قيمة ووقع ونتائج التحالفات بين القوائم الفاعلة بين الجماهير العربية في اسرائيل تفوق السياق البرلماني. لأن الحلبة البرلمانية ستظل أصغر من الحلبة السياسية. وهذا على الرغم مما نشهده في الممارسات الحزبية المختلفة من طغيان للمركـّب البرلماني على معظم جدول قضايانا السياسي، خلافـًا للمنطق البسيط، حيث بات الجزء يبتلع الكل الذي يفترض أنه جزء منه!
إحدى النقاط المؤسفة هي تحوّل معارك الانتخابات الى فرصتنا الأبرز للتحاور، بسبب "الكنستة" الزائدة. وكأن كل قضايانا ومناقشاتها يجب أن تمرّ عبر أوتوسترادات برلمانية. وكأن قضايا سخنين والناصرة وام الفحم والطيبة ورهط ودالية الكرمل لا يمكنها أن تلتقي سوى في محطة جانبية على الطريق المؤدي إلى الكنيست.
إنطلاقـًا من ضرورة الحدّ من هذا التورّم المتزايد في حجم الجزء البرلماني من مجمل النشاط السياسي، من المهم اعتماد الواقعية في النظرة الى الانتخابات، والتعاطي معها كوسيلة وليس كهدف. وهذا من شأنه أن يجعل التعاطي مع التحالفات يقع في نصابه الصحيح، وهو ما يتطلب كيلها بمكاييل عمليـّة تطبيقية، وليس بمفاهيم أيديولوجية من الوزن الثقيل، وبالطبع ليس بأمزجة ورواسب عاطفية من أي نوع كان. ولا يقال هذا بدافع تجريد التنافس الانتخابي من الطروحات الأيديولوجية، لا، على العكس تمامًا. فلأن الطرح الأيديولوجي يفترض به أن يحيط بدائرة واسعة من القضايا، يصبح من المضرّ اختزال الأيديولوجيات (لمن لديه!) بكامل أعماقها وتفرعاتها، وحشرها حشرًا في قضية واحدة فقط- الانتخابات البرلمانية. وتزداد خصوصية الأمر في حالة جماهيرنا العربية، التي لا تزال وحدتها ووحدة قضاياها هما الطريق الأسلم للدفاع عن حقوقها وحماية مصالحها المشتركة.
لذلك، فمن يتعاطى السياسة وينشط في قضاياها، يـُفترض به الاستعداد لإقامة تحالفات سياسية إذا كانت تخدم مصلحة زيادة تمثيل المواطنين العرب وشركائهم اليهود التقدميين، دون تشنّجات ضيقة. لأنه، في نهاية المطاف، من غير المعقول تحويل القضية السياسية العينيّة المسمّاة إنتخابات الى قضيّة يتم حسمها بغير أدوات السياسة.
اليوم، فيما نحن نقترب بسرعة لم نتوقعها نحو انتخابات 28 آذار، يجب قول الأمور بوضوح بما يخص التحالفات بين الأحزاب الفاعلة بين الجماهير العربية، وفقـًا لشكل الإصطفاف الراهن. التحالفات التي يليق بها هذا الإسم تـُقام على برنامج سياسي. لا مكان ولا وقت لاستعادة وإعادة إنتاج خصومات وضغائن قديمة مفتعلة وسخيفة، هي بحكم سقط المتاع السياسي وليس عدّته. في هذه الساعة السياسية، إضافة الى وجوب مجابهة الهجمة المتوقعة للأحزاب الصهيونية على الناخبين العرب، يجب تلافي ومنع استخراج قضايا خلافية من الأراشيف، فقدت تواريخ صلاحيتها منذ أن دارت مرّة بين الأحزاب العربية الفاعلة. هناك قضايا حسّاسة في مجتمع الجماهير العربية ترتبط بهذه الانتخابات. هناك حاجة لسلوك وقائي يمنع مسبقًا الخوض في السفاسف المنفـّرة، بهدف تركيز المعركة على القضايا الحقيقية والتقدّمية لهذه الجماهير؛ قضية السلام العادل والمساواة التامة والمواطنة المتكافئة غير المشروطة لجماهيرنا. هنا، وبشكل واضح ومباشر أطرح السؤال التالي: في سياق الإنتخابات نفسها، وسقفها والقضايا التي تدور حولها، هل هناك خلافات جديّة قائمة بين الجبهة والتجمع؟
في نظرة عامة، صحيح أن هناك فروقات وتفاوتًا في الطروحات وفي الرؤى، ولكن هذه ليست من نوعية تمنع اقامة تحالف وفقـًا لبرنامج طروحات وعمل ضمن دائرة الانتخابات البرلمانية. ولا أعتقد أن نقاشًا يطال هذا البند الصغير وذاك الملحق المقتضب في قضية ما، هو ما يجب أن يشغل الطرفان نفسيهما، وجماهيرنا، به وترك ميدان المواجهة الحقيقي – مع الأحزاب التي تؤدلج معاداة مصالح جماهيرنا أدلجةً، وتأتي اليوم لاقتناص الدعم بينها وبالتالي رفد عدائها لنا من قوتنا. فالمسؤولية الشُّجاعة تقتضي منّا هنا أمرين: الأول هو الحفاظ على البعد التسييسي لمعركة الانتخابات، وعدم السماح بأن تتحول الى تلاطم للتهجّمات المنفـّرة. الأمر الثاني هو تعزيز هيبة الأحزاب السياسية الفاعلة، عبر وضع المسؤولية الجماهيرية فوق مجموعة الحسابات الداخلية. هذا مع أن تحالفًا بين الجبهة والتجمع، في هذه المرحلة، لا يحتوي ولا يحتمل هذا التناقض.
أعتقد أن التيار الذي يمثله الطرفان يتفق على وجوب تشييد سدّ قوامه المسؤولية العليا كي يمنع سيول التشرذم من كل نوع؛ الطائفي والحمائلي والفئوي شبه القبلي، وتلك الاصطفافات العصبية التي تطل من حين إلى آخر بيننا. حجر الزاوية في هذا السدّ هو تعزيز التحالف بين القوى التقدمية الواعية لحساسية هذه المسألة. والتحالف البرلماني هو أحد أوجه هذا التحالف، وليس الوحيد.
إن هذه السنة، وفقـًا لمختلف المؤشرات والتطوّرات، ستتخذ طابعًا سياسيـًا حاسمًا. وهذا ما يتطلـّب الارتقاء الى مستوى جاد من المسؤولية، يتجاوز الأمزجة والعواطف لدى كوادر الطرفين. واجب الكوادر هو قراءة واحترام نبض وحكمة الشارع المتعطـّش لتوحيد الصفّ حول القضايا الحقيقية. فالموقف الوطني تجاه قضايا جماهيرنا وتجاه قضية شعبنا التي تقف على منعطف حاد اليوم يستدعي أصحابه انتهاك حدود هذه الخصومة المحلية أو تلك مما قالوه عنّا قبل كذا سنوات، والى آخره.. السياسة تحتاج الى أعصاب باردة وليس الى رؤوس حامية، وإلى صدور دافئة وليس إلى قلوب باردة تتفوق فيها الرواسب والأحقاد الصغيرة على المواقف الشجاعة.