نافذة على تاريخ انخراط المتدينين اليهود في صفوف الجيش الإسرائيلي
بقلم: دافيد ميلاميد (*)
يعيد الانشغال بمسألة تجنيد طلبة المدارس الدينية للخدمة في الجيش الإسرائيلي إلى الأذهان اللقاء بين الديني والعسكري قبل قيام الدولة، هذا اللقاء الذي يمثل قصة السرايا المتدينة، والذي تعود بدايته إلى ثلاثينيات القرن الماضي، في إطار منظمة "الهاغناه".
وكان تجنيد الشبان المتدينين قد أشغل في ذلك الوقت زعماء "الهاغناه" والجمهور الديني على حد سواء. وكان جوهر المشكلة يكمن في صعوبة دمج جنود متدينين داخل الإطار العسكري العلماني، على الرغم من أن جنوداً متدينين كثيرين خدموا بالفعل في وحدات عسكرية مختلفة، وذلك من خلال حل بسيط للمشكلة، تمثل في إقامة سرايا متدينة منفصلة، مكنت أفرادها من المشاركة في المعركة العسكرية وسط المحافظة على مبادئ وتعاليم الدين اليهودي.
وقد طرح موضوع تجنيد الشبان المتدينين على بساط البحث حين تقرر إقامة شعبة للشؤون الدينية في إطار منظمة "الهاغناه"، أطلق عليها "شعبة الخدمة الدينية".
وقد وضعت هذه الشعبة، التي عملت لمدة عام ونصف العام، أسس وقواعد الخدمات الدينية في الجيش الإسرائيلي، الذي تأسست، بعد إقامته، الحاخامية العسكرية. وكان واجب التجنيد في إطار "الهاغناه" قد طبق في صفوف شبان حركة "هبوعيل همزراحي" الصهيونية- الدينية، في أعقاب قرار اتخذ في اجتماع قطري للحركة المذكورة.
في كتابه "مسلحون قبل المعسكر" (صدر في العام 1984 عن جامعة بار إيلان ووزارة الدفاع) كتب ألتر فلنر: "في البدء كانت الفكرة التي دفعت بعض الشبان المتدينين إلى اتخاذ قرار بشأن وجوب إقامة وحدة متدينة في منظمة الهاغناه.. فهؤلاء الشبان، الذين كانوا ملتزمين بالفروض الدينية وتطوعوا كأفراد في صفوف المنظمة (الهاغناه)، وجدوا أنفسهم في غير مرة يواجهون خيارا صعبا: كيف يمكن لهم أن يبقوا متدينين في منظمة يرتبط نشاطها بتدنيس حرمة السبت؟... من هنا لم تكن طريق المحافظين على الفروض الدينية في ذلك الوقت سهلة في منظمة الهاغناه، التي كانت ذات صبغة علمانية جلية".
ويروي فلنر أشياء تبدو بعيدة: "معظم المدارس الدينية وتلاميذها كانوا وقتئذٍ منخرطين في حياة الييشوف (مجتمع الاستيطان اليهودي قبل قيام الدولة)، كما كانت قضية أرض إسرائيل جزءا لا يتجزأ من حياتهم. لذا كان من البديهي أنهم لم يرغبوا في إعفاء أنفسهم من عبء حماية اليهود وحماية بلدات ومستوطنات أرض إسرائيل. وقد كان من بين طلاب المدارس الدينية الذين التحقوا كأفراد بمنظمة الهاغناه، ليس فقط طلاب مدارس دينية حسيدية وليتوانية، وإنما أيضا من أبناء الجماعة التي تسمى الآن ناطوري كارتا، حيث شوهد هؤلاء مرارا- في ذلك الوقت- وهم ذاهبون، حتى في أيام السبت، لتلقي التدريب على السلاح".
هناك كتاب آخر حول نفس الموضوع كتبه الحاخام إسحق مئير، الذي كان عضوا في قيادة "الهاغناه" في منطقة "غوش دان"، وهو من مؤسسي الخدمة الدينية والحاخامية العسكرية، وأشغل أيضا منصب القائم بأعمال الحاخام الرئيسي للجيش الإسرائيلي.
ويقتبس مئير في كتابه، الذي صدر تحت عنوان "لا في الجيش ولا في القوة"، نص أمر أصدرته قيادة "الهاغناه" إلى جميع القادة العسكريين وجاء فيه:
"أقامت القيادة العليا في هيئة الأركان العامة، في إطار قسم الطاقة البشرية، شعبة خاصة لمعالجة وتنظيم الشؤون الدينية في الكنيست (قيادة الهاغناه)، مهمتها: تجسيد يوم السبت كيوم للراحة وتنظيم الأعمال الضرورية في هذا اليوم، ومراقبة الصلاحية الدينية، ورعاية حياة دينية في معسكرات الجيش، ومتابعة التنفيذ العملي لأوامر وتعليمات القيادة العليا، وحاخامية إرشاد روحي، والاتصال مع الهيئات والأطر الدينية، وتجنيد وتعبئة عسكرية لمحافل دينية، وتوفير أماكن سكن وتدريب للمتدينين... تقع عليك مسؤولية إبلاغ جميع القادة بصورة فورية بالأوامر المتعلقة بموضوع الدين والصلاحية الدينية، وكذلك إبلاغ مرؤوسيك في الجهاز المنفذ بهذه الأوامر".
مع ذلك فقد ظهرت معارضة لإقامة وحدات متدينة منفصلة في إطار منظمة "الهاغناه"، سواء في صفوف قيادة حركة "هبوعيل همزراحي"، أو داخل "الهاغناه" ذاتها، وإن كان ذلك لأسباب ودواع متباينة. ولكن عندما ازدادت الضغوط من طرف القاعدة الميدانية من أجل إقامة مثل هذه الوحدات خارج منطقة القدس، وافقت قيادة "الهاغناه" على تغيير التوجه المتعلق بهذا الموضوع. في البداية وافقت على إقامة شعب دينية، وفيما بعد وافقت القيادة على إقامة وحدات عسكرية متدينة أكبر. وأحد قادة الهاغناه، الذين عارضوا إقامة وحدات منفصلة للمتدينين، كان يغئال ألون.
ويقول شمعون فسرمان، عضو هيئة القيادة القطرية لـ "الهاغناه" من طرف حركة "هبوعيل همزراحي": إن الذي شجع يغئال ألون على التخلي عن معارضته للفكرة، هو موشيه سنيه، الذي تبنى موقفا مؤيدا لخطة تجنيد شبان من صفوف أبناء الشبيبة المتدينة في "أرض إسرائيل"، في إطار "البلماح" (كتائب الكوماندوس التابعة لـ "جيش الهاغناه").
ويضيف موشيه كوهين قائلا حول الدور الذي لعبه موشيه سنيه في دفع فكرة تجنيد الشبان المتدينين: لقد كان لموشيه سنيه دور حاسم في تنفيذ دورة التأهيل الأولى لطلائع المقاتلين المتدينين.
وقال أيضا ي.. ألياش: إن سنيه أبدى تفهما كبيرا لموقف الزملاء المتدينين في موضوع التدريبات في أيام السبت، وموضوع "الكاشير" (صلاحية الطعام- الحلال- حسب التقاليد الدينية اليهودية) وساهم في حل المشكلة بصورة إيجابية...
وأضاف ألياش أن د. سنيه أكد في اجتماعات القادة العسكريين ضرورة توفير أجواء وظروف تمكن "الرفاق المتدينين" من الانخراط في "الهاغناه" كأعضاء متساوين في الحقوق والواجبات، وهكذا أقيمت سرية للجنود المتدينين في الجيش الميداني في تل أبيب، تلتها سرية أخرى في رامات غان- بني براك، والتي قتل معظم أفرادها في معركة الفالوجة مع قوات الجيش المصري، في حرب العام 1948.
ويروي فلنر في كتابه قصة السرية المتدينة التي أقيمت في الهاغناه في تل أبيب، ويتحدث عن يومياتها ونشاطها في نطاق "العمل السري"، ومن ضمن ذلك دورها القتالي في لوائي "غفعاتي" و"كرياتي" خلال حرب العام 1948، وكيف أن أفراد هذه السرية من الشبان المتدينين "صارعوا من أجل حقهم في الانخراط في قوة الدفاع وسط الحفاظ على نمط الحياة الديني".
ووفقا لما أورده فلنر في كتابه، فقد أقيمت في العام 1942، في نطاق "البلماح"، شعبة دينية "كان تأسيسها بمثابة تجديد في تاريخ قوة الدفاع العبرية، وتاريخ الصهيونية- الدينية".
وقد شاركت في "حرب الاستقلال" (حرب 1948) عدة سرايا أفرادها من المتدينين، ومن بينها سرية تل أبيب، وسرية في لواء "يفتاح"، والسرية المتدينة في لواء الكسندروني (وهما لواءان تابعان لمنظمة الهاغناه). وقد شاركت السرية المتدينة في تل أبيب (التي عملت في إطار الكتيبة 51 التابعة للواء غفعاتي) في معارك كثيرة، منها معركة غوش- كفر- عصيون، وقتل فيها 16 جنديا من أفراد السرية ذاتها.
خلال حرب "الاستقلال" (1948) نشبت أزمة حكومية على خلفية رفض اثنين من المجندين المتدينين عملا طباخين في الجيش، طهي طعام في يوم السبت، قبيل خروج وحدتهما لخوض إحدى المعارك. وفي أعقاب تقديم هذين المجندين إلى محاكمة عسكرية وصدور قرار بحبسهما، قدم وزير الأديان، الحاخام ميمون، استقالته من الحكومة الإسرائيلية المؤقتة. وعلى إثر ذلك أقيمت لجنة وزارية لشؤون الجندي المتدين، وقدم الوزراء المتدينون وأعضاء الحاخامية الرئيسية توصية دعت إلى جمع الجنود المتدينين الذين خدموا في أذرع الجيش الإسرائيلي المختلفة، في وحدات متدينة منفصلة، وذلك تفاديا لوقوفهم أمام اختبارات ومواقف صعبة. وقد نالت هذه التوصية تأييد وزراء اليسار أيضا، اعتقاداً منهم بأن الجيش الإسرائيلي، العلماني في غالبيته، سيعفي نفسه بهذه الطريقة من ضرورة انتهاج نظام ديني عام. غير أن الاقتراح واجه معارضة شديدة من جانب الحاخام شلومو غورن، الذي لم يرغب في خلق "غيتو" للجنود المتدينين في الجيش، واعتقد أن مثل هذا الوضع سيؤدي إلى التنازل عن سن قوانين دينية، والتنازل عن تكريس نمط حياة دينية ملزم في الجيش بأكمله. وقد أيد بن غوريون موقف الحاخام غورن، مما مهد الطريق للتشريعات الدينية في الجيش الإسرائيلي، والتي وجدت تعبيرا لها في أوامر وتعليمات هيئة الأركان العامة، والتي كانت موجهة لجميع جنود الجيش وليس للجنود المتدينين فقط. وقد كتب الحاخام غورن في تقديم لكتاب فلنر: "إنه لشرف للسرية المتدينة أن تكون أول من شق الطريق للمحافظة على تعاليم وفروض التوراة في الإطار العسكري... وقد برهنت بذلك على إمكانية دمج الأمن العسكري مع الأمن الديني- الروحي".
وذكر فلنر في كتابه: في تلك الفترة تشكلت لجنة "عينت نفسها"، وبدأت بالعمل كـ "خلية سرية" داخل منظمة "الهاغناه" من أجل إيجاد حلول للمشاكل الدينية. وقد طالبت اللجنة، التي كان البروفسور يشعياهو ليبوفيتش أحد أعضائها، بعدم الاكتفاء بالشعبة الدينية، التي أقيمت في إطار "الهاغناه" في القدس، بل بوجوب إنشاء سرايا خاصة للجنود المتدينين وفي أعقاب ذلك تشكلت السرية المتدينة، والتي ضمت أيضا فصيلة كبيرة للفتيات المتدينات. كذلك كانت هناك رغبة أيضا في إقامة شعبة دينية في إطار كتائب "البلماح" في القدس، الأمر الذي رفضته القيادة في البداية، لكنها عادت ووافقت عليه. وقد ضمت سرية "البلماح" المتدينة في القدس في صفوفها عناصر صهيونية- دينية إلى جانب عناصر من المتدينين الحريديم.
ويشير فلنر إلى أن مجمل المشاكل الدينية أدى بالعناصر المتدينة إلى الإقرار بأن وجود وحدات ثانوية متدينة بصيغة فصيل أو فرقة عسكرية لا يشكل حلا كاملا.. وهكذا طرح الاقتراح بشأن إقامة سرية متدينة باعتبار ذلك يشكل إطار الحد الأدنى الذي يتمتع - ضمن الأطر العسكرية- بقدر نسبي من الإدارة الذاتية. ويمكن القول إن أفراد الوحدات المتدينة في القدس، رسموا الطريق لإقامة وحدات عسكرية متدينة في سائر أنحاء البلد. ويقول فلنر إن عدداً من أفراد السرايا المتدينة، أصبحوا فيما بعد قادة كبار في الجيش الإسرائيلي، ومن بين هؤلاء الحاخام شلومو غورن، والجنرال احتياط حاييم هرتسوغ. ويضيف أن مخاوف المعارضين لإقامة السرايا المتدينة، من أن تتحول إلى وحدات منغلقة على نفسها، كانت في غير محلها، كما اتضح لاحقا، إذ نشأت علاقات ودية بين مختلف الجنود والقادة والوحدات، ولم يكن هناك شعور بالانغلاق، وإنما شراكة في القيم الأساس لمنظمة "الهاغناه".
يقول الحاخام غورن: إن طريقة تركيز الجنود المتدينين في فصائل وسرايا شكلت مشكلة صعبة بالنسبة إلي، حين أردت وضع أسس الخدمات الدينية في الجيش الإسرائيلي في إطار الحاخامية العسكرية الرئيسية. فقد رأيت في هذه الطريقة خطراً مزدوجا: أولا، إقامة غيتو للجندي المتدين في الجيش، وثانيا، التنازل عن التشريعات الدينية وعن إرساء نمط حياة ديني ملزم في الجيش بأكمله..
ويضيف غورن: هذه الطريقة لحل مشكلة الدين في الجيش الإسرائيلي عبرت عن نفسها في مناقشات اللجنة الوزارية لشؤون الجندي المتدين التي شكلت في أثناء الحرب برئاسة بن غوريون، حيث طرح الوزراء المتدينون الثلاثة موقفا موحداً طالبوا بموجبه بالإيعاز فورا بتركيز الجنود المتدينين في القوات البرية والجوية والبحرية في وحدات متدينة خاصة، تحاشيا لوقوفهم أمام تجارب واختبارات صعبة.. وكما ذكر فقد أيد وزراء اليسار في الحكومة المؤقتة هذا المطلب، الذي أعربت من جهتي عن معارضتي الشديدة له. ولحسن الحظ فقد ساند بن غوريون موقفي في هذا الخصوص، مؤكدا على وجوب بذل كل جهد من أجل المحافظة على وحدة الجيش الإسرائيلي، وعدم التسبب بانقسامه إلى جيشين، متدين وغير متدين... وقد مهد رئيس الحكومة ووزير الدفاع (بن غوريون) بقراره هذا الطريق للتشريع الديني في الجيش الإسرائيلي.
هكذا بدت صورة انخراط وخدمة الجنود المتدينين في إطار قوات الأمن الإسرائيلية فيما مضى، أما كيف ستبدو صورة خدمتهم في المستقبل، فهذه مسألة مكانها في مقام آخر.
_______________________
(*) باحث إسرائيلي. هذا المقال نُشر في عدد حزيران 2013 من مجلة "كيفونيم حداشيم (اتجاهات جديدة)"، وهي لسان حال الهستدروت الصهيونية. ترجمـة خاصـة.