أكد تقرير معهد الأبحاث "أدفا" الإسرائيلي للقضايا الاجتماعية عن "عبء الصراع" الإسرائيلي الفلسطيني، أن ميزانيات الأمن على أنواعها سجلت في السنوات الـ 15 الأخيرة ارتفاعا بنسبة 43%، بينما الموازنة العامة في نفس الفترة ارتفعت بنسبة 33%، وكل هذا جاء على حساب الصرف على القضايا الاجتماعية ومكافحة الفقر وغيره.
وفنّد التقرير ادعاء قادة إسرائيل الحاليين بأن الصراع لم يعد مكلفا وأن الاقتصاد لا يتأثر به، فقد أظهر أن الخسائر للاقتصاد هي تراكمية، وليس على مستوى كل حرب على حدة.
وقد أعد التقرير الباحثان شلومو سبيرسكي ويارون هوفمان ديشون.
ويصدر هذا التقرير عادة مرّة كل عامين، وقد تأخر صدوره في العام الماضي، في الذكرى السنوية لعدوان حزيران، وصدر بعد العدوان على غزة في صيف 2014، ولكن بصيغة تركزت أكثر على ذلك العدوان. وأيضا هذا التقرير الجديد يركز على الانعكاسات اللاحقة لذلك العدوان.
كما يعرض التقرير مقارنات عديدة يظهر فيها بشكل جلي تأثر الاقتصاد الإسرائيلي بالصراع.
وكما في كل واحد من التقارير التي أصدرها المركز على مر السنين السابقة، فإنه يؤكد في مقدمته على أن "الثمن الأكبر للاحتلال يدفعه الفلسطينيون، فهم خاضعون لسيطرة عسكرية متغلغلة في كل مؤسسة وبيت لديهم، وهم منقسمون بين "دولة حماس" و"دولة فتح"، ويستصعبون بناء مؤسسات سياسية ثابتة تتمتع بشرعية الاجماع الفلسطيني، وهم يستصعبون دفع عملية التطور الاقتصادي، أما حياتهم اليومية فتعتمد على النوايا الحسنة للجهات المانحة".
ويتابع التقرير "أما على مستوى الأفراد والعائلات، فإن الفلسطينيين معرّضون لمصادرة الأراضي والممتلكات وللعنف والسجون والطرد والتنكيل والاهانات في بيوتهم وشوارعهم وعند الحواجز العسكرية، والكثير منهم محرومون من التعليم، ويعانون من نسب فقر عالية جدا وبطالة واسعة الانتشار، وفقدان الأمن الغذائي".
ويقول معدا التقرير إن الصراع القائم يتسبب بعدم استقرار اقتصادي، ويضرب نسب النمو الاقتصادي، ويُثقل على ميزانية إسرائيل، ويقوّض تطورها الاجتماعي واحتمالات تقليص الفجوات الاجتماعية، ويضع صعوبات أمام تحسن مستوى معيشة الجمهور العام، وليس هذا فحسب، بل إن استمرار الصراع يلطخ أحلام إسرائيل، ويمس بمكانتها العالمية، ويُتعب جيشها، ويقسّم حلبتها السياسية، ويهدد كيانها "كدولة الشعب اليهودي"، حسب تعبير التقرير.
يحذر التقرير من أن قادة إسرائيل يحاولون طيلة الوقت التقليل من شأن ثمن الصراع، ويرفضون الاعتراف بأن استمرار الصراع يضر بالصرف على الجوانب الاجتماعية، فمثلا وزير المالية الأسبق، ومن يتولى حاليا وزارة "التهديدات الاستراتيجية"، يوفال شتاينيتس، يقول إن إسرائيل "قادرة على تطوير اقتصادها أيضا من دون سلام". ويلفت التقرير إلى أن هذا الرأي بدأ ينتشر حتى في أوساط السلك المهني في المؤسسات الرسمية، مثل المهنيين في وزارة المالية، الذين سعوا للاقناع بأن العدوان على غزة في صيف 2014 لم يؤثر على ميزانيات القضايا الاجتماعية، وادعوا أن لا مشكلة لإسرائيل إذا بلغت نسبة العجز المالي في ميزانيتها 3% من حجم الناتج العام، وهو ما يعادل 5ر3 مليار دولار. ومثل هذا الرأي كان أيضا في بنك إسرائيل.
يشار هنا إلى أن هذا الرأي الذي بات سائدا في المؤسسات الرسمية، يخالف موقف محافظ بنك إسرائيل المركزي السابق ستانلي فيشر، الذي أنهى منصبه قبل عامين، إذ كان يؤكد أن وتيرة النمو الاقتصادي الإسرائيلي ستكون أعلى في ظل السلام.
ويفند تقرير "عبء الصراع" هذا الادعاء من خلال عرض نسب النمو الاقتصادي بالنسبة للفرد ويتضح منه أن التأثير الأبرز لكلفة الصراع نراه في مستوى النمو للفرد، ففي سنوات الانفراج سجل هذا النمو ارتفاعا حادا، وانخفض وتقلص في سنوات التوتر الأمني والحروب. ففي العام ألفين، ورغم أن ربعه الأخير شهد اندلاع العدوان على الضفة وقطاع غزة المحتلين، إلا أن النمو الاقتصادي للفرد ارتفع بنسبة 6%، بينما في سنوات العدوان الثلاث اللاحقة رأينا النمو يتراجع إلى ما دون صفر بالمئة، ما يعني أن السنوات الثلاث نسفت تقريبا النمو الكبير في العام ألفين.
وفي العام 2004 الذي شهد تراجعا حادا في وتيرة العدوان، ارتفع النمو للفرد 2ر3%، وبعد ذلك بات النمو بسبب تأثيرات اقتصادية أكثر منها عسكرية، ففي 2005 ارتفع هذا النمو بنسبة 5ر2%، وفي 2006 ارتفع بنسبة 9ر3% رغم الحربين على غزة ولبنان، وفي 2007 ارتفع بنسبة 4ر4%، وكان الارتفاع في العامين التاليين 2008 و2009 بنسبة 6ر1% و1ر0% على التوالي بفعل الأزمة الاقتصادية العامة، وارتفع النمو مجددا إلى 8ر3% في 2010، وبنسبة 3ر2% في 2011، وبنسبة 1ر1% في 2012، وبنسبة 3ر1% في 2013، وبنسبة 8ر0% في العام الماضي- 2014.
جوانب اقتصادية أخرى
يعرض التقرير جوانب عدة للاقتصاد الإسرائيلي، ويؤكد أن عدوان 2014 على غزة أدى إلى تأخير البحث في ميزانية العام 2015، التي جمدت لاحقا بسبب الانتخابات المبكرة، كما أن الصرف على العدوان منع تطبيق توصيات لجنة مكافحة الفقر الرسمية برئاسة من بات نائبا في الكنيست إيلي الألوف، فهذه اللجنة أوصت بصرف قرابة 8ر1 مليار دولار سنويا زيادة على ما يصرف على القضايا الاجتماعية.
كذلك فإن استمرار الصراع يضرب قطاع السياحة، فرغم أن هذه البلاد أرض مقدسة بالنسبة لما يزيد عن ثلثي العالم، إضافة إلى المعالم التاريخية فيها، إلا أن معدلات السياحة فيها هي من الأدنى في المنطقة، ففي العام 2013، دخل إلى إسرائيل 3 ملايين سائح، ولكن في المقابل نرى في ذات العام دخول ما يزيد عن 37 مليون سائح إلى تركيا، و2ر9 مليون سائح إلى مصر، و4 ملايين إلى الأردن، و3ر6 مليون إلى تونس، و10 ملايين إلى المغرب.
وتوقف التقرير عند تنامي ظاهرة المقاطعة العالمية لإسرائيل، ولفت النظر إلى تقرير جرى اعداده في وزارة المالية الإسرائيلية، وحذر من موجة الدعوات الأوروبية لمقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية، ومن أن اتساع المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل والمستوطنات مستقبلا قد يتسبب بخسائر تصل إلى مليارات الدولارات، وأن الضرر سيطال 30 بالمئة من الشركات الإسرائيلية ما سيؤدي إلى فصل آلاف العاملين (طالع تقريراً حوله على ص 8).
ميزانية الأمن
يؤكد التقرير أن حساب كل واحدة من الحروب التي تشنها إسرائيل على حدة قد لا تظهر خسائر كبيرة، لكن في احتساب تراكمي يتبين أن إسرائيل تخسر كل حقبة زمنية عشرات المليارات من الدولارات.
وشدد التقرير، كما في تقارير سابقة، على أن معدل النمو الاقتصادي السنوي في إسرائيل 3% ليس كافيا لإسرائيل، رغم أن هذه النسبة شبيهة بمعدلات النمو في الدول الأوروبية المتطورة، فإسرائيل بحاجة إلى ضعفي تلك النسبة لتلحق بعد عدة سنوات بمستوى المعيشة في تلك الدول المتطورة.
ويعرض التقرير مدى ارتفاع ميزانيتي وزارتي الدفاع التي تصرف على الجيش، و"الأمن الداخلي" التي تتولى الصرف على الشرطة وما يسمى بـ "حرس الحدود"، منذ العام 2000 وحتى العام الماضي 2014. وتعامل التقرير مع كل واحدة من ميزانيتي الوزارتين، إلا أنه خلال السنوات الماضية جرى نقل بنود من ميزانية إلى أخرى، لذا فإن المقارنة تستوجب التعامل مع الميزانيتين معا، خاصة وأن قوات "حرس الحدود" هي المنتشرة أساسا في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس المحتلة.
ففي العام ألفين كانت ميزانية وزارة "الأمن الداخلي" في حدود 7 مليارات شيكل، تعادل بسعر الدولار اليوم 84ر1 مليار دولار، بينما بلغ الصرف الفعلي على ميزانية وزارة الدفاع في ذلك العام 48 مليار شيكل، ما يعادل اليوم 6ر12 مليار دولار، وهذا لا يشمل الدعم العسكري الأميركي حتى ذلك العام بنحو 4ر2 مليار دولار. وهذا يعني أن الصرف على الوزارتين في العام 2000 بلغ 2ر14مليار دولار من دون الدعم. ونشير أيضا إلى أن الصرف على ميزانية وزارة الدفاع في ذلك العام كان أقل من الميزانية الأساس المقررة، ما يعني ان الانفراج الذي ساد طوال السنة، باستثناء الربع الأخير منه، قاد إلى فائض في ميزانية الجيش.
لكن في العام 2014، بلغت ميزانية الجيش 64 مليار شيكل، ما يعادل قرابة 17 مليار دولار، من دون الدعم العسكري الأميركي، الذي ارتفع إلى 2ر3 مليار دولار. وبلغ حجم ميزانية وزارة الأمن الداخلي 2ر13 مليار شيكل، قرابة 5ر3 مليار دولار، ومعا أكثر بقليل من 20 مليار دولار، من دون الدعم الأميركي. وهذا يعني أن هاتين الميزانيتين ارتفعتا معا بنسبة 43%، في حين أن الموازنة العامة ارتفعت خلال تلك المدة بنسبة 33%.
وكان تقرير لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي صدر قبل خمسة أشهر، قد بيّن أن ميزانية الجيش المباشرة تشكل نسبة 6ر5% من الناتج العام الخام، وهي النسبة الأعلى في العالم، كما أنها الأعلى من حيث عدد السكان. ويقول التقرير ذاته إن اجمالي الصرف العام على الجيش، يبقى أعلى بـ 21% إلى 25% من الميزانية المعلنة، بسبب الصرف غير المباشر على جنود الجيش النظامي، وصرف من الخزينة العامة، عبر مؤسسة الضمان الاجتماعي الرسمية، على جنود الاحتياط، لدى خدمتهم الاحتياطية، اضافة إلى ملء مخازن الطوارئ وبناء الملاجئ، ما يرفع نسبة الصرف إلى ما نسبته حوالي 7% من الناتج العام الخام.
كما أن إسرائيل تسجل الميزانية الأعلى على مستوى الفرد، إذ يظهر من تقرير مكتب الإحصاء أنها تصرف على الجيش ما معدله 2037 دولارا للفرد، تليها الولايات المتحدة الأميركية- 2023 دولارا للفرد بالمعدل. ويعترف التقرير بأن ميزانية الجيش لا تعني كل الصرف على "ملف الأمن"، ولا حتى الصرف غير المباشر على الجيش.
ويقول إن ميزانية الجيش أو "ميزانية الأمن" حسب التعبير الرسمي، سجلت في العام قبل الماضي 2013 زيادة بنسبة 7ر4%، ولكنها بقيت تشكل نسبة 6ر5% من الناتج العام الخام، كما هي حال العام الماضي 2014، وهذه تعد النسبة الأعلى في العالم، تليها الولايات المتحدة الأميركية التي تشكل فيها ميزانية الجيش المباشرة، 8ر3% من الناتج العام الخام.
يذكر أنه وفق سلسلة من الأبحاث التي صدرت على مر السنين، فإن إجمالي الصرف على الأمن والجيش والاحتلال والاستيطان يستنزف ما يزيد عن 33% من الموازنة العامة، وهذا من دون احتساب قسم من الديون العامة التي صرّفت على السياسة ذاتها، وكل ذلك يرفع نسبة الصرف إلى ما بين 13% وحتى 14% من الناتج العام.