المقصود هو الرؤية التي قادت الحكومة حين اختارت مجمل الخطوات التي اتخذت للتعاطي مع الأزمة الاقتصادية في فترة الانتفاضة الثانية. هذه الرؤية النيوليبرالية المشتقة من مدرسة رونالد ريغان الأميركي ومرغريت تاتشر البريطانية، والتي "هاجرت" الى اسرائيل في إطار خطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد عام 1985 توجّه، منذ ذلك الحين، جميع حكومات إسرائيل، من اليمين واليسار على حد السواء. لكن لم تقم أية حكومة، إلى أن اندلعت الانتفاضة الثانية، باتخاذ خطوات مغالية مثل التي اتخذها رئيس الحكومة أريئيل شارون ووزير ماليته بنيامين نتنياهو. لقد بدا أن هذه الحكومة تصرفت وكأنها حظيت بفرصة تاريخية لتطبيق برنامج إيديولوجي كان ينتظر فقط نضوج الظرف. وزير المالية حينذاك، بنيامين نتنياهو، الرجل المؤتمن على ابتكارات إعلامية، منح هذا البرنامج الإيديولوجي عددا من التسميات سهلة التسرب الى آذان الرأي العام: مثلا اختلاق التناقض بين "الرجل النحيل" – القطاع التجاري وبين "الرجل السمين" – القطاع العام.

معظم منتقدي السياسة المالية يوجهون أسهمهم الى الإيديولوجية النيوليبرالية لدى الحكومة. ولكن ما يسري على أوروبا وشمال أميركا ليس صحيحا بالضرورة بالنسبة الى إسرائيل. فإسرائيل هي كما أسلفنا بين الدول "غير الطبيعية" المعرضة لهزات أمنية وسياسية متواترة.

ليست هناك وسيلة ولا تبرير لفصل تفسيرَي سياسة تقليص الدين، والمرتبط في حالتنا أيضاً بتقليص الصرف المدني في اسرائيل. والعامل الرئيسي لانعدام الاستقرار، الذي اختارت إسرائيل لمواجهته اعتماد سياسة الدين المنخفض، هو المقاومة الفلسطينية للسيطرة الإسرائيلية. بينما الوسيلة التي تختارها الحكومة لمواجهة انعدام الاستقرار هي الوسيلة النيوليبرالية المتمثلة بصرف منخفض من الميزانية.

المواطن يدفع أكثر

هل يوجد بديل لانعدام الاستقرار الأمني- السياسي؟ بالتأكيد – تسوية سياسية. وهذا غير متعلق طبعا بإسرائيل وحدها، لكن إسرائيل هي التي تحوز اليوم على معظم أوراق اللعبة.
هل كان هناك بديل غير نيوليبرالي؟ بالتأكيد. كان من الممكن عدم خفض الضرائب المباشرة، وهي خطوة نيوليبرالية حاسمة عادت بالفائدة خصوصاً على أصحاب المداخيل العالية. ولكن ربما يوجد لهذا أيضاً تفسير مرتبط بالصراع الاسرائيلي- الفلسطيني: لقد عبّر خفض الضرائب برأيي عن خشية قيادة الدولة من أنه على خلفية الصراع العنيف المتواصل، مستوى الضرائب الذي كان معمولا به حينذاك سيؤدي الى هرب "شعب الستارت- أب".

في جميع الأحوال، الخلاصة هي أن التمويل الحكومي للخدمات الاجتماعية، ولعدم كفايته، يضطر المواطنين الى دفع ثمن الخدمات التي يفترض أن يتلقوها مجاناً، من جيوبهم الخاصة. وبما أن كمية الأموال تختلف من جيب مواطن الى آخر، فإن الميزانية الحكومية الناقصة تعمق انعدام المساواة في المجتمع الاسرائيلي أكثر فأكثر، وهو اليوم أصلا من الأكثر ارتفاعاً في الدول الغربية.

على خلفية هذه الأمور، هناك سؤالان كان يفترض أن يمثلا نصب أعين أعضاء الكنيست عند مجيئهم لبحث مشروع ميزانية العام 2019:

الأول هو الذي صاغه بنك إسرائيل: هل يجب مواصلة التمسك بسياسة الصرف المدني المقلص، في ضوء حقيقة أن الدين العام بمستوى أكثر انخفاضاً من الهدف الذي حددته معاهدة ماستريخت عام 1992؟. جواب بنك إسرائيل: "علاقة الدين بالناتج في اسرائيل عام 2016 ليست بذلك المستوى الذي يتطلب تقليصاً للدين بشكل حاد".

السؤال الثاني هو: أليس الثمن الاجتماعي- الاقتصادي الناجم عن السيطرة على الأراضي الفلسطينية (أراضي 1967)، ثقيلا جداً؟ وهل نحن مستعدون لمواصلة سلب الاستقلال الفلسطيني بثمن الاستثمار المنخفض وغير الكافي في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي؟
___________________________________

(*) د. شلومو سبيرسكي هو المدير الأكاديمي لمركز أدفا- معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل. ترجمة خاصة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات