مشروع قانون حكومي جديد في إسرائيل: إطعام الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين المضربين عن الطعام بالقوة
*إضرابات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، التي اضطرت السلطات الإسرائيلية إلى الإفراج عنهم، تدفع الحكومة الآن إلى البحث عن "مخرج" يشكل "ضربة استباقية" لإضرابات مماثلة مستقبلية: قمع احتجاج الأسرى وكسر إرادتهم بما يمثل "تعذيبا محظورا" وفق المواثيق الدولية!*
كتب سليم سلامة:
نشرت وزارة "الأمن الداخلي" الإسرائيلية، الأسبوع الأخير، نص مشروع قانون جديد تحت عنوان "تقديم علاج لمضربين عن الطعام"، يشكل تعديلا لـ "أمر السجون" ـ وهو الإطار القانوني الذي ينظم عمل السجون في إسرائيل- الذي شرّعته سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين في العام 1946، وأعاد الكنيست الإسرائيلي صياغته للمرة الأولى في العام 1971، بعد تعديله تسع مرات، ثم أدخل عليه 40 تعديلا إضافيا حتى العام 2011.
وقد نشرت الوزارة نص مشروع القانون الجديد، الذي شاركت في وضعه أيضا وزارتا العدل والصحة ومصلحة السجون، بعد مصادقة المستشار القانوني للحكومة عليه، في أيلول الماضي، لإتاحة المجال أمام الجمهور الواسع لتقديم ملاحظاته عليه وإبداء أية تحفظات، قبل عرضه على الكنيست وهيئاته لتشريعه.
ويقضي مشروع القانون الجديد هذا بتمكين سلطات السجون الإسرائيلية من إطعام (تغذية) أي سجين يعلن إضرابا عن الطعام، عنوةً وخلافا لرغبته وإرادته. وقد شرعت الوزارات الحكومية الإسرائيلية في عمليات إعداده في أعقاب وعلى خلفية الإضرابات عن الطعام التي أعلنها ونفذها عدد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية خلال العام 2012.
وإذا ما تم إقراره نهائيا، فسيمسح هذا القانون بـما يسميه "تقديم علاج طبي" للسجين المضرب عن الطعام، رغما عنه، بما يلبي بعض القيود والتحفظات. فالقرار بشأن تقديم "العلاج الطبي" سيكون من صلاحية رئيس محكمة مركزية أو نائبه، على أن المحكمة لا تستطيع فرض "تقديم العلاج" بصورة إجبارية، بل المصادقة فقط على "إمكانية تقديم العلاج" للسجين رغما عنه، وأن يكون السجين ممثلا بواسطة محامٍ خصوصي، أو محامٍ من "دائرة الدفاع العام" وأن لا يتم إجبار طبيب على "تقديم العلاج" بما يخالف ضميره!
وينص مشروع القانون على أن قرار المحكمة بشأن إجازة "تقديم العلاج" ينبغي أن يتأسس على "اقتناع المحكمة" بأن السلطات الرسمية المختصة، وخاصة سلطة السجون، قد استنفدت جميع الجهود والمحاولات "لإقناع السجين" بضرورة خضوعه "للعلاج" بعد تقديم شرح كاف له عن حالته الصحية و"حجم الخطر الذي يشكله عليها استمراره في الإضراب عن الطعام". أما الطريقتان المركزيتان اللتان يحددهما مشروع القانون لتغذية السجين المضرب عن الطعام فهما: التسريب في الوريد (Intravenous Infusion) والإطعام بالأنبوب (الذي يتم إدخاله من الأنف حتى المعدة - Feeding tube).
التغذية بالقوة – تعذيب محظور!
وفي معرض تسويغه مشروع القانون هذا، قال المستشار القانوني لوزارة الأمن الداخلي، المحامي يوئيل هدار: "لدينا ما يكفي من الاعتبارات لتبرير نص مشروع القانون الذي تم طرحه أخيرا"، زاعماً بأن الهدف من ورائه هو "أن الوزارة، والحكومة بوجه عام، لا ترغب في أن يموت سجناء من جراء الإضراب عن الطعام"!! وأضاف أنه "إذا ما استنفدت الإمكانيات الأخرى المتاحة ولم يتبق سوى واحد من احتمالين: إما إطعام السجين بالقوة وإما تركه يموت، فإننا نعتقد بأن الاحتمال الأول هو المفضل وبأنه يتوجب منع موته، كما نعتقد بأن هذه النتيجة تنسجم مع قَسَم أبقراط" (القسم الذي يؤديه الأطباء قبل بدء مزاولتهم مهنة الطب)!
وكان هدار يلمح بهذا إلى معارضة نقابة الأطباء في إسرائيل لمشروع القانون هذا، فضلا عن معارضة منظمات طبية وحقوقية وإنسانية أخرى، في مقدمتها "جمعية أطباء لحقوق الإنسان" الإسرائيلية، ارتكازا إلى نصوص قانونية وحقوقية مختلفة، أبرزها متضمنات لوائح "أخلاقيات المهنة" ومواثيق اتحاد الأطباء العالمي (World Medical Association - WMA) التي تحظر تغذية سجين مُضرب عن الطعام باعتباره نوعا من أنواع التعذيب وتحظر على الأطباء، بالتالي، المشاركة في عمليات إطعام بالقوة.
ففي "إعلان طوكيو"، الذي أقرّه اتحاد الأطباء العالمي في العام 1975، ثم جرى تعديله في العامين 2005 و 2006، يؤكد البند السادس: "إذا ما اختار سجين طريق الإضراب عن الطعام واقتنع الطبيب، بعد شرح للسجين حول النتائج المحتملة التي قد تترتب على قراره هذا، بأن القرار قد نجم عن قرار واعٍ وإرادة سليمة - يُحظر على الطبيب تغذيته بالقوة". أما "إعلان مالطا"، الذي أقره اتحاد الأطباء العالمي في العام 1991 وجرى تعديله في العام 2006، فيحدد بصورة جلية تعليمات التعامل مع الإضراب عن الطعام في البندين 20 و 21، على النحو التالي: "20 - التغذية الاصطناعية (بالقوة - س. س) يمكن أن تكون مبررة من الناحية الأخلاقية في حالتين اثنتين فقط: إذا كانت تحظى بموافقة واعية من جانب المضرب عن الطعام، أو إذا لم يعلن المضرب عن الطعام موقفا واضحا يرفضها. 21 - التغذية بالقوة غير مقبولة من الناحية الأخلاقية، إطلاقا، حتى ولو كانت بقصد الإفادة وتقدم المساعدة. والتغذية المصحوبة باستخدام التهديدات، الإكراه، القوة أو فرض قيود وتضييقات - هي نوع من العلاج غير الإنساني والمُهين. والتغذية بالإكراه بحق بعض السجناء، بغية تهديد سجناء آخرين مضربين عن الطعام أو إكراههم على وقف إضرابهم، ليست مقبولة"!
وعبر د. ليونيد إيدلمان، رئيس نقابة الأطباء في إسرائيل، عن معارضة النقابة "بشكل واضح وحازم" لمشروع القانون هذا، مؤكدا: "إن موقفنا ينسجم مع موقف اتحاد الأطباء العالمي. ليس ثمة مكان، قطعيا، للتغذية بالقوة. فهي تشكل تعذيبا وإذلالا محظورين لا يمكننا القبول بممارستهما وسنعارض اللجوء إليها بكل قوة وحزم. إنها واحدة من الحالات النموذجية التي تغلب فيها أخلاقيات المهنة أي نص قانوني". وأضاف إيدلمان: "باقتراح القانون هذا، تخطو الدولة خطوة زائدة جدا. ونحن من جهتنا، سنتوجه إلى جميع الأطباء، فردا فردا، لمطالبتهم بعدم استخدام هذه الطريقة وبالمحافظة على كرامة الإنسان، أيا كان. ليس من الجائز ولا من المقبول اعتماد أي إجراء بالقوة تجاه مرضى في حالة الوعي ويعارضون تلقي العلاج".
وكانت نقابة الأطباء قدمت، في العام 2005، "ورقة موقف" حول الموضوع أعلنت فيه معارضتها لاعتماد التغذية بالقوة تجاه مضربين عن الطعام، سجناء ومعتقلين، مشددة على أنه "يُحظر على طبيب المشاركة في إطعام مُضرب عن الطعام بالقوة" وعلى أنه "إذا فقد المُضرب عن الطعام وعيه ولم يعد قادرا على التعبير عن رغبته وإرادته الحرة، يمكن للطبيب أن يقرر، وفق ما يمليه ضميره والتزامه المهني، بشأن كيفية استمرار معالجة المضرب عن الطعام، من خلال المحافظة القصوى على مواقف المضرب عن الطعام ورغبته كما عبر عنها قبل أن يفقد وعيه"!
وفي تموز الماضي، بُعيد انطلاق المساعي الحكومية لإعداد اقتراح القانون الجديد، توجهت "جمعية أطباء لحقوق الإنسان" إلى المستشار القانوني للحكومة، يهودا فاينشتاين، لتأكيد معارضتها الحازمة لمشروع القانون، مع التشديد على أن "مسألة تكريس التغذية بالقوة في نص قانوني تتعارض مع المواثيق الدولية بهذا الشأن". وأضافت الجمعية إن إجماعا يسود في منظمات الأطباء في العالم على أن "مشاركة الأطباء في عمليات التغذية بالقوة المتكررة تجاه مضربين عن الطعام يرفضون، بصورة صريحة وواضحة، أي نوع من التغذية قد تعتبر مشاركة في اقتراف جريمة طبية"!
مشروع القانون ـ أداة سياسية لكسر السجناء!
وكانت مساعي إعداد هذا القانون الجديد قد انطلقت في العام الماضي، كجزء من "الدرس" الذي تعلمته السلطات الإسرائيلية، في أعقاب اضطرارها مرغمة إلى الإفراج عن عدد من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية بعد تنفيذهم إضرابات عن الطعام للمطالبة بإطلاق سراحهم، أبرزهم: سامر العيساوي الذي نفذ إضرابا عن الطعام دام 210 أيام اضطرت السلطات الإسرائيلية في أعقابه إلى "تحديد" فترة اعتقاله ومن ثم إطلاق سراحه، وأيمن الشراونة الذي نفذ إضرابا عنه الطعام استمر 260 يوما انتهى بالإفراج عنه مقابل إبعاده إلى قطاع غزة، وخضر عدنان الذي استمر إضرابه عن الطعام 66 يوما وانضم إليه، خلالها، 30 أسيرا فلسطينيا آخرين وانتهى إضرابهم بإعلان النيابة العامة الإسرائيلية أنه لن يتم تمديد أمر الاعتقال الإداري بحقه مرة أخرى.
ففي أعقاب تلك الإضرابات عن الطعام، وحيال تخوف الحكومة الإسرائيلية وأذرعها الأمنية من أن الإضراب عن الطعام قد غدا "وسيلة ناجعة وفعالة بأيدي السجناء والمعتقلين الإداريين الفلسطينيين" وتخوفها من نشوء حالة يتم فيها "إعلان إضراب جماعي عن الطعام" بين أسرى ومعتقلين فلسطينيين، ومن أن "موت أي منهم قد يؤدي إلى اشتعال المناطق الفلسطينية"، شرعت الحكومة في البحث عن مخرج يتيح لها ممارسة ضغوط على أي سجين مضرب عن الطعام حتى تضطره إلى وقف إضرابه. وتوجهت إلى نائب المستشار القانوني للحكومة للشؤون الجنائية، المحامي ران نزري، طالبة منه فحص المسألة، فأجرى هذا سلسلة من المداولات حول الموضوع، شارك فيها ممثلون عن الأجهزة الأمنية وسلطة السجون ووزارات الصحة والعدل والأمن الداخلي. وفي إطار تلك المداولات، عُرض اقتراح تبني نهج "التغذية بالقوة" كـ "حل" لهذه المعضلة، "أسوة بما هو متبع في بعض الدول الغربية"! وأشير، بشكل خاص، إلى قيام السلطات الأمريكية بإطعام معتقلين في "غوانتانامو" بالقوة لكسر إضرابهم عن الطعام بذريعة "تعرض حياتهم لخطر حقيقي"!
وقضى الاقتراح الأولي بتخويل مسؤول إداري في سلطة السجون الإسرائيلية صلاحية التصديق على التغذية بالقوة "في حال تعرض حياة السجين للخطر" من جراء الإضراب عن الطعام. لكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض من الجهات القضائية الحكومية، نظرا لكونه يشكل انتهاكا لحقوق أساسية يضمنها "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"، ما يعني أن المحكمة العليا ستأمر بإلغائه، على الأرجح. وفي محاولة للتغلب على هذه العقبة، تقرر أن يصار إلى إعداد مشروع قانون جديد يكون في مركزه عرض الموضوع على محكمة للبت فيه، إذا ما أصدر طبيب تقريرا طبيا يؤكد أن استمرار إضراب السجين عن الطعام "يشكل تهديدا جديا وحقيقيا على صحته وحياته"!
وقد كشفت وزارة الصحة الإسرائيلية عن حقيقة الهدف السياسي الكامن من وراء مشروع هذا القانون، بالبيان الخاص الذي أصدرته بوصفها أحد الأطراف المبادرة إلى إعداد مشروع القانون وعرضه، إذ قالت إن مساعي إعداد وبلورة مشروع القانون قد جرت بالتشاور مع جهات مختصة وناشطة في مجال الأخلاقيات البيولوجية والطبية في إسرائيل، "في محاولة لتوفير أدوات مناسبة لمنع ما تسببه إضرابات السجناء عن الطعام من ضرر جسيم للدولة، وكذلك لمصلحة السجناء أنفسهم من خلال آليات تحافظ على حقوقهم كمحتاجين للعلاج وتحميها"!
وهو الهدف الذي أوضحته هداس زيف، من "جمعية أطباء لحقوق الإنسان"، بإشارتها إلى أن "معدّي مشروع القانون والقائمين عليه يسعون إلى استغلال الطبّ والأطباء والخدمات الطبية أداة سياسية. فالهدف من وراء مشروع القانون هذا هو قمع وكسر احتجاج السجناء الذين يختارون الإضراب عن الطعام طريقا غير عنفيّ للنضال من أجل حقوقهم... وسيكون السجين المضرب عن الطعام هو الضحية الأولى المباشرة لهذا القانون، إذا ما تم إقراره، لكنه سوف يشكل أيضا مساً كبيرا وفظا بموقف الأطباء ومكانتهم الأخلاقية وبثقة المرضى بهم، إذ مَن الذي ستبقى لديه ثقة بطبيب يُقدِم على مثل هذا العمل؟".
"ضربة استباقية"!
إن "قانون حقوق المريض" الإسرائيلي يقرّ صلاحية "لجنة آداب المهنة" (التي يعينها المدير العام لوزارة الصحة) بالمصادقة على تغذية شخص حياته معرضة للخطر بالقوة. لكن وزارتي العدل والأمن الداخلي تريان، في سياق مشروع القانون الجديد، حاجة إلى الالتفاف على نصوص "قانون حقوق المرضى" وعدم الاكتفاء بها بالنسبة لـ "السجناء الأمنيين" (الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون)، لأن "الضرورة تقتضي التحرك بأقصى السرعة وعدم الانتظار حتى نشوء خطر جدي على حياة المضرب عن الطعام، منعاً للمخاطرة بفقدان حياة أسير أمني"!
وتقوم الرؤية الحكومية الإسرائيلية التي تقف في صلب مشروع القانون الجديد ـ رغم تضمّنه إشارة إلى الاعتراف بشرعية الإضراب عن الطعام بوصفه "جزءاً لا يتجزأ من حرية التعبير" - على الادعاء بأن "حق الأسير على جسده وحياته هو حق محدود، لأنه في عهدة الدولة"!
لكن الأسير المضرب عن الطعام ليس بمثابة "مُعالـَج"، بالمعنى المتعارف عليه وهو "ليس في عهدة الدولة" باختياره الحر. فهو إنسان اغتصبت حريته وقرر، بإرادته الحرة، التعبير عن احتجاجه والمطالبة بحقوقه، الإنسانية والسياسية، من خلال وسيلة استثنائية بكل المفاهيم، بل هي آخر ما تبقى لديه من وسائل ـ الإضراب عن الطعام - وهو يدرك أنه قد يدفع حياته ثمنا لذلك. ومن هنا، فإن الادعاء الأساس المذكور يفقد مشروعيته. فالقلق الحقيقي الذي يحرك هذا المسعى السياسي الحكومي ليس على حياة الأسير وصحته، بل على سياسة الدولة وصورتها، ما يقودها إلى هذه المحاولة الإكراهية، التي تمثل تعذيبا محظورا، للتغلب على عقبة الاحتجاج السياسي، بقمعه وكسره، من جهة، ولتحقيق مكاسب سياسية، من جهة أخرى.
وهذا، بالضبط وبالتحديد، ما يرمي مشروع القانون الجديد إلى تحقيقه، مستفيدا من "دروس الماضي" واستباقا لإضراب واسع عن الطعام قد يعلنه أسرى ومعتقلون فلسطينيون مستقبلا، وقد يكون من شأنه وضع دولة إسرائيل وحكومتها أمام معضلة حادة جدا، ليس على الصعيد المحلي فحسب، بل على الصعيد الدولي أيضا.