المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • على هامش المشهد
  • 1395

تعريف:

البروفيسور أفيعيزر رافيتسكي هو أحد أبرز المفكرين الإسرائيليين في السنوات الأخيرة. وهو باحث زميل كبير في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" وباحث في قسم الفكر الإسرائيلي الذي سبق أن أشغل منصب رئيسه ورئيس معهد الدراسات اليهودية في الجامعة العبرية- القدس. وهو حاصل على "جائزة إسرائيل". وقد تعرّض مؤخرًا إلى حادث سير أصيب نتيجته بجراح وصفت بأنها بالغة أدت إلى دخوله في غيبوبة لم يستفق منها إلى الآن.

_____

 

 

(*) سؤال: كيف يمكن وصف الحرب الأخيرة؟ هل هي حرب دفاعية؟ وهل كانت هذه الحرب مبرّرة؟

 

- رافيتسكي: الحرب الأخيرة شُنَّت في أعقاب عمل عدائيّ من الخارج، ولذلك يمكن بالتأكيد اعتبارها حرباً دفاعية. لكن السؤال حسب اعتقادي ليس إذا ما كانت هذه الحرب مجازة ومبررة، وإنما السؤال هل أديرت بحكمة من حيث المصلحة الإسرائيلية، وهل جرت ضمن قيود معقولة من حيث قصف المدنيين؟ من الصعب عليّ إعطاء رد إيجابي على هذه الأسئلة.

 

(*) كيف يمكن تفسير أزمة الوعي التي نمرّ بها في أعقاب الحرب؟

 

- بديهي أن لذلك أسبابًا موضوعية، ولكن يبدو لي أن الشعور بالأزمة أشدّ وطأة، وأنه يتعدى بكثير تلك الأسباب. منذ تسعة وثلاثين عاماً ونحن منشغلون في موضوع واحد، وهو مسألة الحدود. كل شيء يدور حول هذه المسألة، فهي محور أي جدل سياسي أو عسكري، ثيولوجي أو أيديولوجي. كذلك فإن مفاهيم اليمين واليسار، ومسائل الهوية الإسرائيلية والماهية الصهيونية، تتحدّد كلها بناءً على هذه المسألة. هذا الوضع غير صحي وغير طبيعي، فهو يولد صراعاً قاسياً وانقساماً داخلياً وشعوراً بالاغتراب وعدم التوافق الأساسي اللازم. مع ذلك هناك شعور بالتضامن، كما أن الأغلبية الساحقة من الجمهور تقرُّ بالحاجة الملحة للخدمة في الجيش والانصياع لقرارات الحكومة حتى في وضع يبرز فيه بوضوح انعدام التوافق أو الإجماع.

الآن جاءت الحرب الأخيرة. هنا كان ثمة إجماع شبه تام حول أن هذه الحرب هي حرب مبررة ومشروعة، لأننا لم نكن محتلين في لبنان، ولأننا هوجمنا وأُعتديَ علينا... الخ. لذا خيل أننا عدنا إلى الوحدة القديمة التي نتشوق إليها كثيراً، وأننا عدنا إلى الواقع الماضوي الذي كانت فيه إسرائيل محقة ومتكاتفة. كان ثمة توقع بأن هذه هي ساعة شموخنا وتألقنا، وأننا سننقض معاً على أعدائنا المعتدين.

ولكننا شعرنا فجأة بالخذلان والإخفاق والعجز، الأمر الذي ولد اضطراباً في الشعور والوعي فيما يتعلق بالتوقعات. وقد ساهم الزعماء والقادة الإسرائيليون أيضاً في خلق هذا الشعور عبر تصريحاتهم التي ولدت آمالاً غير واقعية بشأن الإنجازات العسكرية. لذلك كله نشأ الشعور الثقيل بالأزمة.

 

(*) هل عدنا إذن إلى الانقسامات السابقة؟

 

- هنا نصل إلى السبب أو العامل الثاني الذي يقف خلف الشعور بالأزمة. كما هو معروف فقد سادت لدينا ثلاث نظريات مختلفة فيما يتعلق بحل الأزمة بيننا وبين الفلسطينيين: نظرية "أرض إسرائيل الكبرى"، نظرية "التسويات السلمية"، ونظرية "الانسحاب الأحادي الجانب". هناك من يعتقد أن جميع هذه النظريات منيت بالفشل، ولكنني لا أتفق مع هذا الرأي. فكل منها نجح في جانب وفشل في جانب آخر. لا يمكن القول إن نظرية "أرض إسرائيل الكبرى" فشلت تماماً في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 200 ألف مستوطن يهودي في "يهودا والسامرة" [الضفة الغربية المحتلة]؛ لا يمكن القول إن نظرية التسويات السلمية فشلت تماماً بينما توجد اتفاقيات سلام مستقرة مع مصر والأردن، ولا يمكن القول إن نظرية التجميع (الانطواء) فشلت في الوقت الذي لم تُجرَّب أو تُختبر بعد.

في السابق كان لكل واحد منا تقريباً موقف راسخ وشامل، فيما يتعلق بالحل المرغوب، أما اليوم فقد بات الكثيرون منا يعون النواقص والثغرات في موقفهم، والجزئية الموجودة في كل حل. ونحن الآن لا نعرف بوضوح إلى أين نحن ذاهبون.

حسناً أننا توصلنا إلى هذا الإدراك. نحن مطالبون الآن بإعادة تنظيم أفكارنا، وبكسر مفاهيم دوغمائية، جامدة، والاستعداد بشكل مختلف من النواحي الفكرية والسياسية والعسكرية.

ولكن بديهي أن الأمر يولد شعوراً بالارتباك والتخبط وعدم الوضوح. وعلى ما يبدو فقد أدركنا أيضاً أن جيشنا (الجيش الإسرائيلي) غير مهيأ لحرب ما بعد حداثية. لقد كان ذلك أيضاً درس محرج، لكنه ضروري، خير أن نبلغه عاجلاً من أن نبلغه آجلاً.

 

(*) هل هذا يفسّر أزمة الثقة تجاه الزعامة السياسية؟

 

- هناك توقع دائم لدينا بتوفر زعامة تُشِيعُ الثقة والاطمئنان. الناس لدينا يحنون لصورة الزعماء المؤسسين، يتوقون لزعيم عجوز ذي تجربة وخبرة و"طاهر اليدين". وهنا يتضح مجدداً أن توقعاتنا مبالغ بها في ظل عصر ما بعد الحداثة، عصر الانكشاف الإعلامي، عصر البرايمريز.

ولكن يوجد عامل متراكم آخر ولد بالتدريج عدم الثقة بالزعماء. وأقصد ظاهرة التصريحات التي يطلقها كل رئيس حكومة في اتجاه معين، قبل انتخابه، ثم تجده "ينحرف يساراً" بعد ذلك. مناحيم بيغن دعا إلى الاستيطان والبقاء في صحراء سيناء، وبعد انتخابه أعادها كلها إلى مصر؛ إسحق رابين لم يخطر بباله أبداً الذهاب إلى أوسلو؛ كذلك أريئيل شارون الذي لا داعي للتذكير بالتصريحات التي أدلى بها طوال حياته، حتى إسحق شامير لم يعط أية إشارة إلى أنه سيذهب إلى (مؤتمر) مدريد، وهل كان متصورًا أن يوافق بنيامين نتنياهو على اتفاقيات "واي ريفر" أو أن يعيد أجزاء من مدينة الخليل إلى الفلسطينيين!! هل كان متوقعاً أن يصل إيهود باراك إلى مرحلة يبدي استعداده فيها لتقسيم القدس؟!

وحتى لا تسيئوا فهمي، فإنني أعتقد أن المذكورين تصرفوا بشكل سليم في معظم تلك الحالات، ولكن أحداً منهم لم يمتلك الجرأة على الإعلان عن ذلك مسبقاً، أو الإقرار بالحقائق الواقعية قبل انتخابه لرئاسة الحكومة.

هكذا نشأ انعدام ثقة عميق بالزعيم والزعامة عامة، سواء زعماء اليمين أو اليسار.

ثم جاءت الحرب الأخيرة لتعمق ذلك بواسطة مستوى آخر من انعدام التجربة. فالزعامة تكونت من رئيس وزراء عديم الخبرة عسكرياً، ووزير دفاع يفتقر إلى الخبرة العسكرية والسياسية على حد سواء، ورئيس أركان لم يتول أبداً قيادة القسم الأكبر من الجيش، لا سلاح المشاة ولا سلاح المدرعات. كذلك لم يكن قد مضى على الكنيست سوى شهران فقط، بالإضافة إلى أنه احتوى في مقاعده على عدد كبير جداً من المستجدين على السياسة. تضافر كل هذه العوامل أوصل الشعور بانعدام الأمن والثقة بالزعماء والقادة إلى الأوج. وبالطبع فقد اجتمعت كل هذه العوامل مع أسباب عميقة أخرى لا تنبع بشكل مباشر من الحرب، ومن أجل التغلب عليها هناك حاجة لعلاج جذري، وهذا ممكن.

 

(*) كنت قد كتبت مقالة تحت عنوان "هل سيكون اليهودي رأس حربة في صراع الحضارات؟". كيف يتسق ما تحدثت به هناك مع الحرب الأخيرة؟

 

- من المؤسف أن الحرب الأخيرة عززت فقط المخاوف. فإذا كنا في الماضي قد رأينا أنفسنا نخوض صراعاً ضد فلسطينيين متطرفين، فقد جاءت الحرب الأخيرة لتضعنا في مواجهة عدوٍ آخر. اتضح فجأة أن المشكلة أكثر شمولية. الصدمة الحقيقية تكمن في فهم سيرورات إضفاء الصبغة الدينية والعولمة على النزاع.

 

فجأة ألفينا أنفسنا ليس في نزاعٍ محلي وحسب وإنما كرأس حربة في صراع حضارات، وكرأس حربة للولايات المتحدة والغرب الذي يحارب حزب الله بصفته رأس حربة لإيران والتعصب الإسلامي. يتعيّن علينا بذل كل جهد من أجل النأي بأنفسنا عن هذا الوضع. لا يجوز لنا أن نكون أداةً طيعة في يد الغرب، ناهيكم عن "حلف يهودي مسيحي". إذا كان النزاع هو نزاع عالمي وديني، وإذا كنا نطرحه على هذه الشاكلة، فقد نجد أنفسنا نقف في مواجهة ليس ملايين الأعداء وحسب، بل وفي مواجهة مليار وربع مليار عدو محتملين.

 

(*) إذاً كيف يتعيّن علينا أن نعمل؟

 

- علينا أن نتصرف بطريقتين مختلفتين وفي اتجاهين متعاكسين. فمن جهة أولى في صراع الحضارات علينا أن نخفف من تدخلنا ودورنا. من جهة أخرى علينا أن لا نصمت إزاء التهديد الذري الإيراني. هذه هي المرة الثالثة في الذاكرة التاريخية اليهودية التي نواجه فيها عدواً يعلن صراحةً عن رغبته في إبادتنا، والذي يمتلك دافعاً أيديولوجياً، وربما القدرة أيضاً على القيام بذلك. نأمل أن تُحل المشكلة بمساعدة أطراف خارجية مثل الولايات المتحدة وأوروبا أو عن طريق انقلاب يُطيح بالنظام الحالي في إيران. ولكن إذا وصلنا إلى وضع تكون فيه إيران قريبة جداً من امتلاك سلاح ذري، فإن ومن واجبنا حينئذٍ تجاه أبنائنا وأحفادنا العمل على منع ذلك بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر شنّ هجوم مباشر. في هذا الموضوع تجدني أنا "الحمامة" أنقلب إلى "صقر".

 

(*) في هذا السياق، هل يمكن الإشارة إلى أقوال البابا الذي اقتبس ما مؤداه أن الإسلام جلب فقط العنف والشر إلى العالم؟.

 

- أقوال البابا تبدو غريبة في نظري كباحث وكيهودي. فهو يقتبس كلاماً قيل في القرن الخامس عشر، مؤداه أن المسيحية هي دين العقل والمنطق بينما الإسلام دين يحض على العنف ولا يستند إلى العقل أو المنطق. ولكن كل واحدة من الديانات الثلاث تحتوي في الواقع على مذاهب وتيارات مختلفة، مذاهب عقلية وأخرى منافية للعقل. ففي اليهودية ظهر من جهة تيار الراب موشيه بن ميمون (رمبام) العقلي، وهناك من جهة أخرى تيار الصوفية اليهودية. وفي الإسلام هناك مذاهب عقلية مثل الفارابي وابن رشد وابن سينا، وهناك أيضاً مذاهب معاكسة مثل الأشعرية والغزالي، كذلك ظهر في المسيحية مفكرون مثل توما الأكويني، وظهرت من جهة أخرى تيارات غير عقلية.

هذا من الناحية التاريخية البحثية. ولكن هذا الإدعاء يبدو من زاوية الذاكرة اليهودية أكثر غرابة ونشازاً، فاليهودي التاريخي وإن اعتاد على القول إن الديانتين اليهودية والإسلامية تؤمنان في الواقع بالمعجزات، أي بالظواهر الميتافيزيقية، لكنهما لا تؤمنان بإمكانية وجود ظواهر غير منطقية، كأن يكون الإله الواحد ثلاثة، أو كأن يكون الإنسان إنساناً وإلهاً في ذات الوقت ...الخ.

 

(*) أين يقف المفكرون في لجّة الأزمة التي نمر بها؟

 

- من المفروض بالمفكر أن يقف في مواجهة الرياح التي تهبّ علينا. مهمة رجالات الفكر والأدب هي الوقوف في وجه المزاج العام الراهن، أن يتساءلوا عن النواقص التي يعاني منها المجتمع وأن يبثّوا الأمل في النفوس.

 

 

[المصدر: موقع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" على الشبكة، ترجمة "مدار"]

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات