عشرات جنود وضباط وحدة نخبة استخباراتية: نرفض الاستمرار في تشكيل أداة لقمع الفلسطينيين وتكريس الاحتلال العسكري
الرسالة التي كشف النقاب عنها في إسرائيل هذا الأسبوع ليست كباقي الرسائل، لا من حيث مضمونها ولا من حيث واضعيها والموقعين عليها ولا من حيث وقعها وتأثيرها، ولذلك كانت الأصداء وردود الفعل عليها أيضا غير عادية، بل استثنائية، سواء على صعيد المحاولات السلطوية الرسمية، السياسية والعسكرية، "إسكاتها"، أو على صعيد تأكيد مدى جديتها وعمق إسقاطاتها المستقبلية المحتملة.
وليس من المبالغة في شيء، بالتأكيد، تناول هذه الرسالة ومحاولة تلمس مفاعيلها من باب كونها غير مسبوقة على الإطلاق. فهي صادرة عن مجموعة تعدّ العشرات (43 بالتحديد) من جنود وضباط الاحتياط في "الوحدة 8200"، التي تعتبر "درة التاج" في سلاح الاستخبارات الإسرائيلي ("شعبة الاستخبارات العسكرية" ـ "أمان")، إحدى وحدات النخبة الأهمّ والأبرز في الجيش الإسرائيلي، فضلا عن كونها الوحدة الأكبر من بين جميع وحدات الجيش الإسرائيلي وتشكيلاته العسكرية المختلفة، ليس فقط من حيث عدد الجنود والضباط فيها بل ومن حيث الموارد والإمكانات المرصودة لها والموضوعة تحت تصرفها. والرسالة هذه هي الأولى من نوعها منذ تشكيل هذه الوحدة وتأسيسها، منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل، حسبما يفيد التاريخ العسكري الإسرائيلي.
و"الوحدة 8200" (يُلفظ الاسم: ثمانية مئتان) هي وحدة جمع المعلومات الاستخباراتية في المجال المسمى باللغة المهنية "استخبارات الإشارات" وفك الرموز والرواميز (الشيفرات) وهي تُعرف، في وسائل الإعلام والمنشورات العسكرية، بأنها "الوحدة المركزية لجمع المعلومات" بما يشمل: المكالمات الهاتفية، الرسائل النصيّة القصيرة، الفاكسات وما إلى ذلك من طرق الاتصال هذه. وهذا الاسم هو الرابع الذي تحمله هذه الوحدة منذ تأسيسها، وقد أطلق عليها في تشرين الأول من العام 1973ـ وكان هذا (8200) رقم بريدها العسكري آنذاك ـ بعد وقوع أحد ضباطها، يدعى عاموس ليفنبيرغ، سوية مع 13 آخرين من زملائه في الوحدة، أسرى في أيدي الجيش السوري خلال حرب تشرين الأول 1973، وقيل لاحقا إنه زوّد آسريه بمعلومات سرية كثيرة وخطيرة عن الجيش الإسرائيلي. أما الأسماء الثلاثة السابقة التي كانت تحملها الوحدة فهي: "ش.م.2" (شيروت موديعين 2 / خدمات استخباراتية 2)، ثم "الوحدة 515" (خمسة ورُبع)، ثم " الوحدة 848" (ثمانية أربعة ثمانية).
وتسيطر هذه الوحدة، حسب المعلومات المنشورة في وسائل الإعلام، على عدد من القواعد العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي وتتحمل المسؤولية العسكرية المباشرة عنها، تعمل جميعها في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية، أشهرها القاعدة التابعة لها في "موقع حرمون" (جبل الشيخ) بينما تقع قاعدتها المركزية في "منطقة غليلوت" في مدينة رمات هشارون في وسط إسرائيل.
وتشتهر هذه الوحدة، أيضا، علاوة على كل ما ذكر وأشياء أخرى عديدة، بأنها تستخدم أحدث التقنيات في مجال الاتصالات وهذا ما يجعل خريجيها يحتلون المواقع المتقدمة في صدارة صناعات "الهاي تك" في إسرائيل ودول أخرى من العالم.
"لن نبقى أداة لتكريس الاحتلال"!
وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" وموقعها على الشبكة قد كشفا عن هذه الرسالة يوم الجمعة الأخير، يوم تسليمها إلى الجهات الرسمية المعنية بها، بينما هي مؤرخة في اليوم السابق ـ الخميس.
ويؤكد الجنود والضباط الموقعون على هذه الرسالة (43 جنديا وضابطا) قرارهم رفض "المشاركة في عمليات ضد الفلسطينيين" من خلال الخدمة مستقبلا في هذه الوحدة، وذلك لأسباب ضميرية نظرا لأنهم "يرفضون الاستمرار في تشكيل أداة لمواصلة وتعميق الحكم العسكري في المناطق (الفلسطينية) المحتلة"، خاصة وأنهم قد أدركوا، من خلال خدمتهم العسكرية، أن "الاستخبارات تشكل جزءا لا يتجزأ من منظومة السيطرة العسكرية على المناطق" (طالع ترجمة النص الكامل للرسالة في مكان آخر هنا).
وإلى جانب نص الرسالة نفسها، نشرت "يديعوت أحرونوت" تصريحات وإفادات بعض الجنود الموقعين على هذه الرسالة، من بينهم (ن)، الذي أدى خدمته العسكرية في إحدى القواعد العسكرية التابعة لهذه الوحدة وكان مسؤولا عن "الساحة الفلسطينية"، إذ قال: "كجندي في الوحدة 8200، شاركت في جمع معلومات عن أشخاص متهمين بالمس بإسرائيليين، بمحاولات المس بإسرائيليين وبالرغبة في المس بإسرائيليين، فضلا عن جمع معلومات عن أشخاص أبرياء تماما لا ذنب لهم سوى أنهم يثيرون اهتمام الأجهزة الأمنية لأسباب مختلفة، لا سبيل لديهم لمعرفتها". ويضيف (ن): "كل إنسان فلسطيني معرّض للمراقبة الدائمة، غير المنقطعة، من دون أية حماية قانونية / قضائية.... جنود ثانويون جدا يمكنهم أن يقرروا تحديد شخص ما هدفا لجمع المعلومات. ليست هناك أنظمة لفحص ما إذا كان المس بحقوق الإنسان الفلسطيني مبررا أم لا... ففكرة أن للفلسطينيين حقوقا غير موجودة، على الإطلاق".
أما (ش)، وهو الضابط الأعلى رتبة بين الموقعين على الرسالة ـ حسبما تقول الصحيفة ـ فيقول إن "الانطباع العام هو أن هناك عددا كبيرا جدا من المؤيدين لنا والمتضامنين معنا، لكنهم يخشون ردود الفعل والأثمان الشخصية التي قد يدفعونها جراء التوقيع على هذه الرسالة. وهذا، فضلا عن الخوف من إسقاطات التوقيع على فرص العمل في المستقبل، ناهيك عن احتمال فقدان القدرة على التأثير على الجهاز من الداخل أو على أشخاص يتبوأون مناصب عليا في القطاع العام".
وقال "دانيئيل"، أحد الضباط الموقعين على الرسالة، في تصريح لصحيفة "هآرتس"، إن عملية إعداد هذه الرسالة وجمع التواقيع عليها استغرقت نحو سنة كاملة، بعد أن بدأت بمجموعة صغيرة من أشخاص كانوا يعرفون بعضهم بعضا من خلال الخدمة المشتركة في هذه الوحدة. وتابع: "كانت هناك تخوفات من ردود فعل الناس والزملاء في الوحدة. لكننا نشعر بمسؤولية كبيرة وبضرورة مستعجلة لتحرك ما". وأضاف: "أشعر بالضيق من ناحية ضميرية حيال مواصلة تأدية الخدمة العسكرية في إطار هذه الوحدة. وبدلا من مواجهة المعضلات والإسقاطات، قررت التهرب"، في إشارة إلى لجوئه إلى "الرفض الرمادي" خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ويؤكد: "هذه الخطوة التي أقدمنا عليها الآن ـ الرسالة ـ جاءت لأننا نشعر بأن التهرب ممنوع وبأن علينا تحمل المسؤولية. فقد خدمت هناك سبع سنوات. كنت مؤمنا بما فعلت. ولهذه الأسباب كلها، أشعر بأنني ملزم بتحمل المسؤولية الآن والتوقف عن المشاركة في تكريس دائرة العنف".
جنود في الوحدة: نخجل بكم!
لم يتأخر الرد على رسالة الجنود والضباط غير المسبوقة هذه، فجاء على الفور بتصريحات أدلى بها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، موشيه يعلون، والناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي، العميد موتي ألموز، وآخرون غيرهم أيضا، أجمعوا جميعا على التقليل من شأن الرسالة ومن أهمية الموقعين عليها معتبرينهم "أصواتا هامشية" ليس في وسعها التأثير على مئات الجنود والضباط الذين يخدمون في هذه الوحدة أو النيل من وحدتها وتماسكها وقوتها.
وبرز، من بين الردود، بشكل خاص، الرسالة المضادة التي وجهها نحو 200 شخص، جنودا وضباطا (في الاحتياط)، من خريجي هذه الوحدة، يوم الأحد الأخير، إلى كل من رئيس الحكومة، نتنياهو، ورئيس أركان الجيش، بيني غانتس، وغيرهما يعربون فيها عن رفضهم لرسالة الرافضين، بل "صدمتهم، اشمئزازهم وتنصلهم من هذه الرسالة وخجلهم الشديد بالموقعين عليها".
ويؤكد هؤلاء في رسالتهم رفضهم القاطع لأي رفض لتأدية الخدمة العسكرية، بشكل عام، وفي هذه الوحدة تحديدا، بشكل خاص، معلنين أنهم "سيواصلون المثول لتأدية الخدمة الاحتياطية، متى استدعت الحاجة ذلك". ثم "نفى" أصحاب هذه الرسالة أن تكون هناك "ممارسات غير أخلاقية تنفذها الوحدة 8200"، كما أكد الرافضون في رسالتهم.
وقال (ل)، أحد الموقعين على رسالة الرد والتنصل هذه، في تصريحات لصحيفة "يديعوت أحرونوت" إن الخطوة التي أقدم عليها الرافضون "خطيرة جدا"، مضيفا أنهم "فقدوا جادة الصواب، إذ أرادوا إبلاغ العالم كله بما يجري في داخل وحدة سرية جدا، طمعاً ببعض الربح السياسي، لا بغية الإصلاح".
ورداً على الرسالة المضادة هذه، عاد الرافضون إلى تأكيد موقفهم موضحين أن "قرار الرفض وإصدار رسالة علنية جاء بعد مخاض طويل وقاسٍ... بعضنا طرح القضايا الواردة في الرسالة أمام القادة العسكريين المسؤولين في الوحدة وحاولنا طرح الأسئلة، لكننا قوبلنا بالصمت، للأسف الشديد... نحن لا ننكر دور الوحدة 8200 الهام في المحافظة على أمن مواطني إسرائيل، لكن السنوات الطويلة التي قضيناها في هذه الوحدة أثبتت لنا، بصورة حازمة لا شك فيها، أن مهمات هذه الوحدة وممارساتها في المناطق (الفلسطينية) تجاوزت ضرورات الدفاع عن النفس... ونحن لا نقصد بهذا مهمات عينية محددة، بل تعريف مهمات الوحدة بصورة جذرية، أساسية وشاملة. فالأعمال التي تقوم بها الوحدة في الساحة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من منظومة السيطرة العسكرية على الفلسطينيين، تمس بالأبرياء وتبعد فرصة إنهاء النزاع "!
وأوضح هؤلاء أنهم أرادوا الكشف عن أسمائهم وتفاصيلهم كلها لكن المسؤولين عن "الأمن الميداني" في الأجهزة الأمنية منعوهم من ذلك، رغم أن أسماءهم الحقيقية الكاملة بقيت مثبتة على الرسالة، التي وجهت إلى عناوين عديدة ومختلفة.
الترجمة الحرفية الكاملة لرسالة
ضباط وجنود الوحدة 8200
الاستخبارات تشكل جزءاً لا يتجزأ من السيطرة العسكرية على المناطق المحتلة!
التاريخ: 11/9/2014
إلى:
رئيس الحكومة، السيد بنيامين نتنياهو،
رئيس هيئة أركان الجيش، الجنرال بيني غانتس،
رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان")، اللواء أفيف كوخافي،
قائد الوحدة 8200
السادة المحترمين،
نحن الموقعين أدناه، خريجو الوحدة 8200، جنود وجنديات في الاحتياط، سابقا وحاضرا، نعلن أننا نرفض المشاركة في عمليات ضد الفلسطينيين ونرفض الاستمرار في تشكيل أداة لمواصلة وتعميق الحكم العسكري في المناطق المحتلة.
ثمة اعتقاد بأن الخدمة في سلاح الاستخبارات لا تنطوي على معضلات أخلاقية وبأنها تُسهم، فقط، في تقليص أعمال العنف والمسّ بالأبرياء. لكننا أدركنا، خلال الخدمة العسكرية، أن الاستخبارات تشكل جزءاً لا يتجزأ من السيطرة العسكرية على المناطق. السكان الفلسطينيون، الرازحون تحت حكم عسكري، معرضون على الدوام لأعمال التجسس والمراقبة من جانب الاستخبارات الإسرائيلية. وخلافا لوضع المواطنين الإسرائيليين أو مواطني الدول الأخرى، فليس ثمة رقابة على أساليب وطرق جمع المعلومات، المراقبة واستخدام المعلومات الاستخباراتية بكل ما يخص الفلسطينيين، سواء كانوا طرفا في أعمال عنف أم لا. فالمعلومات التي يتم جمعها وتخزينها تنطوي على مسّ بالأبرياء وتُستَخدَم لأغراض الملاحقة السياسية ولزرع الفرقة والشقاق في المجتمع الفلسطيني، من خلال تجنيد متعاونين واستعداء قطاعات من المجتمع الفلسطيني ضده. وتمنع الاستخبارات، في العديد من الحالات، إجراء محاكمات عادلة لمتهمين تتم محاكمتهم في المحاكم العسكرية من دون تمكينهم من الاطلاع على الأدلة ضدهم. وتسهّل الاستخبارات مواصلة السيطرة على ملايين من البشر، مراقبتهم بصورة معمقة ولصيقة، واختراق حياتهم في معظم المجالات. وهذه كلها لا تتيح حياة طبيعية، بل تحول دونها، تغذي المزيد من أعمال العنف وتُبعِد نهاية النزاع.
ملايين الفلسطينيين يعيشون تحت الحكم العسكري الإسرائيلي منذ ما يزيد عن 47 عاما. هذا الحكم يسلبهم حقوقا أساسية ويصادر منهم مساحات واسعة من الأراضي لكي يستوطن عليها يهود يخضعون لمنظومة مستقلة ومختلفة من القوانين، القضاء وتطبيق القوانين. وهذا الواقع ليس نتيجة حتمية لا مناص منها لمساعٍ تبذلها الدولة لحماية نفسها، بل هو نتيجة اختيارية. فليست ثمة أية علاقة بين توسيع المستوطنات وبين الدفاع عن النفس. وهذا صحيح وينطبق أيضا على القيود التي تُفرض في مجال البناء والتطوير، على الاستغلال الاقتصادي لأراضي الضفة، على العقوبات الجماعية التي تمارَس بحق سكان قطاع غزة وعلى مسار جدار الفصل.
وفي ضوء ما تقدم، توصلنا إلى الاستنتاج بأننا نتحمل، نحن أيضا، بصفتنا ممن خدموا في الوحدة 8200، مسؤولية عن الوضع الناشئ وعلينا واجب التحرك. لم نعد قادرين ومؤهلين، من وجهة ضميرية، للاستمرار في خدمة هذا الجهاز من خلال المسّ بحقوق ملايين من بني البشر. وعليه، فإن أولئك من بيننا الذين لا يزالون يؤدون الخدمة الاحتياطية يعلنون بأنهم سوف يرفضون المشاركة في عمليات موجهة ضد الفلسطينيين. وندعو جنود سلاح الاستخبارات، الحاليين والمستقبليين، ومواطني دولة إسرائيل عموما، إلى رفع صوتهم ضد أعمال الظلم والتنكيل هذه والتحرك من أجل وضع حد لها. ونحن نؤمن بأن مستقبل دولة إسرائيل أيضا مرهون بهذا.
المصطلحات المستخدمة:
موديعين, يديعوت أحرونوت, هآرتس, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, موشيه يعلون