هدم المنازل العربية يستلزم خطة جماعية تستند إلى ركيزتين: منع الهدم وإعادة البناء
بقلم: علي حيدر (*)
ليس هناك أقرب إلى موت إنسان من هدم بيته أو منزله عنوة، وإخراجه منه مظلوماً ومقهوراً ومكسوراً. والأنكى والأصعب من ذلك أن تقوم الدولة ونظامها القضائي والقانوني الجائر والمتعنت بإضفاء الشرعية على عملية الهدم.
وقد صدق الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش حين قال: "البيوتُ تُقتَل كما تُقتَل سكانُها".
لقد انقضَّت الشرطة، قبل نحو أسبوعين، على بيت عائلة الحاج سعيد أبو شرقية، وهي من قرية عرعرة في المثلث، حيث قامت بإخراج الوالدَين المسنَّين والأبناء والأطفال من البيت الذي بُني على أرض العائلة منذ حوالي 45 عاماً، وهدمت البيت بشكل كامل، مما جعله كومة من الركام. وهذا بعد أن خاضت العائلة على مدار سنوات نضالاً مستمراً أمام المحاكم ومؤسسات التخطيط والتنظيم للمصادقة على البيت والحصول على ترخيص، ودفعت الغرامات الكثيرة، كما سُجِن الأب سبع سنوات لرفضه هدم بيته بيده.
إن بيت عائلة أبو شرقية هو بيت قديم، يقع على الشارع الرئيسي في وادي عارة، في موقع استراتيجي، وهو بيت امتاز بجمالية معمارية عربية فلسطينية، ولعملية هدمه دلالات ومعانٍ كثيرة ومتعددة. ومن نافلة القول إنه في الوقت الذي كانت عائلة أبو شرقية تناضل للحفاظ على بيتها، قامت الدولة ببناء العديد من المستوطنات على مقربة من المنزل لليهود فقط، ومن المُخطَّط إقامة مدينة "حورشيم" لليهود المتزمتين على مقربة من ركام البيت، مما يعزز الأمر بأن سياسة الحكومة الواضحة هي هدم بيوت العرب والسيطرة على ما تبقى من أراضيهم، وبناء بيوت لليهود والاهتمام برفاهيتهم.
من جهة أخرى فإن عملية الهدم، وبالرغم عن كونها قانونية بحسب القانون الإسرائيلي الذي يخدم الأغلبية اليهودية، إلا أنها تنعدم أيا من معايير الأخلاقية، بل وتتناقض وتتنافى وحرية الإنسان وحقه الأساس في امتلاك مأوىً يأويه، يضمن كرامته وأمنه كإنسان، كما تتنافى مع كل الأعراف والمواثيق الدولية على حدٍّ سواء.
كما هو معروف للجميع، فإن هذا البيت ليس البيت الأول الذي يُهدم في السنوات الأخيرة في المجتمع الفلسطيني (قريتا العراقيب وعتّير في النقب أصبحتا رمزاً للصمود)، لكن لتوقيت هدمه وأسلوب الهدم، ولموقع البيت وتاريخيته دلالات رمزية وأبعاد عميقة، ذات مؤشرات واضحة حول ملامح المرحلة القادمة، وخصوصاً أن هناك الآلاف من البيوت العربية المهددة بالهدم، والتي أُرغِم أصحابها على دفع الغرامات الكبيرة رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.
إن عملية الهدم أتت في سياق سياسيّ مضطرب ومتوتر بين الدولة والمجتمع الفلسطيني في الداخل، على خلفية المصادقة على "مخطط براڤر"، الهادف إلى مصادرة واقتلاع المجتمع العربي في النقب والسيطرة على أراضيه وتهويدها، أضف إلى ذلك أن البلاد تشهد أعمالاً عنصرية متواترة يقوم بها الإرهابيون المنتمون إلى منظمة "تاغ محير" (تدفيع الثمن) العنصرية وتشمل اعتداءات على المقدسات الإسلامية والمسيحية وكتابة الشعارات العنصرية وحرق السيارات والاعتداء على الممتلكات والناس، ناهيك عن إحياء مشاريع القوانين العنصرية ومحاولة المصادقة عليها في الكنيست، وبالموازاة فإن عمليات هدم المنازل مستمرة في النقب، الجليل، المثلث ومدن الساحل، وكان آخرها إخلاء أهالي عتّير في النقب من خيامهم.
إن هذه السياسة التي تنتهجها الحكومة، والرامية إلى السيطرة على الأرض إلى جانب تقليل نسبة العرب في البلاد والتضييق عليهم والمسّ بشرعية وجودهم، تخلق واقعاً مركباً ومعقداً، وتحدّيات جديدة تحتاج إلى قيادة عربية جماعية موحدة وقادرة على العمل الجماعي والمشترك، تعمل من أجل التغيير المنشود بعزم ومثابرة، من أجل الصمود والتحدي وتحقيق النتائج العملية والملموسة ونيل الحقوق الكاملة التي يطمح إليها المجتمع العربي.
كما يجب على القيادة في جميع المستويات أن تفكر بشكل معمّق وإستراتيجي وأن تراجع وسائل النضال التي استُخدِمت واستُنفدت، لتستحدث وسائل وآليات نضال جديدة وناجعة في المرحلة الراهنة وفي صُلبها الاعتماد على الذات الجماعية، صاحبة الرؤية والأهداف الواضحة.
إن قضية هدم المنازل تستوجب وضع خطة مواجهة استراتيجية تستند إلى ركيزتين هما: منع الهدم وإعادة البناء. ولقد أحسن رؤساء المجالس في منطقة وادي عارة صُنعاً عندما تنادَوا وأعلنوا الإضراب الشامل في المنطقة، وبمشاركة أعضاء البرلمان وبعض ممثلي المجتمع المدني والأهالي، الذين اعتصموا على الشارع الرئيسي، وأعلنوا الاستمرار في النضال في الأيام القادمة. ومع ذلك، فإن المطلوب من قيادات المجتمع العربي القطرية العمل في عدة مستويات منها:
1. إقامة هيئة مختصين وخبراء ومنتخبين لحماية الأرض والمسكن، بحيث تضع خطة استراتيجية لمواجهة قضية هدم المنازل وحماية الأرض.
2. إقامة لجان شعبية محلية ولوائية تمتاز بسرعة الحركة والمرونة في العمل، لتتصدى لعمليات الهدم وإعادة الإعمار.
3. إقامة صندوق وطني عربي يُسمى "صندوق الأرض والمسكن" يعمل على مساعدة العائلات المنكوبة، ويساهم في وضع البرامج والفعاليات والنشاطات لحماية الأرض والمسكن.
4. توسيع التكافل والتضامن الاجتماعي بين أبناء المجتمع الفلسطيني في الداخل وخصوصاً فيما يتعلق بمساندة الأهل في النقب ومنع عمليات الهدم.
5. العمل على التواصل مع السفراء الأجانب ودعوتهم لزيارة البيوت المهدمة والأراضي المهددة بالمصادرة، وإرسال وفد عربي إلى مؤسسات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
6. توسيع عملية الاحتجاج والمقاومة عن طريق إجراء التظاهرات والاعتصامات بشكل مستمر، وبذلك تُحقَّق عملية التوعية والتعبئة الجماهيرية. كما يجب الإعلان عن إضراب شامل وجدّي ذي تأثير على جميع مرافق الدولة.
7. العمل على إقامة لجنة خبراء محليين ودوليين تستمع وتوثّق جميع قضايا الهدم والمصادرة، أسبابها، سيرورتها والمعيقات البنيوية التي تفرضها الدولة على عمليات البناء.
8. التوجه إلى الوزارات الحكومية ومطالبتها والضغط عليها من أجل تجميد عمليات الهدم وإيجاد حلول مقبولة على المجتمع العربي. كما يتعين وضع استراتيجيا إعلامية، وخصوصاً استعمال وسائل الاتصال الحديثة والشبكات الاجتماعية.
9. وضع لافتات وملصقات وإصدار نشرات وكتيّبات باللغتين العربية والعبرية وتوزيعها على مفترقات الطرق، من أجل إسماع صوتنا للمجتمع اليهودي من جهة، ومن أجل تعبئة وحشد الجماهير العربية من جهة ثانية.
10. إن الهدف الرئيس الذي نصبو إليه هو تغيير سياسات الحكومة وتغيير عقلية المؤسسة وتحويلها من النظر إلى العرب كأعداء يجب التضييق عليهم، إلى مواطنين متساوين، لأن الاستمرار والتصعيد من قِبَل الحكومة سوف يقود إلى مواجهة عنيفة، وهناك عناصر في الحكومة تريد استدراجنا إليها، ولذلك يجب علينا أن نقوم بنضال منهجي ومستمر وسلمي وناجع يضمن صمودنا وحماية حقوقنا.
ومما يبعث الأمل أن عملية الاعتصام السلمي، التي جرت على شارع وادي عارة، والتي أدت إلى إغلاق الشارع من جميع الاتجاهات، أخذت النساء وخصوصاً المسنات، والشباب دوراً فعالاً وهاماً فيها. كما كُتبت لافتات توضح عدالة القضية ورفض المعتصمون استدراج الشرطة والقوات الخاصة لهم نحو العنف.
ومما استحوذ على التقدير هو السماح لسيارات الإسعاف فقط بالعبور وتسهيل عبورها، وتنظيف الشارع من بقايا اللافتات، وهذا ينم عن عمق الانتماء إلى المكان، والاحتجاج الحضاري، الذي يهدف إلى النجاح في تحقيق الأهداف.
ومن الجدير بالذكر أنه حصل نقاش ديمقراطي وحرّ في خيمة الاعتصام وتفكير جماعي أخذ الأهالي والسكان دور اللاعب المركزي فيه، وجرت عملية مساءلة للقيادات ومصارحتها بشأن ضرورة تجديد وتغيير وتحديث وسائل النضال.
___________________________
(*) محام ومدير مشارك لـ "سيكوي- الجمعية من أجل تكافؤ الفرص في إسرائيل".