المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

منذ أن غنّت ثلاثية "جسر اليركون" لعمال البناء الذين يصفّرون من أعلى السُلّم، لم يعد هناك تصفير، ولا عمال بناء يهود. فاليوم، كل مقاول بناء في إسرائيل يؤكد أنه يرغب في تشغيل إسرائيليين لديه، تقريبا بأي ثمن، ولكن الإسرائيليين ببساطة ليسوا على استعداد لتوسيخ أيديهم في عمل صعب، ولذا حُكم على المقاولين بأن يشغلوا عمالا صينيين فقط.

في كثير من الأحيان يكرر المقاولون تلك المقولة التي لا يشكك بها أحد، رغم أنه كان من المفترض أن تثير الشكوك: فالإسرائيليون باتوا يعملون في جمع النفايات، وتدعي الشائعات أن عائلات الاجرام تسيطر على قطع النفايات، ولا تسمح لأي شخص أن يدخل اليه. ما يعني أنه من الممكن جمع النفايات، ولكن من غير الممكن العمل في التبليط؟.

وتبين من فحص أجراه بنك إسرائيل في العام 2012، أنه منذ العام 2000 إلى العام 2012، خرج من قطاع البناء حوالي 42 ألف عامل فلسطيني وأجنبي، بسبب السياسة الحكومية والانتفاضة. وحلّ محلهم حوالي 40 ألف عامل إسرائيلي، 30 ألفا منهم هم عرب إسرائيليون. وما هو أكثر إثارة، أن ثلث العمال الـ 40 ألفا، جرى استيعابهم في الأعمال الصعبة (أعمال اسمنتية وقصارة وتبليط وما شابه)، وهذا بخلاف كلي لادعاء المقاولين بأن الإسرائيليين ليسوا على استعداد للعمل في مثل هذه الأعمال، التي هي قاسية ومتعبة جسديا، اضافة إلى أنها تتسبب بالأوساخ.

بمعنى أن المعطيات تدل على أنه بالإمكان استيعاب إسرائيليين في قطاع البناء، حتى وإن كان هذا ليس بسهولة، ومن الواضح جدا أن الإسرائيليين لا يستعجلون فعل هذا، ولا العمال العرب من إسرائيل أيضا، ومن الواضح أيضا ما هو السبب. ليس لأن العمل موسخ وقاس، ويخلق انطباعا اجتماعيا متدنيا، فكل هذا بالإمكان نسبه لعمال جمع النفايات، وإنما بالأساس لأن الحديث يجري عن عمل موسخ وقاس، ويسيطر عليه عمال أجانب، ولذا فإن الرواتب متدنية. وهي رواتب متدنية أقل بكثير مما هو مطلوب دفعه مقابل عمل جسدي صعب، ويحتاج إلى أيدٍ مهنية، ما يعني أن الراتب في هذه الأعمال يجب أن يكون أعلى من معدل الرواتب العام. في الأيام التي كان فيها عمال البناء يصفّرون للصبايا من أعلى السلم، كان معدل الراتب في قطاع البناء أعلى من معدل الرواتب العام.

أجرت لجنة تشغيل العمال الفلسطينيين في إسرائيل، برئاسة البروفسور تسفي اكشتاين، في العام 2011 تحليلا لتأثير تشغيل عمال أجانب في قطاع البناء. وبيّن التحليل بشكل واضح الخط الفاصل في قطاع البناء في إسرائيل: 1967 وحرب الايام الستة، التي في أعقابها تحول قطاع البناء إلى قطاع يميل إلى العمال الفلسطينيين، ولاحقا الصينيين. وكل معطيات قطاع البناء قبل وبعد العام 1967 مختلفة في الجوهر.

هكذا مثلا، قبل العام 1967، تميّز قطاع البناء بعدد قليل من العمال نسبيا، مع راتب عال، واستثمارات مالية كبيرة. ومنذ العام 1967، سجل عدد عمال البناء ارتفاعا حادا، في أعقاب اغراقه بالعمال الفلسطينيين ذوي الرواتب المتدنية، ولاحقا كانت رواتب العمال الأجانب متدنية أكثر، ودخل قطاع البناء مرحلة جمود في الاستثمارات. فنسبة الاستثمارات المالية في قطاع البناء، في سنوات الستين، كانت أعلى من معدل الاستثمارات في قطاعات الاقتصاد الأخرى، ولكنها اليوم باتت أقل من معدل الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية. وعمليا فإن قطاع البناء في إسرائيل هو اليوم قطاع مع الكثير من العمال، وقليل بالاستثمارات المالية والتكنولوجية، وهذا ما يقود قطاع البناء ليتميز بمعدل انتاجية أقل.

ونرى أن انتاجية العامل بقيت على مستواها على مدار 40 عاما، بينما الانتاجية في باقي القطاعات التي فيها استثمارات أعلى، تتطور باستمرار، وهذا ما أبقى قطاع البناء متخلفا. من قطاع متقدم في الاقتصاد، من حيث الانتاجية ومعدل الرواتب فيه، إلى قطاع متخلف عن معدلات القطاعات الاقتصادية، بمعدلات الرواتب والانتاجية. فمثلا إذا كان في مطلع سنوات الستين من القرن الماضي، قد ربح العامل راتبا أعلى بنسبة 5 بالمئة من معدل الرواتب العام، فإن معدل رواتب قطاع البناء اليوم هو 85% من معدل الرواتب العام، رغم صعوبة العمل.

وتفسر هذه المعطيات، بطبيعة الحال، لماذا لم يعد في قطاع البناء عمال يهود، ولا عرب إسرائيليون ايضا، لأنهم لا يستعجلون للعمل في هذا القطاع براتب متدن، بينما بإمكانهم الحصول على رواتب أعلى في مهن لا تتطلب مؤهلات عملية، وأمام واقع كهذا، لماذا عليهم التوجه إلى قطاع البناء؟. إن تفسير تدهور معدل الرواتب هو إغراق قطاع البناء بالعمال الأجانب ذوي الرواتب المتدنية، بداية العمال الفلسطينيين، ولاحقا الرومانيين والصينيين، ما جعل قطاع البناء يعتمد على الأيدي العاملة الرخيصة، ولهذا لم تعد حاجة لاكتساب مهنية وتطوير تكنولوجي.

تحليل اللجنة التي فحصت مسألة تشغيل العمال الفلسطينيين، بيّن أن قطاع البناء مختلف ليس فقط مقارنة بباقي القطاعات الاقتصادية في إسرائيل، وإنما أيضا مقارنة بقطاع البناء في الدول المتطورة الأخرى. ففي كل العالم تطورت التكنولوجيا في هذا القطاع، على مدى السنوات الخمسين الأخيرة، الأمر الذي ساهم في زيادة انتاجية العمل، وارتفاع معدلات الرواتب فيه. وعمليا فإنه في جميع الدول المتطورة يحظى قطاع البناء باستثمارات كبيرة جدا، وهو القطاع الذي يدفع أعلى الرواتب لشريحة العمال غير المتعلمة. وفقط في إسرائيل الوضع مقلوب، ما يجعل معدل رواتب البناء في إسرائيل في المرتبة قبل الأخيرة من بين الدول المتطورة.

إن سقوط قطاع البناء تحت سيطرة العمال الأجانب، والأيدي العاملة الرخيصة، لم يمنع تطوره فحسب، بل أيضا دهور مستوى انتاجيته، وبالتالي رواتبه، ومن الممكن أن كل هذه الأسباب انعكست على ارتفاع أسعار البيوت في إسرائيل.

ويظهر من التحليل السابق ذكره، أن استبدال العمال الأجانب بعمال إسرائيليين، سيؤدي إلى ارتفاع الرواتب بنسبة 20%، ما قد يرفع أسعار البيوت بنسبة 5ر3%، إلا أن هذه الفرضية الاشكالية، تكون في حالة أن المتغير الوحيد هو استبدال العمال الأجانب بإسرائيليين، إلا أن هذا الاستبدال قد يقود إلى نجاعة وتصنيع أكبر وتطوير تكنولوجي في قطاع البناء. وهذه التطورات من شأنها أن تمتص جزءا كبيرا من تأثير زيادة كلفة العمل، وحتى أن تحقق نتيجة عكسية، بمعنى تخفيض أسعار البيوت.

الشهادة البارزة على هذا هي استمرار مدة بناء البيت في إسرائيل، فمنذ العام 1980 بقيت مدة بناء البيوت على حالها دون أي تغيير، وحتى أنها اليوم أعلى بقليل مما كانت عليه في سنوات الثمانين، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن البيوت اليوم مجهّزة بشكل أكبر من ذي قبل. ولكن ليس مفهوما كيف أنه على مدى ثلاثة عقود من التطور التكنولوجي، ما زال بناء البيت في إسرائيل يحتاج إلى 23 شهرا. وتفسير هذا أن التطور التكنولوجي لم يصل إلى قطاع البناء.

ولهذا يخطئ وزير المالية موشيه كحلون خطأ فادحا، إذا سمح للمقاولين باستقدام 20 ألف عامل أجنبي لقطاع البناء، من أجل تقليص فترة بناء البيت، وتخفيض كلفة البناء. بل عليه أن يفعل بالضبط عكس ما يدعو له، وأن يفطم قطاع البناء من الإدمان على العمال الأجانب. فكفى للصينيين، ونعم للتصنيع والعمال الإسرائيليين المهنيين.

(عن الملحق الاقتصادي "ذي ماركر"، "هآرتس")

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات