*واقع تطبيق القانون ينسف حدود القيود والمحاذير!*
وضعت المحكمة العليا الإسرائيلية، مؤخرا، ختم الشرعية الدستورية على قانون يسري في إسرائيل منذ العام 2007، ويثير نقاشات واسعة وتخوفات عميقة تتعلق بالرخصة الخطيرة التي يمنحها لأذرع سلطوية مختلفة في مجال الحصول على معلومات أساسية عن الأنشطة الاتصالاتية لأي من المواطنين في إسرائيل، الأمر الذي أكسبه لقب "قانون الأخ الأكبر" (في إحالة رمزية إلى شخصية رواية جورج أورويل "1984") - وهو "اسم الشهرة" الذي يُعرف به هذا القانون.
فقد أصدرت المحكمة العليا، بتركيبة سبعة من قضاتها، يوم 28 أيار الماضي، قرارها النهائي الذي ردت فيه التماسين قدمتهما إليها كل من "جمعية حقوق المواطن" و"نقابة المحامين" في إسرائيل، وطالبتا فيهما المحكمة بإصدار أمر يلزم الكنيست بإدخال تعديلات على القانون الذي سنّه، بالقراءتين الثانية والثالثة، يوم 17/12/2007 تحت اسم "قانون بيانات الاتصالات - تعديل لقانون الإجراءات الجنائية" بأغلبية 35 عضو كنيست، مقابل معارضة 5 أعضاء!
وكانت جمعية حقوق المواطن ونقابة المحامين ادعتا في التماسيهما (ثم انضم إليهما "مجلس الصحافة"، لاحقا)، اللذين قدما في العام 2008، بأن الترتيبات التي يتضمنها القانون تشكل مسّا خطيرا بحق الخصوصية الفردية بصورة غير تناسبية، فضلا عن المسّ بالمهنيين في بعض القطاعات ممن يتمتعون بالحصانة القانونية في هذا المجال، مثل الأطباء، المحامين، المعالِجين النفسيين، الصحافيين وغيرهم.
"قانون الشاباك" هو الأصل!
ويتيح "قانون الأخ الأكبر" لـ "سلطات التحقيق" في إسرائيل الحصول على بيانات الاتصالات الخاصة بالمواطنين من شركات الهواتف والهواتف الخليوية وخدمات الإنترنت، علما بأن "جهاز الأمن العام" (الشاباك) يتمتع بهذه الرخصة، وعلى نحو أوسع، بموجب قانون خاص سنّه الكنيست لهذا الغرض في العام 2002، إبان "انتفاضة الأقصى".
ويوضح القانون "سلطات التحقيق" المعنية التي يأتي هذا القانون ليكون في خدمتها، وهي تشمل: الشرطة، شرطة التحقيق العسكرية، وحدة التحقيقات الداخلية في الشرطة العسكرية، قسم التحقيقات مع رجال الشرطة في وزارة القضاء ("ماحش")، سلطة سندات الضمان (السندات المالية)، سلطة مكافحة الاحتكار، وسلطة (مفوضية) الضرائب.
وفي معرض تسويغها اقتراح "قانون الأخ الأكبر"، الذي قدمته في تموز 2006 تحت عنوان "قانون الإجراءات الجنائية - صلاحيات تنفيذية وبيانات اتصالاتية"، قالت الحكومة آنذاك إن "هذا القانون يرمي إلى تثبيت هيكلية قضائية جديرة وشاملة تتيح للشرطة، وكذا لسلطة تحقيق أخرى، الحصول على معلومات اتصالاتية وملفات من بنوك المعلومات التي في حوزة أصحاب التراخيص في مجال الاتصالات، بغية تأدية مهامها، كما هي الحال في قانون جهاز الأمن العام".
ومن بين المعلومات التي يتيح هذا القانون لهذه السلطات الحصول عليها من الشركات المذكورة: تحديد الموقع المكاني (متابعة الأثر) الذي تواجد/ يتواجد فيه مواطن ما في لحظة زمنية محددة بواسطة الرصد الخليوي، التفاصيل الشخصية الخاصة بأي مواطن/ زبون (مثل: الاسم، العنوان، رقم الهوية وطريقة الدفع التي يسدد بها حساباته للشركة)، أرقام الهواتف التي يتصل إليها والتي يُتـَصل منها إليه، مواعيد المكالمات الهاتفية ومددها الزمنية، الرسائل النصية التي يتلقاها والتي يرسلها، المواقع الإلكترونية التي يبحر فيها، رسائل البريد الإلكتروني التي يتلقاها والتي يرسلها، عنوان آي. بي (بروتوكول الانترنت) للحاسوب الذي يستخدمه وغيرها.
ويحدد القانون ثلاث طرق تستطيع الشرطة الحصول على هذه البيانات والمعطيات بواسطتها: الأولى - أمر قضائي يصدره قاض في إحدى محاكم الصلح، الثانية - أمر مباشر يصدره ضابط شرطة برتبة ليفتنانت كولونيل، في الحالات الطارئة، والثالثة - من قاعدة البيانات التي تحوّلها هذه الشركات إلى الشرطة. وقد كان من الواضح أن الطريقتين الأخيرتين هما اللتان تثيران أكبر المخاوف وتبعثان أشد القلق. ذلك أن الطريقة الأولى تضمن، ولو ظاهريا وبصورة نسبية، إلزام الشرطة بالتوجه إلى المحكمة لاستصدار أمر يتيح لها الحصول على هذه المعلومات عن مواطن ما، مع ما يستوجبه ذلك من تقديم مستندات ووثائق تثبت للمحكمة منطقية الطلب وتقنعها بضرورته، سوية مع المحاذير في مراعاة حدود الاختراق المعلوماتي ومتطلبات حماية حقوق الفرد الأساسية. ويُلاحظ أن المعايير التي تضمنها القانون لتصديق المحكمة على مثل هذه الطلبات واسعة جدا، ومن بينها: إنقاذ حياة إنسان أو حمايتها، الكشف عن مخالفات قانونية، التحقيق فيها أو منع وقوعها، الكشف عن مرتكبي مخالفات قانونية وتقديمهم إلى القضاء أو الاستيلاء على ممتلكات ومصادرتها، طبقا للقانون.
أما الطريقة الثانية (أمر يصدره ضابط في الشرطة) فإنها تجيز للشرطة الحصول على ما تريد من معلومات عن أي مواطن، من غير أي تأجيل أو تأخير، إذا رأى الضابط أنها ضرورية "من أجل إنقاذ حياة إنسان"، منع وقوع "جنحة" أو ارتكاب "جناية" والكشف عن منفذها (أي حتى بعد تنفيذها). ويكمن مبعث القلق في هذا السياق في ما تعج به التجارب الحياتية، في إسرائيل وسواها من الدول، عن استخدام الأذرع السلطوية المختلفة مثل هذه الصلاحيات على نحو تعسفي دون أية رقابة خارجية ودونما مراعاة لأدنى الضوابط أو المعايير. وهذا على الرغم مما يفرضه القانون من واجب توثيق هذه الطلبات وعرضها على المستشار القانوني للحكومة للاطلاع عليها، كل ثلاثة أشهر.
وأما الطريقة الثالثة - وهي الأكثر إشكالية وإثارة للمخاوف والقلق - فهي الخاصة بقاعدة البيانات، إذ يقضي القانون بصلاحية أي ضابط في الشرطة يخوله رئيس قسم التحقيقات والاستخبارات في الشرطة التوجه إلى هذه الشركات والحصول منها على معلومات تشمل التفاصيل الشخصية الوافية لأي زبون، بما في ذلك رقم جهاز الهاتف / الجهاز المعدني (هوية المعدات المنقولة دوليا - IMEI) الذي في حوزته أو "أي من مركّباته" - أي، التفاصيل الخاصة بشريحة "وحدة تعريف المشترك" (SIM) التي يمكن أن تشكل وسيلة لرصد المكالمات الهاتفية، مراقبتها وتعقـّبها.
ويضع القانون جملة من التقييدات والآليات التي ترمي إلى تقليص المس بالخصوصيات الفردية إلى الحد الأدنى الممكن، لكن جمعية حقوق المواطن ونقابة المحامين ادعتا في التماسيهما بأن هذه الآليات والتقييدات غير كافية، إطلاقا، وليس في مقدورها ضمان الهدف المعلن في نص القانون - أي، تقليص المس إلى الحد الأدنى الممكن. ولم تطعن الهيئتان الملتمستان أمام المحكمة العليا بدستورية القانون، ولم تطالبا بالتالي بإلغائه كليا، بل أقرتا بأهميته في تمكين الشرطة من تأدية مهامها على نحو أكثر فاعلية ونجاعة في مجال مكافحة الجريمة المنظمة في إسرائيل، وطالبتا المحكمة بالتدخل القضائي دفعا نحو تعديل ترتيبات عينية محددة يتضمنها القانون.
فقد طالبتا، مثلا، بأن لا يسري أمر ضابط الشرطة بشأن الحصول على بيانات اتصالاتية، كما ينص عليه القانون، على عاملين في مهن تتمتع بالحصانة (مثل: محام، طبيب) وذلك حماية لحقوق زبائنهم، ولا على الصحافيين حماية لمصادر معلوماتهم. وردا على هذا، قالت الدولة، في معرض دفاعها أمام المحكمة، إن القانون يقصد الحالات الطارئة التي يتوجب فيها إنقاذ حياة إنسان، مما يجعل الحصانة في سياقها غير ذات أهمية.
وطالب الالتماسان بإلغاء قرائن الإثبات التي تتمثل في معطيات اتصالاتية تم الحصول عليها خلافا للقانون. وردت الدولة على هذا بالقول إن نص القانون الحالي "يغطي هذا الأمر".
كما طالب الالتماسان، أيضا، بتقييد الصلاحيات المختلفة التي يمنحها القانون للشرطة في مجال الحصول على المعلومات واقتصارها على مخالفات أشد خطورة من تلك الواردة في النص الحالي للقانون، أي اقتصارها على "الجنايات" فقط، دون "الجنحات". وكان رد الدولة هنا أن بعض المخالفات بدرجة "جنحة"، أيضا، هي مخالفات خطيرة تستدعي معالجة قانونية. وتساءلت ممثلة النيابة العامة للدولة أمام المحكمة: لماذا يكون المس بالخصوصية في سياق مخالفة "الجنحة" دستوريا، بينما هو ليس كذلك في سياق مخالفة "الجناية"؟ وخلصت إلى القول: "بدون معطيات اتصالاتية، لن تستطيع الشرطة تأدية واجباتها والقيام بمهماتها... الملتمسون يطلبون من المحكمة سن القانون من جديد"!
المحكمة: صلاحيات ضرورية
ضمن قيود ومحاذير
في حيثيات قرارها رد الالتماسين، أكدت المحكمة العليا أن القانون "يمس، حقا، بالحق في الخصوصية"، لكنها اعتبرت أنه "في الواقع التكنولوجي الحديث، ينبغي إعطاء وزن خاص ومميز للحق في الخصوصية بكونه حقا مركبا ولمدى الحماية التي يجدر توفيرها له". وأضافت إن "إلغاء إمكانية استخدام هذه الصلاحيات - التي يقرها القانون - من شأنه أن يترك السلطات المختصة عاجزة عن القيام بالمهام الموكلة إليها، بما في ذلك مكافحة المجموعات الإجرامية التي تستخدم بدورها الوسائل التكنولوجية العصرية بصورة ذكية ومُحكمة في سعيها إلى تحقيق غاياتها".
وانطلاقا من هذا، أقرت المحكمة ضرورة "السماح للسلطات المختصة العمل وفقا للصلاحيات الممنوحة لها"، محاولة في الوقت نفسه إبراز وتأكيد القيود والمحاذير التي ينبغي اعتمادها عند اللجوء إلى استخدام هذه الصلاحيات. وقالت: "لكي يكون المسّ بالحق في الخصوصية تناسبيا، يتعين ممارسة هذه الصلاحيات على نحو يقلّص هذا المسّ، وخاصة في المجالات التي تخص المهنيين ذوي الحصانة"، وذلك من خلال "استخدام هذه الصلاحيات، سواء في المسار القضائي (بأمر من المحكمة) أو في المسار الإداري (بأمر من ضابط شرطة)، طبقا للقانون فقط وفي الحالات التي تستدعيها حاجة عينية محددة، مثل التحقيق في حادث عيني يخص مشتبها به، أو ضحية، محددين"، خلافا لوضع يتم فيه استخدام هذه الصلاحيات، الواسعة، "لأهداف عامة تتعلق بالكشف عن مخالفين وبمحاولات منع الجريمة".
كما أكدت المحكمة ضرورة "تفسير وتفعيل الصلاحية في المسار الإداري على نحو يتم فيه الحصول على معطيات اتصالاتية بموجبها بالقطّارة، في حالات قصوى فقط، لضرورة معالجة مخالفة تستوجب ذلك، وفقط في الحالات الطارئة والعاجلة جدا التي يتعذر الحصول فيها على إذن قضائي"، بحيث يكون المانع من التوجه إلى المحكمة نابعا من "ظروف تتعلق بحماية حياة إنسان أو إنقاذها، أو من ظروف قاسية أخرى". ويتعين على الجهة السلطوية التي تطلب الحصول على معلومات اتصالاتية دون إذن قضائي (أمر من المحكمة) الأخذ بالحسبان جملة من الاعتبارات، من بينها مهنة الشخص، مدى علاقته بالمخالفة، نوع المعطيات المطلوبة، مدى خطورة المخالفة وغيرها.
أما في ما يتصل بالحصول على معلومات اتصالاتية تخص الصحافيين، فقد أكدت المحكمة "أنه إذا لم يكن الصحافي مشتبها به بارتكاب المخالفة، أو لم يكن هو ضحيتها، فينبغي عدم التصديق على طلب للحصول على معطيات اتصالاتية تشمل تفاصيل حول نوع الرسالة المنقولة إليه، مضمونها، مدتها، حجمها أو أية معلومة تكشف هوية الزبون الذي شكل مصدر الرسالة إلى الصحافي، أو تلقى رسالة منه".
سعي إلى توسيع الدائرة
المخترقة أصلا
يبدو أن هذا القانون، وربما "إحساس" الحكومة المسبق بوجهة الحسم القضائي في مصير الالتماسين المذكورين أيضا، قد فتحا شهيتها على منح صلاحيات "الأخ الأكبر" للمزيد من الأذرع والسلطات الحكومية الرسمية. فقبل صدور قرار المحكمة العليا هذا بأيام معدودات، كشف النقاب عن أن وزارة العدل تعكف، هذه الأيام، على إعداد مشروع قانون جديد يهدف إلى توسيع دائرة الأذرع السلطوية المخولة، قانونيا، صلاحية الحصول على معلومات عن المواطنين في مجال المكالمات الهاتفية والمراسلات بالبريد الإلكتروني.
فبالإضافة إلى السلطات التي يحددها "قانون الأخ الأكبر" اسميا، والتي ورد ذكرها أعلاه، يسعى اقتراح وزارة العدل الجديد إلى منح هذه الصلاحيات، أيضا، لكل من: وزارة الزراعة، وزارة البيئة، سلطة حماية الطبيعة والحدائق الوطنية، سلطة الآثار والوحدة المكلفة بصيانة الأمن في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وطبقا لهذا الاقتراح، سيتاح لهذه الهيئات الحصول على معلومات اتصالاتية لأغراض التحقيقات التي تجريها، سواء بواسطة إذن قضائي أو بواسطة إذن إداري.
ويأتي هذا المسعى الحكومي على الرغم من المعلومات التي تكشفت حول خطورة الوضع في مجال تطبيق "قانون الأخ الأكبر" منذ سريان مفعوله قبل نحو أربع سنوات (في العام 2008)، والتي تؤكد أن النبوءات السوداوية التي أطلقها معارضو القانون تتحقق في أرض الواقع، على النحو الأكثر قتامة وضراوة. فقد كشف البحث الذي أجرته "لجنة القانون، الدستور والقضاء" البرلمانية، في شهر شباط 2010، حول الواقع التطبيقي لهذا القانون أن الشرطة تعمد إلى استخدام هذا القانون بصورة واسعة جدا، بمستوى مئات آلاف المرات في السنة الواحدة وبشكل جارف، تقريبا. وكشف النقاب، خلال تلك الجلسة، أن الشرطة لم تتورع عن طلب الحصول على معطيات اتصالاتية عن مواطنين، حتى في حالات المخالفات البسيطة، وهو ما لا يجيزه القانون بنصه الحالي. كما تبين، أيضا، أن حالة من الفوضى تعم في هذا المجال، وخاصة ما يتعلق بإجراءات تقديم الشرطة طلباتها إلى شركات الاتصالات لتزويدها بالمعلومات.
وتعقيبا على هذه الكشوفات، قال المحامي دوري سفيباك، الذي مثل جمعية حقوق المواطن في الالتماس، إن "الوضع الميداني يتمثل في أن قضاة المحاكم يصدّقون، في آخر الأمر، على أي طلب تقدمه الشرطة للحصول على أية معلومات تريدها".
وأكثر منذ ذلك، فقد تبين خلال الجلسة أن لشركات الاتصالات هذه مصلحة اقتصادية كبيرة في زيادة عدد هذه الطلبات الشرطية، لأنها تدر على خزينتها مبالغ طائلة من الأموال. وأظهرت الأرقام التي عُرضت على اللجنة البرلمانية في جلستها تلك أن "شرطة التحقيق العسكرية" (التابعة للجيش) دفعت لشركات الاتصالات المختلفة، خلال العام 2009، مبلغ 250 ألف شيكل مقابل طلبات الحصول على معلومات، بينما بلغ مجموع ما دفعته الشرطة لهذه الشركات في العام 2008 (العام الأول على بدء تطبيق القانون!) 12 مليون شيكل، وفي العام 2009 أكثر من 14 مليون شيكل! وتدل هذه الأرقام على غزارة الطلبات التي تقدمها الشرطة إلى هذه الشركات لتزويدها بمعلوماتها عن المواطنين.