المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حان الوقت لإجراء مراجعة لسلوك معسكر الوسط - اليسار إزاء انهيار العملية السياسية

ورقة موقف صادرة عن "مركز مولاد من أجل تجدّد الديمقراطية في إسرائيل"

قبل قرابة العام وفي إثر استئناف المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني نشر "مركز مولاد من أجل تجدّد الديمقراطية في إسرائيل" وثيقة (ورقة موقف") تعلل لماذا يتعين على معسكر "اليسار" معارضة المفاوضات.

وقد سعت الوثيقة إلى إيضاح كيف يمكن لمفاوضات سياسية أن تتحول بسهولة من طريقة للتوصل إلى تسوية سياسية، إلى وسيلة ناجعة جداً في أيدي جهات مستهترة تسعى إلى تكريس الوضع القائم. وأكدت أن المفاوضات التي لا تجري بحسن نية تلحق ضرراً أكبر بكثير من مفاوضات لا تجري نهائيا.

وأضافت: على ما يبدو يخيل لنا الآن، وقد لفظت المفاوضات نفسها الأخير، أن الوقت قد حان لإجراء مراجعة وإعادة التفكير حول السلوك السياسي لمعسكر "الوسط - اليسار"، الموجود داخل الحكومة وخارجها، في مواجهة اليمين الإسرائيلي.

مخاطر فشل المفاوضات

إلحاق ضرر بمصالح إسرائيل

ويمكن أن يتجلى ذلك في الجوانب التالية:

المس بالعلاقة الإستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. لقد أدت وساطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري في جولة المحادثات الأخيرة، إلى جعل التدخل الأميركي في المنطقة يصل إلى ذروة غير مسبوقة طوال العقد الماضي. صحيح أن الجهود التي يبذلها الوزير كيري تستحق التقدير والاحترام، غير أنها تضع الولايات المتحدة بصورة حتمية كطرف حقيقي في المفاوضات، وبالتالي فقد باتت هيبتها ومصالحها على المحك. ولعل الاقتراح غير المسبوق باطلاق سراح (الجاسوس) جونثان بولارد يشكل شهادة حاسمة على عمق التدخل الأميركي في العملية السياسية .

من هنا فإن انهيار هذه العملية، بينما يدرك الأميركيون جيداً بأن (رئيس الحكومة الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو يتحمل أيضا مسؤولية ما آلت إليه الأمور، يلحق ضررا شديداً بمصالح إسرائيل في مقابل حليفتها الأكثر أهمية. ومن الجدير بالملاحظة أن ذلك يشكل فقط معزوفة النهاية الناشزة في عملية كانت حافلة بتزييفات وأكاذيب لا حصر لها، بدءا من المواجهة العلنية، التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، بين وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون وبين وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وانتهاء بعطاءات البناء (الاستيطاني) الاستفزازية في الضفة الغربية.

بطبيعة الحال، ستبقى الولايات المتحدة شريكا استراتيجيا مهما لإسرائيل- كدولة ديمقراطية مستقرة في منطقة حافلة بالتقلبات- غير أن أزمة العام الأخير، بدأت تلقي بظلالها السلبية على العلاقات بين الدولتين، وهو ما وجد تعبيرا له في تصريحات شديدة اللهجة أدلى بها العديد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الأميركيين تجاه صديقة واشنطن في الشرق الأوسط. إن من المهم في هذا السياق إدراك أن تصدع الثقة بين الطرفين يمكن أن يؤثر سلبا أيضا على التنسيق الإسرائيلي- الأميركي في مواضيع إستراتجية أخرى، مثل التصدي المشترك للمشروع النووي الإيراني.

المس بالعلاقات الإسرائيلية- الأوروبية

كشفت جولة المفاوضات الأخيرة عن ظاهرة جديدة مثيرة للقلق، وهي تصاعد حملات المقاطعة ضد إسرائيل، ولا سيما من جانب دول وشريكات تجاريات مهمات، وذلك في أوج المفاوضات. وينبع هذا الأمر من حقيقة أن حليفات إسرائيل في أوروبا فقدت الثقة في صدق نوايا الحكومة الإسرائيلية بشأن التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع.

والجدير بالذكر هنا أن مكافآت وامتيازات مختلفة قد انهالت على إسرائيل فيما مضى أثناء المفاوضات، بغية حثها على التوصل إلى تسوية، أما الآن فإن الوضع مختلف بصورة جوهرية.

وقد شهدنا في بداية العام الجاري موجة من العقوبات الجديدة التي وجهت بصورة مركزة ضد المستوطنات. جنبا إلى جنب فقد اشترطت للمرة الأولى وعلى نحو قاطع، المكافآت والمنافع التي تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديمها إلى إسرائيل، بإحراز تقدم في المفاوضات وليس بوجود مثل هذه المفاوضات وحسب. ومما لا شك فيه أن انهيار المحادثات، الذي ينظر إليه في أوروبا على أنه نتيجة للتعنت الإسرائيلي، سيقود بالتأكيد إلى تصاعد هذا الاتجاه (المقاطعة).

تدهور العلاقات مع الفلسطينيين وتقوية المتطرفين

تولد المفاوضات بطبيعتها توقعات وآمال لدى الجانبين. فالشروع في عملية سياسية فقط بهدف تقويضها وتصفيتها فيما بعد، يؤدي بالضرورة إلى إضعاف القوى المعتدلة وإلى تعزيز قوة المتطرفين، وربما حتى إلى اندلاع دوامة العنف مجدداً.

إن ما ينبغي له أن يقض مضاجع الزعامة الإسرائيلية ليس توجه الجانب الفلسطيني إلى مؤسسات الأمم المتحدة ، وإنما التخلي عن فكرة الدولتين من جانب الجيل الشاب في صفوف الفلسطينيين، ولا يعني ذلك أن إقامة دولة واحدة أصبحت واقعية أكثر، وإنما يعني ذلك أن دفع حل الدولتين أضحى أكثر صعوبة.

عقبات جديدة وضرر لأي مفاوضات مستقبلية

خلافا للفهم المألوف والمنطقي، نجد أن كل جولة مفاوضات تباعد بين الطرفين ولا تؤدي إلى إحراز تقارب بينهما، ذلك لأن كل جولة تقود إلى اختلاق مطالب جديدة وشروط جديدة. ووفقا لما تدل عليه تجربة الماضي فإن هذه الشروط، التي طرحت للمرة الأولى في جولة المفاوضات الأخيرة، ستغدو بديهية في نطاق أي محادثات مستقبلية، حتى وإن لم يفهم أحد ما هي الحاجة إليها ومن أين أتت. لنأخذ على سبيل المثال المطالبة بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.. فهي شرط جديد طرح كمطلب مركزي وجوهري فقط في جولة المحادثات الأخيرة. وسواء كان هذا المطلب مهما أم لا- وهو في اعتقادنا مطلب نافل بل ومضر- مما لا شك فيه أنه يضع صعوبات وعراقيل جديدة في طريق المفاوضات ويباعد بين الطرفين.

المطالبة بـ " ترانسفير جزئي"

خلال جولة المحادثات الأخيرة صرح وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بأنه لن يؤيد أي اتفاق مع الفلسطينيين لا يتضمن تنفيذ ترانسفير جزئي للمواطنين العرب في إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية التي ستقوم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وحسب تجربة الماضي فإن مآل الأفكار المتطرفة التي طرحت خلال المفاوضات السابقة أن تتحول إلى شرط افتتاحي للمفاوضات المقبلة. وفيما يتعلق بخطة ليبرمان، فإن هذه الديناميكية يمكن أن تفشل مسبقا أية محادثات مستقبلية.

المطالبة ببسط السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن

صحيح أنها ليست فكرة جديدة في الحقيقة، ولكنها لم تطرح قط فيما مضى كمطلب مركزي كما تطرح الآن. ومع أن الكثيرين من رجالات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية سبق أن أكدوا عدم وجود حاجة جوهرية لمنطقة غور الأردن وأنه يمكن حماية حدود إسرائيل بدون هذا الشريط، فقد نجح نتنياهو في تحويل هذا المطلب إلى عقبة كأداء.

الامتناع عن تجميد البناء في المستوطنات

ربما كان من الصعب تخيل هذا الأمر الآن، ولكن جدير بنا أن نتذكر أن نتنياهو صرح قبل أربعة أعوام فقط بأن المطالبة بإخلاء وتفكيك جميع المواقع الاستيطانية غير القانونية في مستهل المفاوضات هي مطلب مشروع. الآن، لم يعد هذا المطلب غير مطروح على بساط البحث وحسب، بل إن اليمين الاستيطاني يبذل كل ما في وسعه من أجل منع أي نوع من تجميد البناء في المستوطنات، حتى ولو جزئيا، ومن الواضح أن هذه الجهود تؤتي ثمارها. إن استمرار أنشطة البناء الاستيطاني يلحق ضررا شديداً بالثقة بين الطرفين ويؤثر فنيا على القدرة على رسم حدود معقولة بين الدولتين.

المتضررون السياسيون الرئيسيون- مؤيدو التسوية

على الرغم من أن اليمين يبذل قصارى الجهد من أجل تخريب المفاوضات، بل واعترف بذلك علنا، فإن مؤيدي التسوية بالذات هم المتضررون سياسيا من أحداث العام الأخير. فنظرا لأن "عملية السلام" محسوبة على معسكر الوسط- اليسار، فإن عدم القدرة على إحراز تقدم حقيقي في هذه العملية يضعف بالضرورة هذا المعسكر على الرغم من أن الذي يديرها ويقودها ويفشلها هم ممثلو اليمين.

وفي المحصلة فإن اليسار (الإسرائيلي) يقف ليحدق من بعيد في سياسته بينما هي تسلب منه فارغة من أي مضمون، لتطبق بصورة مشوهة ومضللة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من عناصر وأطراف معسكر الوسط- اليسار ذاته ساهمت وتساهم في دفع هذه الرؤية من حيث أنها ساندت بصورة فاعلة المفاوضات التي كان فشلها الذريع نتيجة معروفة سلفا. وعلى سبيل المثال حملات التأييد لـ "كيري" من جانب أوساط اليسار. فقد أديرت خلال العام الأخير عدة حملات شعبية تصور جون كيري كزعيم لمعسكر اليسار. وقد ناشدت هذه الحملات وزير الخارجية الأميركي العمل على التوصل إلى اتفاق سلام رغم كل الصعوبات. فضلا عن الخطأ الكامن في تتويج رجل سياسي أجنبي له مصالح مختلفة كزعيم لمعسكر سياسي في إسرائيل، فقد خلقت تلك الحملات تماثلا خاطئا ومضللا بين اليسار وبين عملية السلام الحالية، كما لو أن ممثليه شركاء حقا ومسؤولون ولو بقدر ضئيل عن إدارة المفاوضات.

ومع أن هذه الحملات لم تنجح في إخراج الجماهير إلى الشوارع، إلا أنها نجحت في لجم اليسار كجزء من المفاوضات التي لم يكن له دور فيها.

أحزاب الوسط

من المعروف أن تسيبي ليفني ويائير لبيد انضما إلى الائتلاف اليميني بصورة معلنة من أجل دفع العملية السياسية، ومن المتوقع الآن أن يطلق الاثنان سيلا من التصريحات التي تتهم الرئيس محمود عباس (أبو مازن) بمسؤولية إفشال العملية الحالية، وإلا لن يكون هناك أي مبرر لبقائهما في حكومة نتنياهو. وتدعي أوساط المركز السياسي بصورة منهاجيه أن نتنياهو مستعد لتطبيق حل الدولتين، غير أن هذه الرغبة أو الأمنية لم تجد لها حتى الآن أي سند ملموس على أرض الواقع. وتؤكد أوساط رفيعة في أحزاب الوسط، وفي مقدمها الوزيرة ليفني، أن أعضاء حزب "البيت اليهودي" يتحملون بدورهم أيضا مسؤولية، بقدر لا يستهان به، في إفشال المفاوضات. يتعين على ليفني ولبيد أن يدركا بأن المقاعد الـ25 التي يحتفظان بها في الكنيست، نجحت أقل في التأثير على نتنياهو من الـ12 مقعدا التي يحتفظ بها حزب المستوطنين. لا يكفي اتهام أبو مازن بانهيار العملية بل يتعين على أحزاب الوسط أن تقدم كشف حساب لناخبيها في المقام الأول، عن استراتيجيا التأثير التي اتبعتها ، والتي منيت بفشل ذريع في اختبار الواقع.

ماذا بعد؟!

من المحتمل أن تستأنف المفاوضات قريبا وأن تستمر بضعة أشهر أخرى، فتلك هي المصلحة السياسية للطرفين، مع ذلك فإن الفشل المتوقع لهذه المفاوضات عاجلا أم آجلا، يقتضي من معسكر الوسط- اليسار تذويت عدد من الدروس.

ربما يكون نتنياهو قد اتخذ حقا قراراً لا رجعة فيه لجهة الاستعداد لتطبيق حل الدولتين. لا توجد الآن أية طريقة للتيقن من ذلك، ولكن يمكن معرفة شيء عن مدى جدية رئيس الحكومة بناء على هوية الأشخاص المحيطين به. فوزير الدفاع (يعلون) هو الرجل الذي يسيطر فعليا على "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) وعلى السلطة الفلسطينية وعلى بلورة الترتيبات الأمنية المستقبلية. هذا يعني أن نتنياهو عين في هذا المنصب الحساس شخصية عامة تعارض بصورة قاطعة ومتطرفة عملية السلام، بل وتسعى إلى تخريبها.

وعليه، طالما بقي يعلون متمترسا خلف مواقفه ويواصل الوقوف على رأس وزارة الدفاع، فإنه لا أساس من الصحة لتأييد معسكر الوسط- اليسار المفاوضات التي تجريها حكومة نتنياهو. وطالما كان وزير الدفاع يوظف جهوداً خاصة في سلسلة من عمليات "الإحباط المركزة" تجاه العلاقات الإسرائيلية- الأميركية وطالما كان نائبه يعلن صباح مساء عن اعتزامه الاستقالة احتجاجا على التقدم في المفاوضات، فإنه ما من سبب جلي لتأييد المحادثات العقيمة.

نظريا صحيح أن الحكومة الحالية ملتزمة بالتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين ولكن من الناحية العملية واضح أن الطرف الوحيد الذي يقوم بفرض وقائع على الأرض هو الجناح الاستيطاني في هذه الحكومة. ويكمن السبب في أن المركز السياسي منشغل أكثر من اللازم في الرؤية الشاملة أكثر من اهتمامه بالانشغال في "السياسة" وعوضا عن القيام باتخاذ مواقف حازمة وجريئة، فإن الوزيرين لبيد وليفني يسديان خدمة إلى اليمين الاستيطاني ويسمحان له بأن يكون المقرر الوحيد للأجندة العامة.

لقد حان الوقت كي ينشغل المؤيدون للتسوية بالشؤون اليومية للسياسة الإسرائيلية وليس فقط بالرؤيا بعيدة الأمد.

إن دفع التسوية، تماما مثل إحباطها، هو فعل سياسي يجري يوميا وبالأساس خارج حجرة المفاوضات. إن على جميع مؤيدي التسوية التشمير عن سواعدهم والشروع بدفع هذه الأجندة قدما خطوة بعد أخرى. فمثل هذه الخطوات لا تساهم فقط في دفع التسوية قدما وإنما سترسم خطا واضحا بين رؤيتين وتبرز فاعلية ونشاط أحزاب الوسط من أجل أغلبية مدنية إسرائيلية، خلافا للنشاط القطاعي الضيق الذي تقوم به أحزاب اليمين .

إن لمعسكر الوسط- اليسار في إسرائيل دورا مهما لا نظير له، ليس فقط كبديل سلطوي متبلور، وإنما أيضا في نفس الوقت الذي يمسك فيه اليمين بزمام قيادة السلطة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات